القيصاريات الموصلية القديمة
* بقلم الحاج الاستاذ عبد الجبار محمد جرجيس
(رحمة الله عليه)
تميزت الموصل بالمباني الخدمية التي كانت لها
علاقة بالأسواق الشعبية المكملة لها، ومن هذه المباني الخدمية (القيصاريات) ؛ فالقيصاريات عبارة عن اسواق لها خصوصيتها من حيث
البضائع المتداولة فيها وانواع التعامل ، فضلا عن طرازها المعماري الذي تميزت به ،
وخاصة نوعية البضائع الثمينة التي تحتويها. وحاجاتها الى الحماية وتواجد اصحابها
بالقرب منها، لذا استوجب اضافة طابق علوي من الغرف واحكام مداخلها ومن اهم
القيصاريات الباقية قيصرية البزازين (1147هـ/ 1734م) والسوق العتيق (1169هـ/1755م)
وقيصارية اسباهي بزار (1312هـ/ 1894م). تميزت هذه القيصاريات ببناءها الواسع
المسقف. وعادة تتكون من عدة دكاكين متجاورة، على شكل صفوف يقابلها صف اخر من
الدكاكين، مسقفة بوساطة العقدة وبمادة الجص، والبعض منها يكون تسقيف فنائها على
شكل جملون او سقيفة من الخشب والصفيح للوقاية من الامطار، وبرد الشتاء وحرارة
الصيف. وقد تخصصت كل قيصرية ببيع نوع واحد من الحاجيات، ويوجد في اعلى القيصرية
فتحات للتهوية ودخول النور وتتميز ببناءها
المكون للدكاكين على شكل نصف قوس، وابوابها المسماة (خبنكات) من الواح الخشب.
ويشير الرحالة ابن جبير في رحلته للموصل عام (540
هـ/1145م) وزيارته لهذه الاسواق ، فأشاد بأعمال الملك (مجاهد الدين قيماز الرومي)
الذي بنى الجامع المعروف بـ (الخضر) الآن. فيقول : "وبنى داخل البلد في سوقه
قيصارية للتجار ، كأنها الخان العظيم، تنغلق عليها ابواب من حديد تحيط بها دكاكين
وبيوت بعضها على بعض قد جلى. ذلك كله في اعظم صورة من البناء المزخرف الذي لا مثيل
له، فيما لم ارَ في البلاد قيصارية تعادلها". ولعل هذه القيصارية كانت بالقرب
من جامع الخضر في الربض الجنوبي الذي كانت الموصل تنتهي عنده انذاك.
كما يشير ايضا ان في الموصل خلال هذه الفترة ذاتها
قيصارية (قيصارية المسك)، وكان عدد دكاكينها (11) دكانا وهي داخل المدينة. وتشير
المصادر التاريخية ان في الموصل ايضا كانت (قيصارية الجامع النوري الكبير) ويعتقد
ان موقعها كان بالقرب من هذا الجامع ويبلغ عدد دكاكينها (699) دكانا وكانت عامرة
بالبضائع التجارية.
ويذكر (محمد امين العمري) : أنه كان في الموصل في
اواخر القرن التاسع عشر (10) قيصاريات . اما في الوقت الحاضر فيوجد بعض من هذه
القيصاريات بطابعها المتميز المحافظ على مكانتها التراثية السابقة، الا ان معظم
هذه القيصاريات تجدد القسم الاكبر منها واعيد بناؤها وتم صيانتها لتكون شاهدا لهذا
النوع من طرز البناء الموصلي. ومن هذه القيصاريات :
1- قيصارية اسباهي بزار :
في السابق وحسب المستندات الرسمية لهذه القيصارية
أي في بداية القرن الثالث للهجرة كانت تعرف ( سوق باب الجسر ) وبعد ذلك عرفت
باسمها الجديد في العهد الاخير من الزمن العثماني فعرفت باسم (قيصارية إسباهي بزار
) وفي مستند آخر مؤرخ في 3 تشرين الاول سنة 1310 رومية الموافق 19 ربيع
الاول1312هـ / 15 تشرين الثاني 1894م.. وبعد مرور عشر ستة من هذا التاريخ عرفت
بهذا الاسم . ونرى ان بعض المتعاملين فيها اكثرهم ممن لديهم ارتباط مع السباهي ،
او اصحاب المصالح معهم فنقصده الريفي.
