السبت، 22 نوفمبر 2014

مدبولي.. شاهد على الثقافة العربية

مدبولي.. شاهد على  الثقافة العربية
كتب : محمد سيد بركة
*http://www.albayan.ae/
«لا أحد يعرف القراءة لم يمر على مكتبتي سواء من داخل مصر أو العالم العربي.. ومن جميع الطبقات.. فالدكتور والسياسي والأديب قرأوا من هنا وازدادت ثقافتهم بفضل كتبي ..» الحاج محمد مدبولي.
في الشهر الأخير من عام 2008 م، وبالتحديد (الجمعة 5 من ديسمبر 2008 م) غيّب الموت محمد مدبولي، الذي اشتهر بـ«الحاج مدبولي»، صاحب أشهر مكتبة مطلة على ميدان طلعت حرب وسط العاصمة المصرية القاهرة، وناشرها الصعيدي الأشهر، الذي بدأ بائعاً متجولاً للصحف الأجنبية، ثم تحول إلى صاحب الكشك الأشهر وعلامة أساسية للباحثين عن الكتب في القاهرة.
بدأ مدبولي حياته في بيع الصحف وعمره 6 سنوات في منطقة الدقي وداير الناحية غرب القاهرة، وبعد أن كبر فتح وشقيقه أحمد، كشكاً لبيع الصحف بالقرب من جامعة القاهرة، وانتقل بعدها إلى ميدان طلعت حرب الذي كان المثقفون المصريون يقصدون المقاهي المنتشرة حوله، وخصوصاً مقهى ريش.
وكان مدبولي علامة من علامات القاهرة. لا تكتمل أية زيارة لمثقف مصري يعيش خارج القاهرة أو عربي يزور مصر، من دون المرور بمكتبته الشهيرة، وتحميل بعض الكتب. وشاع بين المثقفين: إذا لم تجد الكتاب عند مدبولي فالكتاب غير موجود في القاهرة. وقيل عن مكتبته في لبنان والمغرب وغيرهما، إنها بورصة الكتاب، وبوصلة القارئ أو الباحث. وقالت الدوائر الثقافية في الصحف العربية، إن مدبولي وزير ثقافة العرب.
وكتبت عنه وعن مكتبته المخابرات المركزية الأميركية الـ(C.I.A)، تقريراً، وحول الكشك الصغير في بدايته قالت: إن هذا الكشك أصبح ظاهرة ثقافية رائعة للمصريين والعرب على حد سواء. ونشر التقرير في إحدى الصحف الأميركية، وكما كانت الثورة خيراً على مصر، كانت فاتحة الرزق على مدبولي في بناء دار مدبولي للنشر، التي طرح من خلالها مختلف أنواع الكتب.
مدبولي المولود في إحدى قرى محافظة الجيزة عام 1938، بدأ رحلته مع الكتب في السادسة من عمره، حيث عمل مع والده ـ الذي فقده مبكراً ـ بائعاً متجولاً للصحف، وترك تعليمه، وربما يكون فقدان الوالد والخروج من المدرسة أحد العوامل الرئيسة التي دفعته إلى التعلق بالكتاب حتى أصبح هو الحلم أو الطموح، وهو الذي غيّر مسار حياته بعد ذلك من بائع صحف في كشك صغير إلى ناشر كبير وصاحب مكتبة وسط القاهرة.
كان بائع صحف وكتب قديمة على أحد أرصفة شوارع القاهرة، وبعدها امتلك دكاناً صغيراً لبيع الصحف والكتب، واستقر به الحال في مكتبته الشهيرة في ميدان طلعت حرب، التي اكتسبت شهرة كبيرة في الوسط الصحافي المصري والعربي، وأصبحت مزاراً للمثقفين المصريين والعرب.. بل وحتى الأجانب الذين كانوا يأتون خصيصاً إليه.
بدأ مدبولي وأخوه أحمد المسيرة من ركن على رصيف ميدان طلعت حرب، ولقرب هذا المكان من قهوة ريش، أتيح له التعرف إلى المثقفين والكتاب، فبنى كشكاً في المكان نفسه، غير أن هناك حدثاً سياسياً كبيراً حوّل اهتمامات مدبولي عن المجلات والصحف إلى الكتب. ففي سنة 1956 حصلت الحرب الشهيرة من قبل فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ضد مصر (العدوان الثلاثي)، ما تسبب في هجرة الكثير من الأجانب، الأمر الذي انعكس بالكساد على عمل مدبولي وشقيقه. لكن هذا التغير لم يحبط عزيمته، فقرر تحويل الاهتمام إلى الكتب.
ومع هزيمة 1967 بدأ مدبولي في توزيع الكتب الممنوعة، ومنها قصيدة نزار قباني الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة»، التي صدر قرار بمنعها، إلا أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أتاح لمدبولي نشرها.
وكذلك نشر أشعار أحمد فؤاد نجم، ورواية «أولاد حارتنا » للروائي المصري الراحل نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 م .حتى ان الصحافي والكاتب المصري البارز محمد حسنين هيكل، اضطر إلى الاستعانة بمدبولي للحصول على الكتب من الخارج، بعد أن أبعده الرئيس الراحل محمد أنور السادات عن صحيفة الأهرام وجميع المناصب التي كان يشغلها.
