الأحد، 4 يونيو 2023

أُستاذ موصلي في أول كلية للهندسة في مصر 1816*


 

أُستاذ موصلي في أول كلية للهندسة في مصر 1816*
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل
حين تولى الضابط العثماني محمد علي باشا ولاية مصر بعد خروج المحتلين الانكليز سنة 1805 ، كان ذلك بإرادة الشعب المصري . وكان محمد علي باشا ، على علاقة طيبة مع قادة الشعب المصري ، وشيوخه ، وتجاره .
وعندما إجتمع هؤلاء في الجامع الازهر ، وعزلوا الوالي السابق ونصبوا محمد علي باشا تحدث أحد زعماء المصريين وهو السيد عمر مكرم ودعا في كلمته الى حاجة مصر الى وال يقيم الاحكام ، ويحترم العهود ، ولايبرم أمرا إلا بمشورة زعماء الشعب .
وقد اضطر السلطان العثماني سليم الثالث 1761-1808 م ، الى الاستجابة لمطالب المصريين ، واصدر فرمانا أي مرسوما سلطانيا بتعيين محمد علي باشا واليا على مصر ، وكان ذلك في يوم 13 مايس - ايار – مايو سنة 1805 .
وقد لاحظ محمد علي باشا ، وكان يتمتع بمقدرة ، ونفاذ بصيرة ، وفكر وقاد ، نزوع اتجاهات الوعي الوطني والقومي في مصر الى الاستقلال ، فلم ير بدا من ان يساير ذلك الاتجاه وادرك بأن الاستقلال يحتاج الى بناء كيان سياسي حديث ، والى جيش حديث قادر على حماية هذا الاستقلال . وكان يدرك حجم التحديات التي تواجهها مصر ، وخاصة من حيث الاطماع الدولية .
لهذا كله بدأ بمشروعه الكبير القائم على إجراء سلسلة من التغييرات في واقع مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والاداري والثقافي .
ويقينا ان ما فعله محمد علي باشا والي مصر استطاع وطوال حكمه الممتد من سنة 1805 الى سنة 1848 ان يحول مصر الى دولة حديثة حتى ان المؤرخين اليوم يطلقون عليه إسم ( مؤسس مصر الحديثة ) .
ان حكم الوالي محمد علي لمصر ، يعتبر نقطة تحول رئيسية ليس في تاريخ مصر الحديث ، وانما في كل الوطن العربي ...فمحمد علي باشا بذل جهودا جبارة في مجال تعزيز هيبة الدولة ، وتطوير اقتصاد البلاد ، وتوسيع قاعدة التربية والتعليم ، وخلق قاعدة اقنصادية متينة من خلال الاهتمام بتصنيع البلاد وتطوير الزراة وتشجيع التجارة .
وانا في هذه الحلقة ليس من اهدافي ان اقف عند اصلاحات محمد علي باشا في مصر وانما اريد فقط ان اشير الى انه ومن خلال اهتمامه بالتربية والتعليم ، استعان بمعلم موصلي ، وكان محمد علي باشا على صلة بوالي الموصل يحيى باشا الجليلي الذي كان يميل الى مصر ويريد الحاق الموصل بمصر وبلاد الشام واقامة دولة عربية قومية مركزية قوية موحدة . كما كانت له علاقة بزعماء عشيرة شمر العربية التي أيدته في مشروعه الوحدوي القومي في جعل مصر قاعدة للدولة العربية الموحدة .
الذي يهمني ان اقوله ان محمد علي باشا والي مصر وهو يضع الاسس الاولى للنظام التربوي والتعليمي اواخر القرن التاسع عشر في مصر ، ان استعان بأساتذة من خارج مصر وكانت اول مؤسسة تعليمية اسسها الوالي محمد علي باشا هي (مدرسة الهندسة ) أو المهندسخانة وذلك سنة 1816 ثم تلتها (مدرسة الطب ) في سنة 1827 .
وقد ظهرت امامه مشكلتان الاولى تتعلق بلغة التدريس والثانية تتعلق بالكوادر التي تحتاجها هذه المدارس التي اسسها .ففيما يتعلق باللغة فإن اللغة التركية كانت هي اللغة الرسمية السائدة في مصر وكان هو يريد ان تكون لغة التدريس (اللغة العربية) ، لذلك اتجه صوب الموصل ، واستعان بعدد من المدرسين الموصليين ابرزهم (حسن افندي المعروف بالدرويش الموصلي ) والذي اريد الان ان اتحدث لكم عنه علما بأن محمد علي باشا استعان ايضا بعدد من الاساتذة العرب والاتراك والفرنسيين .
لقد لفت انتباهي ، وانا اقرأ في كتاب المؤرخ المصري الكبير عبد الرحمن الجبرتي (عجائب الاثار في التراجم والاخبار ) ويقع في ثلاثة اجزاء وانتهى منه سنة 1822 ميلادية ويعرف ب(تاريخ الجبرتي ) ، وهو من اهم الكتب التاريخية التي صدرت في القرن التاسع عشر ان الوالي محمد علي باشا كان يرى ان المصريين فيهم من النجابة والذكاء والقابلية الشيء الكثير لذلك أمر