يعود احتمال تاريخ بنائها الـى سنة (1114هـ /
1702م) لتشابه عناصر الريادة وفن المعمار الهندسي فيها مع عناصر البناء والهندسة
المعمارية للابنية التي تجاورها سابقا مثل (خان الكمرك) و (قيصرية البزازين) اضافة
الى انخفاض ارضيتها عن الشوارع المحيطة بها ، كما أن الاعمدة والاقواس والتيجان
وظاهرة توزيع الدكاكين والابواب ، جاءت متشابهة او متطابقة في الهندسة والبناء مع
عناصرها التكوينية .
موقعها : تقع هذه القيصارية كما هو معلوم في سوق
الموصلي الكبير وفي وسطها في منطقة سوقية مكتظة في البيع والشراء، تطل على من
الشمال على ميدان الكمرك القديم في نفس المنطقة . ومن الجنوب على سوق (البرضعجية)
الذي زال من الوجود سنة 1973 لمرور شارع الكورنيش هناك ، فهو الان قريب على ساحة
باب الطوب . وهي متكونة من جناحين الاول يتجه من الشمال الى الجنوب ويتصل به من الوسط
، والجناح الثاني باتجاه الغرب ، لينتهي بانعطاف نحو الشمال الى الطريق الموصل بين
سوق ساحة باب الطوب وساحة جسر نينوى الحالي. كانت تحتوي هذه القيصارية على (34)
دكانا داخليا و (10) مواقع (الشخيم) وثلاثة مداخل وكان لها ثلاثة ابواب الاول
باتجاه الجنوب وكان على شكل قوس من الحلان مدبب ، يطل على سوق البرضعجية المندثر ،
والباب الثاني مطل على ساحة جسر نينوى بالقرب من خان الكمرك.. والباب الثالث يقع
الى الغرب من الباب الاول فيها، ونتيجة التطورات والترميمات فان معظم معالمها زال
واصبح شيئا من الارض ..
وحل البناء الحديث بالسمنت محل الجص ، وذهب المرمر
ونقشاته الى غير رجعة وكانت القيصارية سابقا تتكون من ثلاثة اجنحة كما يلـي
:
1. الجناح الاول : يتكون من ممر وسطي تعلوه ستة اقواس
مرمرية مدببة الشكل تقوم على اعمدة رباعية بشكل قطع مختلفة الحجوم ، يصل بين
الاقواس والسقوف على شكل (عقد) بيضوية في وسطها فتحات مشبكة بالحديد لاغراض
التهوية والانارة ، وعلى جانبي الممر تتوزع الدكاكين بهيئة عقدة تاخذ شكل القوس في
المقدمة لتنتهي بشكل بيضوي في صدر الدكان ، اما ابوابها فهي على شكل (خبنكات)
خشبية بثلاثة قطع ، وامام الدكان فسحة.
2. الجناح الثاني : يقع الجناح الاول في وسطه ، ويمتد
غربا ويتكون ايضا من صفين من الدكاكين، يفصل بينهما فسحة كبيرة تتوسطها ثلاثة
اعمدة من المرمر الموصلي ، تحيط بهذه الاعمدة دكات مخصصة لعرض البضائع اضافة الى
المدخل ، تتميز هذه الدكاكين بفنها المعماري الموصلي وابوابها التراثية التي انعدم
استخدامها بعد ان ظهرت الابواب من الصفيح .
2- قيصارية السبع ابواب :
تقع هذه القيصارية في منطقة باب السراي امام (سوق
العطـارين) وهي كبيرة جدا ، مظلمة تقريبا قبل ظهور الكهرباء ومن بعدها الفوانيس
واللوكسات ، لها سبعة منافذ ابواب ولذا سميت بهذا الاسم وما زالت رغم تحديثها فان
مداخلها باقية .
