الجمعة، 13 سبتمبر 2013

الاستاذعبد الباقي الشواي

 الاستاذعبد الباقي الشواي *
بقلم الاستاذ الدكتور سعيد عدنان
لا أعرف سنة ميلاده ، ولا أعرف سنة وفاته ، ولكنّي أجعل وفاته ، على نحو من التقدير، في أُخريات الثمانينيات، ولم أرَ من كتبَ عنه أو تحدثَ في شأن من شؤونه، ولم أقرأ له كتاباً أو مقالاً، ولم أشهده الاّ في قاعة الدرس !
أكان قليل الشأن حتى يُغفل هذا الاغفال؟!
أدركتُه في كلية الآداب في سنة 1975م شيخاً قد استوى الشيب على رأسه يدرّس مادة: ((الكتاب القديم)) ولم أشهده درّس مادةً سواها حتى ارتبطت به، وارتبط بها، وكأنّ غيره لا يقدر أن يؤديها على الوجه الذي برع بأدائها عليه! وكأنّه لا يريد أن يدرّس مادة أخرى، ولِمَ! وهذه مادة يلتقي فيها النحو والصرف والبلاغة والعروض، وأصوات الحروف ومخارجها، وأشياء من خفي العربية في أدبها وتاريخها، فاذا قلت إنها العربية كلّها لم تبعد عن الصواب!
لم أشهده يدرّس مادة غيرها، وعسير أن تتصوّره في درس آخر فكأنّه ما وجد إلاّ لتدريس ((الكتاب القديم))!! وكان قد أُختيرَ من الكتب القديمة الجديرة بالدراسة: ((البيان والتبيين)) وجُعل مناط ما يتعلق بهذا الدرس.
وتسأل ما تخصصه؟ ويأتيك الجواب على وجه من الوجوه : إنه نال الدكتوراه من النمسا في سنة 1959م بشيء عن ابن المعتز، لكنّك لم تسمعه يجرى ذكر ابن المعتز على لسانه، لا يذكره شاعراً، ولا يذكره ناقداً، ولا يذكره خليفة أو أميراً، وهذا عجب آخر من أمره!! وبقيت رسالته التي نال بها الدكتوراه في اللغة الألمانية، لم يترجمها إلى العربية، ولم يتحدث عنها، ولم يذكرها أحد من عارفي الألمانية بشيء، فكأنّها أُنسيتْ، وكأنه أنسيها!!
كان يدخل قاعة الدرس وهو يحمل ((البيان والتبيين)) يضمه إلى صدره، ويأخذ مجلسه ثم يفتح الكتاب على أوله ويُقرئ الطلبة، ويصحح قراءتهم، ويشرح، ويعلق، وربما انقضى الدرس كله بسطر أو سطرين من الكتاب، كان لا يغادر ((الجملة)) حتى يُحسن الطلبة قراءتها على أصول القراءة الصحيحة الفصيحة فإذا رضي القراءة، واطمأن إلى سلامتها مضى يُبيّن ما في ((الجملة)) من نُكت النحو، ودقائق اللغة في المبنى والمعنى، وما فيها من مجاز وحقيقة، ثم يستعيد القراءة، ولا يرضى أن يزلّ لسان أو يلتوي أو تخفى في نطقه حركة من الحركات أو تأتي على غير جهتها. كان سمعه يلتقط الزلل فيستعيد القراءة، ويظل يستعيدها، لا يمل حتى تلين الألسنة شيئاً وتأخذ في مجرى اللغة الفصيحة.
وربّما مضت به ((جملة)) في ((الكتاب)) إلى التاريخ فيمضي معها شارحاً مقتصداً في الشرح منبّهاً على المغزى بلحن من القول لا يريد به التصريح كلّه ولا يريد أن ينبهم المقصد، وربما اكتفى بالحوقلة! وقلّ من يفهم ما يرمي إليه في ملاحنه!
وإذا جرى الحديث إلى الجاحظ مؤلف الكتاب الذي يُقرئ الطلبة فيه، بدا أنه لا يميل اليه كلَّ الميل، وكأنّ شيئاً ما يحجزه عنه؛ هو عنده، كما عند غيره، أديب كبير، وكاتب منشيء من طراز رفيع، وآثاره جمّة الفوائد. لكنّه على هذا كلّه لا يجد من نفسه كلَّ الصغو اليه، وكأنَّ شيئاَ فيه يدفعه عنه، ولا يستطيع الطلبة أن يدركوا علّة ذلك، وهو بعيد عن التصريح عما يشين الجاحظ عنده كأنّه يخفيه في قرارة نفسه، ويخشى أن يبوح به.