وأتاحت فترة الستينات لمدبولي فرصة الاطلاع على متطلبات السوق، للكتب الماركسية والوجودية والمسرحية. فبدأ بترجمتها ونشرها وتوزيعها.
وكان مدبولي يعتبر نفسه ناصرياً، بل جندياً من جنود عبدالناصر، إلا أن هذا لم يمنعه من توزيع كتب معارضة للرئيس المصري؛ لأنه اعتبر أن توزيع مثل تلك الكتب حق للقارئ.
اعتبر عدد كبير من المثقفين أن مصر فقدت برحيل محمد مدبولي أو «الحاج مدبولي»، قامة كبرى وواحدًا من أكبر وأهم الناشرين في الوطن العربي.
يقول الكاتب إبراهيم أصلان: إن مدبولي كان ناشرًا استثنائيًا طوال حياته، حيث كان يعتمد علي إحساسه بالقارئ ويعرف كيفية انتقاء الكتاب الذي أمامه فرصة للرواج لينشره، وقلما خاب إحساسه هذا، كما أنه كان يؤكد بوجوده أن الخبرة المباشرة في عالم الكتب أهم كثيرًا من أي شيء آخر. رحم الله مدبولي فقد كان وسيظل علامة في حياتنا الثقافية..
وقال عنه الشاعر الراحل نزار قباني: «إحنا بنحب مدبولي عشان هو بيحب الكتاب ويتعامل معاه كإنسان».
وقال عنه بعض الحكام والمسؤولين العرب: تعلمنا في مكتبة مدبولي مثلما تعلمنا في جامعة القاهرة، وأحيانًا كنا نستعير الكتاب أو الرواية، بل نقترض منه بعض المال حتى تصلنا التحويلات من أهلنا. وعده الكاتب بهاء طاهر جزءًا من تاريخنا وجزءًا من تاريخه الشخصي. أما الكاتب جمال الغيطاني، فيرى أن رحيل مدبولي ليس خسارة ثقافية فقط، وإنما خسارة شخصية.. كما أنه كان حريصًا طوال حياته على نشر ثقافة هذا البلد في الخارج.
أما الكاتب يوسف القعيد فاعتبر أن الحركة الثقافية المصرية والعربية خسرت برحيل الحاج مدبولي خسارة فادحة. وأكد الكاتب فؤاد قنديل أن مدبولي كان واحدًا من عشاق الكتب. وهي سمة نادرة في الناشرين، حيث كان يوزعها بحب شديد، وعندما يدخل مكتبته زبون ليشتري كتاباً كان يقابله بامتنان واعتزاز شديدين، ليس لكونه تاجر كتب أو ناشر، وإنما لكونه عاشقًا للكتاب وكاتبه ومن يريد قراءته.
بينما قال عبدالمنعم الحفني، الأديب والمترجم الكبير والحزن العميق يعتريه: إن فضله على أجيال القراء المصريين والعرب يتجاوز قيمة النشر إلى التأثير في وجدان القارئ، وإنه كان يثرى الثقافة بما يقارب 200 عنوان لكتب جديدة سنوياً، وهو ما لم تفعله أي دار نشر حكومية معنية بالثقافة وآدابها.
كان أول كتاب نشره الحاج مدبولي في حقل الترجمات، «دراسات مترجمة عن مسرح العبث»، ترجمها عبدالمنعم حفني، وليظل معه بعد ذلك ويشترك في ترجمة ما لا يقل عن 80 كتاباً، كما نشر مدبولي الأعمال الأولى لأدباء الستينات خلال القرن الـ20 في مصر. ومن بينهم جمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد عفيفي مطر وصلاح عيسى. وبدأ في توزيع الكتب الصادرة عن دار الآداب اللبنانية التي كانت تمثل في حينها، أهم دار عربية للنشر. كما قام بتوزيع أعمال نزار قباني وغادة السمان وغيرهما من كتاب دار الآداب. كذلك نشر أعمال أحمد فؤاد نجم.
ورغم بساطة تعليم الحاج مدبولي، إلا أنه كان ناجحاً في تسويق بضاعته الأجنبية، وقال في أحد حواراته الصحافية: أنا لم أدخل المدارس النظامية نهائياً. ولكن علّمتُ نفسي بنفسي، وقررت أنه يجب عليّ تعلم اللغات التي أحتاجها في مجال عملي، وهذا ما حصل بالضبط. وبدأت مسيرتي في تعلم اللغات الأجنبية بعد ثورة يوليو بسنتين.
لم يكن مدبولي شاهداً فقط على المعارك الثقافية بين مختلف التيارات الفكرية التي عاشتها مصر في خلال العقود الستة الماضية، ولكنه كان شاهداً أيضاً على أزمات الماضي والحاضر معاً. فكان بذاته المصرية السمراء وجلابيته الصعيدية، وبذاكرته الشعبية الثقافية، ومن موقعه بميدان القاهرة الكبرى، أهم مثقف شفوي حفظ تاريخ مصر عن ظهر قلب. فكل المثقفين الذين عرفهم ونشر لهم أفكارهم، كانوا في ذاكرته علامات فارقة استوعب تاريخها الكامل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...