موقعها : يحدها من الجهة الغربية (سوق العتمي)
تمتد جنوبا الى السوق الذي كان يعرف (بسوق الصرافين) نهاية باب السراي و تتالف من
عدة اروقة، فيها دكاكين داخلية مسقفة ، ثلاثة من ابوابها تقع على فروع القيصارية
المشرفة عـــلى (سوق العطارين) والباب الرابع والخامس على مدخل قيصارية سوق العتمي
وسوق الصرافين . اما السادس والسابع فيقعان على الطرف الشرقي لها . أي على اطراف
قيصارية ( على افندي او ما تعرف بالبزازين ) اشتهرت هذه القيصارية ببيع الاقمشة
المتنوعة ، وكانت من طابقين.. الارضي منها يحتوي على ( 100 ) دكان ومحل تجاري واخر
علوي صغير فيه قليل من الغرف مخصصة لخزن الاقمشة . جددت هذه القيصارية وذهب معظم
العمائر الفنية والابواب الخشبية فيها وارضيتها كانت غير مبلطة ولها عدة سقوف
ونوافذ للتهوية والانارة .
3- قيصارية القزازين :
كانت تقع بالقرب من جامع الباشا في نهاية سوق باب
السراي . منخفضة عن الارض ، وقف لجامع الباشا مع حمام العطارين وقهوة القزازين
المندثرة ،
هدمت هذه القيصارية وذهبت معالمها الانشائية ، كان
لها ثلاثة ابواب اثنان منها مطلان على سوق العطارين والثالث ينفذ الى سوق السراي،
كانت فيها عدة دكاكين ، البعض منها كان لصناعة العقل وكان الشيخ ابراهيم القزاز
يعمل فيها الطرابيش جمع طربوش وهو الفيس ، لاتزال هذه القيصارية موجودة بحلتها
الجديدة حيث انعدم فيها الجانب التراثي واصبحت مجرد دكاكين لبيع المواد
.
4- قيصارية العبدالية :
تقع بالقرب من جامع العبدالية الحالي في مدخل باب
السراي من جهة شارع غازي امام سوق الصياغ نصف هذه القيصارية وقفا للجامع المذكور ،
والنصف الاخر مخلد وقف على المدرسة الاحمدية قرب سوق الصياغ القديم وكان فيها
سبيلخانة لماء الشرب المجاني ومكتوب عليها الابيات الشعرية
:
من سبيل شراب السلسبيل
شفاء الداء للقلب العليل
لتجديد البنا أبــدال ارخ
:
تنال العفو من رب جليل
وابدال يعني الحاج عبدال بن مصطفى الذي جدد بناء
الجامع سنة (1088هـ / 1678م) لها ثلاثة ابواب الاول من جهة السوق امام مدخل باب
السراي ، والثاني يوصل الى السوق في المنطقة قرب الجامع الى شارع غازي او جامع
العبدال .. والثالث يفضي الى امام السوق في باب السراي في المكان الذي كانت تباع
فيه القهوة في السوق . فيها عدة دكاكين تباع فيها حاليا الحاجيات والالبسة
والاحذية بأنواعها .
في هذه القيصارية لم يبق فيها اثر قديم ، بل جددت
عدة مرات .. والان مجرد دكاكين عادية موقوفة ومؤجرة ليس فيها نقوش او فخائر فنية
نادرة .
5- قيصارية الشالجية :
تقع في نهاية جامع الباشا في باب السراي وهي صغيرة
نسبيا . يباع فيها الشال والاوشحة النسائية والفوط وعقال الراس ، ليس فيها فن
معماري متميز بل دكاكين عادية على شكل نصف قوس من المرمر مقببة على شكل نصف دائرة
كروية .. فيها ثلاثة منافذ او ابواب . الاول في نهاية باب السراي بالقرب من دكان
أحمد الحبار رحمه الله ، والثاني هو مدخل المصلى الوسطي والثالث يفضي الى سوق باب
السراي ، ما تزال هذه القيصارية تمارس نفس المواد ، ودكاكينها قليلة جـدا
.