وله منحى في شرح الأشعار يبدأ بالكلمات الغريبة فيزيل غرابتها بأقرب المعاني وأيسرها، ثم يعرّج على التركيب إذا انطوى على خفي من الدلالة، أو غرابة في الصياغة فيُبين عنه بألفاظ مقتصدة تقف عند طبقة المعنى الأولى ولا تتعداها إلى شيء وراءها. وكذلك يصنع بالآيات القرآنية إذا وردت، يفسّرها، ولا يذهب إلى شيء من التأويل، ويصدّ عنك إذا سألته عن القراءات القرآنية، ويرغب عن الإجابة رغبة شديدة، ترى ذلك في ملامح وجهه فتكفّ عن السؤال!
وعلمه علم العربية في أصوله المستقرة التي بناها بناته الأوائل لا يرى من مزيد عليها، ولا يظن أن بها حاجة الى غيرها ، والشعر عنده ما جاء على قالبه العربي القديم في البحر والقافية، وفي الصياغة الموسومة بالميسم العربي، ولا يُلقى بالاً إلى مستحدث فارق النهج القديم، ولا يقف عنده، ولا يسمع كلاماً فيه فاذا أُكثر عليه بالقول فيه لا يملك الاّ أن يحوقل ويسترجع، ويستعيذ بالله من الشرور!
وحبُّ العربية في سَنَنِها الرفيعة سجية فيه يسعى أن ينقلها الى طلبته ويسرّه أن يرى منهم من يحسن قراءة النص القديم على وجهه فلا ينحرف لسانه عن مجرى البيان، ويسوؤه أن تضطرب الكلمات على الألسن فتميل عن صراط اللفظ المستقيم.
وهو على علمه الجمّ لم يكتب بحثاً، ولم ينشر مؤلّفاً، ولم يسع الى ((ترقية علمية)) فلقد بقي ((مدرساً)) حتى غادر الجامعة، وكان له من علمه ما يحوز به أرفع ((الترقيات))، وما يُتيح له أن يكتب عشرات البحوث، لكنّه لم يكتب بحثاً، أو ينشئ مقالةً، وذلك عجيب من أمره لا يجد المستفهم عنه جواباً !
وتشعر أنه كان مكتفياً بنفسه، مستغنياً بها، على غير كِبْر، لا يمالئ أحداً، ولا يقترب بسبب من أسباب الدنيا من أحد رجاءَ منفعةٍ، أو اتقاء أذى. وكأنّه لا يعرف إلا درسه يؤديه بما يرضاه فإذا اكتمل الدرس انصرف إلى نفسه، وقلما كان للحوادث أثر بادٍ عليه فكأنّه ليس مما يحيط به !
وربّما تهاونت به النظرة العجلى، وربّما خفّ عند من لا يُحسن استبار الآبار فلا يدرك منها إلاّ ضحضاحها، وربّما أغفله من تتخطفه البروق، لكنّه ليس من هؤلاء في شيء لا يلتفت اليهم، ولا ينظر في ميزانهم، ولا يعلم بما يضمرون!
قال صاحبي: أيضيره أن لم يكتب، ولم يؤلف، ولم ((يترقّ)) وهو ذو العلم الناصع الساطع، وذو المنحى الرائع في تفهم الأدب القديم وإفهامه، وإني على تقادم السنين ما قرأت في ((البيان والتبيين)) إلاّ أطل عليّ من بين الكلمات !
قلت: لو كان كتب وألف لامتد علمه بين الناس ولانتفع به من لم يره!

*من صفحته الفيسبوكية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تقديم الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف* لكتاب الاستاذ جاسم عبد شلال النعيمي الموسوم ( رجال ونساء الخدمات المجتمعية في الموصل خلال العهد العثماني )

                          الاستاذ جاسم عبد شلال النعيمي يهدي الدكتور ابراهيم  خليل العلاف عددا من مؤلفاته المنشورة      تقديم  الاستاذ الدكت...