ببناء مكتب للهندسة (مدرسة) بحوش السراية (بالقلعة) ورتب فيه جملة من اولاد البلد، ومماليك الباشا، وجعل معلمهم حسن افندي المعروف بالدرويش الموصلي، يقرر لهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات، والارتفاعات. واستخرج المجهولات مع مشاركة معلم (تركي) إسمه روح الدين افندي، بل واشخاصا من الافرنج، واحضر لهم الات هندسية متنوعة من اشغال الانجليز ياخذون بها الابعاد والارتفاعات والمساحة، ورتب لهم شهريات وكساوى في السنة، واستمروا على الاجتماع بهذا المكتب، وسموه مهندسخانة، في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهيرة، ثم ينزلون إلى بيوتهم ويخرجون في بعض الايام إلى الخلاء لتعلم مساحات الاراضي وقياساتها بالاقصاب وهو الغرض المقصود للباشا.
وهذه المدرسة التي كان يدرس فيها حسن افندي الموصلي هي مدرسة الهندسة أو المهندسخانة بما فيها من دروس الرياضة والهندسة وما إليها، وتلاميذها يتعلمون مجانا وترتب لهم رواتب شهرية وكساوى ولها اساتذة من امثال حسن افندي الدرويش الموصلي وروح الدين افندي بل ومعلمين من الافرنج اي الفرنسيين .
هذا ما ذكره الجبرتي وهو يترجم لهذا الاستاذ الموصلي حسن افندي ، ومنه يؤخذ قطعا ان أول مدرسة للهندسة انشئت سنة 1816 بالقلعة، وبذلك تكون هذه المدرسة أول مدرسة عالية انشئت في عصر محمد علي، ومؤسسها موصلي هو الاستاذ حسن افندي الموصلي لان المدارس الأخرى انشئت بعد ذلك التاريخ، ويؤخذ من كلام الجبرتي ان التعليم فيها كان مجانيا، وكانت مدرسة داخلية وان الحكومة تصرف رواتب شهرية لتلاميذها.
اشار الجبرتي الى ان محمد علي باشا والي مصر ، وهو يضع مصر على عتبة العصر الحديث حاول في الثاني من اب – اغسطس سنة 1815 وبمساعدة ابراهيم اغا وهو من مثقفي استانبول ادخال ما اسماه بالنظام التعليمي الجديد ومن ضمنه تأسيس مكتب اي مدرسة سنة 1816 في حوض السرايا في القلعة اي قلعة القاهرة لتعليم عدد من (اولاد البلد ) اي من المواطنين المصريين بلغة ذلك الزمان ومماليك الباشا .
ومن الطريف ان استاذ هؤلاء هو من مدينة الموصل عاش لفترة في استانبول عاصمة الدولة العثمانية التي درس فيها هو حسن افندي المعروف بالدرويش الموصلي ، وكان معروفا اولا بتقواه ، ونزاهته ،وحسن اخلاقه ، وسعة علمه ،والتفاف التلاميذ حوله .
كان حسن افندي الموصلي يدرس ) قواعد الحساب ) ومادة الهندسة و(علم المقادير ) والقياسات واستخراج المحصولات اي الاقتصاد ...اذا كان يدرس الحساب والهندسة والاقتصاد وكان عدد تلاميذه في مدرسة الهندسة (80) ثمانون طالبا .
ونظرا لكفاءة الاستاذ حسن افندي الموصلي ، فقد قرر الوالي محمد علي باشا وكان يشرف على المدرسة شخصيا تعيينه مديرا للمدرسة ولما شعر الاستاذ حسن افندي الموصلي بضعف الطلبة باللغة العربية كتب تقريرا للوالي محمد علي باشا اقترح فيه الاستعانة بمعلمين عرب آخرين وكان من هؤلاء الاستاذ روح الدين افندي الذي تولى تدريس اللغة العربية كما تولى ادارة المدرسة بعد وفاة الاستاذ حسن افندي الموصلي سنة 1817 .
وسرعان ما إزداد الخريجون واسس محمد علي باشا (ديوان المدارس ) وهو بمثابة (وزارة المعارف او وزارة التربية ) للاشراف على نشر التعليم ووضع انظمته ومتابعة مناهجه .
وبين سنتي 1836 و1840 استكمل النظام التعليمي في مصر تشكيلاته حين اصبح في مصر مدارس ابتدائية وثانوية وعالية .كما انتهج محمد علي باشا سياسة ارسال البعثات العلمية الى دول اوربا واسس مدرسة اللغات وانشأ مطبعة بولاق سنة 1821 واصدر جريدة (الوقائع ) المصرية وازداد توجه المعلمين السوريين والعراقيين واللبنانيين الى مصر للمشاركة في النهضة التعليمية التي شهدتها مصر وكان من روادها الاوئل الاستاذ حسن افندي الموصلي الرائد المربي الذي نسيناه وها نحن اليوم نذكره ليكون مثالا على ما ينبغي ان يكون بين المثقفين والمتعلمين العرب من تواصل علمي وتبادل ثقافي نحن اليوم وبعد مرور كل هذه السنوات الطويلة أحوج مانكون اليه خاصة ونحن نواجه تحديات خارجية تستهدف هويتنا ولغتنا ووجودنا وشخصيتنا .
____________________________________
*المقال بالاصل منشور في جريدة (الحدباء ) الموصلية العدد الصادر في 12—6-2000 .كما نشر في كتاب الدكتور ابراهيم العلاف ( اوراق تاريخية موصلية) صدر عن دار الفتى –الموصل ، 2006)
السلطان سليم الثالث- محمد علي باشا -كتاب عجائب الاثار - المعلم - السيد عمر مُكرم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...