6- قيصارية ايوب بك :
تقع مقابل خان الطمغة السابق الذي أُتخذ سابقا
علوه للحنطة فوق سوق الفحامين من قبل المرحوم الحاج (عبو حمو النيش) ، بناها اولا
الوزير احمد باشا الجليلي (سنة1230هـ / 1814م) استخدمت لبيع الاخشاب ، كان مكتوبا
على بابها الابيات التالية :
لمنشئها السعادة والسلامة
وطولِ العُمرِ ماعنّت حمامة
وعز دائــــم لا ذل
فيه واقبال الى يوم القيامـــة
7- قيصارية اليوزبكية :
صغيرة الحجم والبناء تقع في الناحية الشرقية لسوق
(العتمي ) وهي محصورة بين مدخل سوق الكوارين وبين مدخل ( خان الكمـرك القديم)
تتالف من طابقين الاول ارضي وفيه عشرين دكانا مستغلة من قبل تجار اليوزبكية ، وهم
الذين يتعاطون بيع السلع الصغيرة والدبابيس والابر والحاجيات البيتية ، وبعض مواد
التجميل مثل (الحمرة والاخطاط) سابقاً اضافة الى العطور ، لايوجد فيها شيء من
الناحية التراثية والفنية ، في حين ان طابقها الثاني كان متروكا
.
8- قيصرية البزّازين :
عرفت ايضا بـ (قيصرية علي أفندي) نسبة لرئيس علماء
الموصل المرحوم ابي الفضائل علي بن مراد العمري، المتوفي في الموصل عام (1147هـ/
1734م).
اما استخدام كلمة البزازين فقد جاء من ان هذه
القيصرية اشتهرت ببيع الاقمشة المتنوعة والمعروف في الموصل الذي يبيع القماش يطلق
عليه اسم (البزّاز) .
تقع القيصرية في سوق الموصل، وهي تُحد من الشمال
بالطريق الى سوق العتمي، ومن الشرق تطل على ساحة الميدان باب الكمرك القديم،
والباقي الموجود حاليا هو الاخر يحتاج الى صيانة كاملة، ومن جهة الغرب فهي تتصل مع
قيصرية السبع ابواب، ومن جنوبها الطريق المؤدي الى باب الطوب، فهي اذن تتوسط
الخانات والقيصريات، مساحتها (302) متراً مربعاً. طابقها الاول يشكل القيصرية
نفسها الذي يتكون من عدد من الدكاكين على الجانبين، يبلغ عدد هذه الدكاكين عشرون
دكتانا، والطريق بين الدكاكين مُسقّفاً. لها بابان الاول من الداخل، والثاني يفضي
الى ساحة باب الكمرك. هذا السقف مسقفا بوساطة المناطق وعُقد مربوطة بسبعة اقواس
مرمرية، معظمها نصف دائرية، وتتركز
هذه الاقواس على تيجان مرمرية مبسطة ، كما جاء في
كتاب العمائر الخدمية في الموصل (الجزء الثاني) . مبسطة ومن ثُمّ على اعمدة مكونة
من قطع مرمرية. ويوجد فتحة في هذه العُقَد، لدخول الاضاءة والتهوية.
وفي طُرز بنائها المعمارية، مشابهة للابنية التي
بُنيت في تلك الفترة، مثل خان الكمرك والقيصريات المجاورة لها، وكان بابها الاول
واسع على شكل نصف قوس مبني من المرمر الموصلي، وهذا القوسُ مدبباً. تعرض لعدة
ترميمات أذهبت بمعظم ميزاته الفنية. كما استبدل الباب الكبير بباب آخر من المعدن.
أما بابها الثاني هو الذي يتصل من الداخل بقيصرية اسباهي بزار. كان من الحلان، ولم
يبق منه شيئا من الفن المعماري نتيجة للترميمات المتعددة التي اذهبت بمزايا هذا
الباب المعمارية والنقوشات التي كانت فيه.
وتمتاز دكاكينها بسعتها وكونها مستطيلة، مبنية على
طريقة (العُقد)، وباب الدكان كان من الخشب على شكل خبنكات من ثلاثة قطع من مادة
الالواح الخشبية، وهي الطريقة التي كانت عليها الابواب في كافة الدكاكين والابنية
القديمة . حاليا استبدلت بأبواب حديثة من المعدن. فوق هذه القيصرية توجد مقهى
البزازين.
جريدة عراقيون (الموصلية) ... العدد 554 ص6
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق