جميل المدفعي 189-1958 ودوره في تاريخ العراق السياسي
ا.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
ومنذ ان كتبت رسالتي للماجستير سنة 1975 عن (ولاية الموصل.. دراسة في تطوراتها السياسية 1908 -1922) بإشراف الأستاذ الدكتور عبد القادر احمد اليوسف وقدمتها الى قسم التاريخ بكلية الآداب – جامعة بغداد واسم جميل المدفعي يتقافز امامي واحدا من اهم من حكم العراق خلال العهد الملكي 1921-1958 وكانت له سياسة خاصة به تعتمد التهدئة وتخلق أجواء الاستقرار بعد كل ازمة او حداثة يمر بها العراق خلال تاريخه المعاصر لذلك سمي ب(الاطفائية) .
وجميل المدفعي كما يقول إخواننا المصريين من بلدياتي فهو من الموصل وانا من الموصل وقد وجدت منذ أربعين سنة مصادرا تسميه جميل النينوي ويقال انه من قرية نينوى وهي بقايا العاصمة الاشورية الكبرى والتي تقع قبالة مدينة الموصل ويرقد الى جانبها قبر وجامع النبي يونس عليه السلام. وهناك من يقول انه من محلة باب لكش المحلة الموصلية العريقة .
من الجميل أيضا ان الأخ الأستاذ طارق يونس عزيز السراج كتب عنه رسالة ماجستير بعنوان (جميل المدفعي في السياسة العراق1908-1958 وقدمت الرسالة الى كلية الاداب بجامعة بغداد سنة 1991 كما ان الأستاذ سيف الدين الدوري كتب عنه كتابا نشرته دار ضفاف في الشارقة – بغداد .كما ان الأخ الأستاذ خالد احمد الجوال كتب عنه في كتابه الموسوم ( موسوعة اعلام كبار ساسة العراق الملكي 1920-1958 ) وصدر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد بجزئين سنة 2013 .
بالتأكيد لا يمكن ان اقف وقفة طويلة عند سيرة واعمال ومجهودات المرحوم جميل المدفعي لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. فجميل بن محمد اغا عباس النينوي كان ضابطا في الجيش العثماني كما كان والده ضابطا برتبة يوزباشي أي نقيب . كان جميل النينوي ضابطا في صنف المدفعية ومنها اخذ لقبه المدفعي .كانت امه من البو مفرج واسمها الحاجة عبطة عمر . هو من مواليد سنة 1890 وهناك من يشير الى ان زوج اخته هو الحاج سري والد العقيد الشهيد رفعت الحاج سري وكان الحاج سري آمرا لتجنيد الموصل وهو موصلي من محلة القنطرة وهو من تعهده بالعناية والرعاية بعد وفاة والده سنة 1902 .
بعد ان تخرج من المدرسة الابتدائية انتقل مع والدته الى بغداد وعاش في رعاية خاليه احمد وعلي في محلة قنبر علي قرب سوق الفضل .وفي بغداد دخل المدرسة الرشدية العسكرية وبعدها الإعدادية العسكرية ثم ارسل الى إسطنبول ودخل مدرسة الهندسة العسكرية واصبح ضابطا . وكانت دراسته في إسطنبول مرحلة مهمة من مراحل تكوينه العسكري والسياسي.
كان جميل المدفعي من الضباط القوميين العرب او من يسمون بالضباط الشريفيين أي الموالين للشريف الحسين بن علي شريف مكة والذي قاد الثورة العربية الكبرى سنة 1916 وخلال الحرب العظمى 1914-1918 شارك جميل المدفعي في الحرب ومن قبل ذلك سنة 1913 في حرب البلقان ضمن الجيش العثماني وقد اسره الحلفاء ونقل الى الهند لكنه هرب والتحق بجيش الثورة العربية واشترك مع الأمير فيصل بن الشريف حسين في تحرير دمشق وتأسيس المملكة السورية المتحدة والتي توج عليها الأمير فيصل ملكا وتولى جميل المدفعي منصب الحاكم العسكري على عمان بالأردن وكان جميل المدفعي مع نوري السعيد وعلي جودت الايوبي وعدد من الضباط القوميين عضوا في جمعية العهد العسكرية التي كانت تعمل سرا من اجل استقلال البلدان العربية عن الدولة العثمانية وبعد وقوع العراق تحت الاحتلال البريطاني 1914-1918 قاد المقاومة ضد المحتلين بإسم(الهيئة الوطنية ) لادارة الحركات الوطنية في العراقية واحتل مع عشائر تلعفر والعشائر العربية قلعة تلعفر ورفع علم الثورة العربية عليها في الرابع من حزيران 1920 وقد انطلق مع رفاقه من دير الزور ودخل تلعفر واعلن نفسه قائدا للقوة الوطنية وكان برتبة عقيد .
وبعد فشل حركة تلعفر واستخدام المحتلين القوة والبطش بحق من انتمى للثورة واشترك فيها ، عاد الى شرقي الأردن فعينه الأمير عبد الله متصرفا على الكرك وبعد صدور قرار العفو عنه عاد الى العراق واصبح متصرفا على المنتفك وبعدها في الديوانية ومن ثم في ديالى وعين متصرفا لبغداد سنة 1930 وقد اختاره رفيقه نوري السعيد ليكون وزيرا للداخلية في وزارته الأولى.
