الأحد، 10 مارس 2013

مقهى عبو أقديح في مدينة الموصل

مقهى عبو أقديح في مدينة الموصل
مقهى عبو أقديح في مدينة الموصل
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
مقهى شعبي أدركته أنا كاتب هذه السطور في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي تقع هذه المقهى التاريخية في الزاوية الركنية ما بين شارع النجفي من طرفه العلوي وشارع نينوى ، وكان الطابق العلوي من البناية يحتضن مديرية معارف(التربية ) الموصل قبل انتقالها الى الدواسة ثم الى الجانب الايسر فيما بعد .
ومقهى عبو قديح معروفة وصاحبها هو (السيد ذنون بن عبّو إقديح ) واتذكره جيدا يلبس اليشماغ والعقال والزبون وكان متوسط القامة ممتلئ يتمازح مع رواد المقهى ولكن بأصول وادب وكان يتقن فن حمل اكثر من (استكان شاي ) بين يديه .
وقد وثق المرحوم الاستاذ انور عبد العزيز القاص ، والكاتب ، والصحفي الموصلي الكبير- ضمن توثيقاته الجادة للمكان في الموصل –مقهى عبو قديح فقال :" مقهى صغير لا يتسع لاكثر من خمسة عشر تختاً خشبياً متاكلا .. كالح الالوان. تداخل مع بعضه ليضّم ويتسع لاكبر عدد من الرواد وليعطي مجالا ضيقاً يمر من خلاله الزبون داخلا او خارجاً.. يقع في زاوية على شارعين: نينوى والنجفي.. اكثر رواد المقهى من الشيوخ وممن تجاوزا الستين من اعمارهم.. لغة التخاطب بين هؤلاء الشيوخ لغة خاصة لها عراقتها وعراقيتها وقيمها وتقاليدها. لغة رزينة وقورة لا تخاطب المقابل بأسمه مجرداً.. سيّد ، حجّي ، ابو كريم. اغاتي. جنابك. شرواك..
وان وجدت شاباً أو مجموعة شباب فظاهرة تبدو شاذة او غريبة على هذا المكان.. هذا شاب دفعه وألجأه المطر او لفح الحر فتراه يلتجئ للجلوس. اخر يكتب – وعلى عجل – عريضة. ثالث ينتظر انتهاء معاملة بعد ساعة في الدائرة القريبة... ازياء الشيوخ مختلفة. خاصة ما يتصل بغطاء الرأس. صحيح ان الغطاء يلف أغلب الرؤوس أو كلها. لكنه يختلف في لونه وطريقة هندسته. اما العقال (الموصلي) فهو وسط في سمكه بين العقال البدوي والجنوبي ولن تفتقد في هذه المقهى زيا قديما يتمثل بأن يعتمر البعض (بيشماغين) يلفهما على بعضهما (بلا عقال). وربما صادفك الحاج الذي تلتمع (غترته) الصفراء المطرزة بخيوط حريرية. وقد تجد (الفيس) او الطربوش الذي تنتصفه وإلى جهة الخلف (بسكوله) من حرير اسود.. جمهور المقهى خليط حضري وبدوي. من اعماق دروب المدينة وازقتها. ومن العشائر المحيطة بالمدينة.. المقهى قديم في جدرانه واثاثه شواهد على ذلك. وساعة الحائط العجوز التي تئن من ثقل الزمن ، ومن ثقل الحركة الدائمة لرقصها. حركة استمرت لنصف قرن واكثر.. المقهى غرفة واسعة. حجرة واسعة معقودة السقف مبنية بالجص. تدخل اليه من ثلاثة ابواب. كل الاشياء والمرئيات فيه قديمة متجانسة متآلفة الا ان اللافت للنظر غرابة بعض (المناظر) الموزعة على جدران المقهى والتي تصور أجمل المناطق والحدائق واحلى الاماكن السياحية في مدن اوربية مختلفة: لندن. باريس. فينا. جنيف لكنك وانت تسرح بنظرك وخيالك في هذه المرابع تسمع صوت (الغرامافون) بعلامة الكلب والف (قوان) بجانبه.وقد ذكر الاستاذ معن عبد القادر ال زكريا في مقال له جميل في موقع (بيت الموصل) الالكتروني ورابطه التالي :
https://www.baytalmosul.com
ان صاحب المقهى إبن عبو قديح اشتهر بامتلاكه أكبر رصيد من (قاونات) أي اسطوانات مسجلة باسم سيد احمد بن سيد عبد القادر الموصلي المعروف بـ(ابن الكفغ).ـ
وسيد ذنون بن عبّو قديح يسحب بين آونة واخرى اسطوانة يضعها على الغرامافون.. ذنون يؤدي ثلاثة اعمال ومهمات في وقت واحد: يقدم الشاي والماء لزبائنه، يغير الوجه الواحد من الاسطوانة كل خمس دقائق وبلا ملل وكأنه قد تحول إلى آلة يتحرك بلا وعي. ثم هو لا يغفل عن حركة الداخلين والخارجين.. المقهى لا يحوي غير الغرامافون وجهاز راديو قديم استفاد من (سماعته) في رفع صوت القوان المتهالك بصوت مطرب مريض لولا مساعدة السماعة.. قديح لا يعرف من عمره غير انه تجاوز السبعين. وان عمر مقهاه أربعون سنة واكثر. يقول عن المقهى انه كان من قبل مركزاً للشرطة. وعندما انتقل المركز. احتلت (مديرية المعارف) الطابق العلوي من المبنى. أما بالنسبة له فقد كان يعمل قبلها في مقهي يقع في شارع الثورة (شارع غازي سابقاً). وقبلها ايضاً كان يعمل (جايجي دوار). وهو يتذكر انه انتقل لهذا المقهى (سنة 1930).. وتسأله عن (قواناته) التي يعتز بها ويخشى عليها ويمسحها بخرقة – بحذر واناة – رغم ان اكثرها قد تخرم او انفطر او انثلمت منه اجزاء. وانت لا تستطيع الطعن او السخرية من (ابرة) جهازه المثلومة التي تقدم لك ضجيجاً لا تفهم منه الا مقاطع مبتورة. وان كان اللحن – واعتماداً على سماعة الراديو – يفعل سحره العجيب في نفوس الحاضرين. الصمت والهدوء سمتان بارزتان، فهؤلاء الشيوخ يرتبطون بهذه الاصوات بأكثر من احساس وأعمق من مشاعر عادية. هذه اصوات تعيد إليهم ذكريات لاصدقاء قدماء ماتوا ورحلوا، وهم لا يزالون يعيشون ويسعون على هذه الأرض. وربما تمثلت هذه الاحاسيس بالوفاء لأولئك الاصدقاء المطربين الذين كانوا اعلاماً بارزة في المدينة والذين جمعتهم مناسبات فرح ترفرف بأطيافها الحالمة لتعيد لذاكرتهم اجواء قديمة عاشوها. وان باتت ذكرى تلك الافراح شاحبة هزيلة مكلومة لقدمها فذاكرتهم الآن لا تستطيع ان تحتفظ بكل اسماء المقاهي والمطربات التي مرت عبر عمرهم المديد.. ننتقل إلى الأسطوانات (الف قوان)، اغلبها (مقامات) والرجل – سيد ذنون – وان كان يتعصب لمدينته ويضع (سيد احمد عبد القادر الموصلي) الملقب (ابن الكفغ) – بفتح الكاف وقلب الراء غيناً تبعاً للهجة الموصلية – وكذلك ابن عم سيد احمد (سيّد سليمان) ثم سليمان بن داوود يضع هؤلاء على رأس القائمة لمن يحبهم ويعشق اصواتهم وهو يقول: ان عظمة هؤلاء – وخاصة سيد احمد – ترجع إلى تأثره بطريقة النابغة الضرير المقرئ والشاعر والصوفي والملحن المبدع: ملا عثمان الموصلي. وسيد ذنون عبو قديح يفخر بان (سيد درويش) قد تتلمذ في دمشق على الملا عثمان في طريقة الغناء والتلحين وكما وجهه وأفاده" .
يقول الاستاذ ازهر سعد الله العبيدي في كتابه (الموصل ايام زمان ) وقد صدر سنة 1990 ان مقهى عبو قديح اغلقت سنة 1970 ثم هدمت عند توسيع ساحة سوق الشعارين المقابلة للمقهى .
*10-3-2013 مدونة الدكتور ابراهيم العلاف والرابط :http://wwwallafblogspotcom.blogspot.com/2013/03/blog-post_10.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سنجار ..المدينة والجبل ..........كتاب القاضي الاستاذ سلام السنجاري

سنجار ..المدينة والجبل ..........كتاب القاضي الاستاذ سلام السنجاري ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل وكثير...