في 9 تشرين الثاني 1933 شكل الوزارة لأول مرة وبعدها شكل ستة وزارات .كما اختير ليكون عضوا في مجلس الاعيان في 2 كانون الأول 1955 وفي الأول من كانون الأول سنة 1957 انتخب رئيسا لمجلس الاعيان وفي 26 تشرين الأول سنة 1958 أي بعد ثلاثة اشهر من قيام ثورة 14 تموز 1958 توفي رحمه الله .
من النقاط المهمة في حياته يقول الأخ الدكتور مليح إبراهيم صالح شكر ، وكان المدفعي صديقا لوالده جميل المدفعي، كان انسانا وفيا وجادا ودؤوبا ومتميزا على اقرانه وأضاف:" ان جميل المدفعي اصبح رئيساً للوزراء لأول مرة قبل ان يتولى ياسين الهاشمي المنصب في 17 آذار 1935 ، وتولى جميل المدفعي رئاسة الوزراء سبع مرات في العهد الملكي بين سنتي 1933-1953، وترأس مجلس النواب ، وشغل مناصب وزير الداخلية ، ووزير الدفاع في عدد من الوزارات الأخرى..." .
وأضاف يقول:" ان والده الصحفي المقتدر المرحوم الاستاذ إبراهيم صالح شكر كان قد كتب سلسلة مقالات عن عدد من الشخصيات السياسية والادبية في العراق ونشرها في جريدته ( الزمان) ، وإحداها في العدد الخامس يوم الجمعة 29 تموز 1927 بعنوان ( من هو؟) ، قال فيه عن جميل المدفعي : ( ملء روحه الشهامة ، وملء نفسه الإباء، وملء حديثه الصدق ، وملء قلبه محبة شعبه وخدمة أمته. يزيّن جهاده الإخلاص المملوء رجولة، ويزيّن رجولته الوقار الرزين المملوء إخلاصاً، هو صفحة وضاءة في تاريخ وثبة العرب إلى الحرية والاستقلال، وهو سيف بتار في ميدان الجهاد الوطني الصادق. له الوثبات اللامعة المعروفة، والوقفات الباسلة المشهورة، والعزمات الماضية الصادقة، والنضال الصارم المشكور. ما غمزت بهارج ( المنصب) قناته الصلبة القويمة، وما صدته زخارف ( الكرسي) عن الواجب الذي تتطلبه مصلحة البلاد في الأبرار من أبنائها. ولما وجد التضحية بالنفس في سبيل ذلك الواجب ضرورية لحياة البلاد التي تغذى حبها وشرب الإخلاص لها جازف بنفسه في سبيلها، وخاطر بروحه في إنقاذها، لولا ان العزة أبت إلا أن تحفظ تلك النفس الوثابة، وتحرس تلك الروح الطاهرة الزكية، رحمة بهذه الأمة المصابة( بقلة المخلصين) لها في هذه الديار. ما أتعبته ( المشقات) الكثيرة في النضال عن حرم أمته، وما أرهبه شبح الموت الماثل في الذب عن حياض وطنه، فحيث حل حلت معه الوطنية الصادقة، وحيث توجه سار معه الإخلاص النزيه. * * * لقد عرفته شاباً ملء أهابه القوة والنشاط، وقد عرفته جندياً تلمع البسالة في قوته ونشاطه، وقد عرفت عنه في ميدان الثورة العربية ، فعرفته بطلاً ينهزم الموت متهيباً نزاله، خائفاً طعانه. يفض العمل الصامت المثمر، ويتجنب الضجة في ذلك العمل، أما أنه لم يستطع أن يقوم بكل ما يتطلبه من ( الأعمال) التي تطمئن إليها نفسه ، وترتضيها واجباته لبلاده، فذلك لأن البلاد في وضع لا يمكنه من القيام بما عليه من قسط وافر لهذه البلاد. وهو متفائل في المستقبل، ويرى فيه لأمته ابتسامة تبهج النفوس الكريمة الحساسة بضرورة الحياة، إذا كان رائد تلك النفوس الإخلاص في العمل لهذه البلاد الناهضة إلى فك القيود ، وكسر الأغلال، ومتى كان رائد النفوس الشاعر بضرورة الحياة غير ذلك ؟ تعجبك فيه الوداعة، وتكبر منه الغضبة، أما أخلاقه فأخلاق العرب الخلص، وأما شعوره ففياض بالحياة التي يرتضيها واجب الأمم الواثبة المستقلة. أصدقاؤه كثيرون ، كلهم يحترمون فيه الإخاء الصادق، وأعداء بلاده كثيرون أيضاً، وهم أعداؤه ( طبعاً) ، ولكنهم يكبرون فيه العداء المملوء جرأة وشهامة. الطيبة شائعة في قلبه، والشجاعة سجية فيه، والإخلاص فطرته، أما الوفاء والحزم والثبات فذلك ديدنه، وأما النخوة والمروءة والاستقامة فذلك وهذه ما عرف بهما وبهما أشتهر. يغبط فيه المخلصون الأحدوثة الطيبة ، أما المهتمون ب( المبدأ) فيحسدون فيه الماضي المجيد. والذين يأملون في المستقبل خيراً لهذه الأمة يعقدون عليه آمال الأمة الباسمة، وهو موضع ثقة، ومحط الآمال الطيبة الزاهرة. والآن أعلمت من هو ؟ هو جميل بك المدفعي، وكفى" .
رحم الله جميل المدفعي أبا سعد وطيب ثراه وجزاه خيرا على ماقدم اجتهد فأصاب وأخطأ وهكذا هي الحياة محاولات يبذلها الانسان من اجل نفسه ووطنه وامته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق