محلة الخاتونية في الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
وانا اكتب عن محلات الموصل وخاصة القديمة في الجانب الايمن ، كان لابد ان اتوقف عند واحدة من أعرق محلات (أحياء بلغة اليوم) الموصل وهي ( محلة الخاتونية ) ، وتقع في الجانب الغربي من نهر دجلة وهي قريبة من النهر، ولاتبعد عن حافته اليمنى سوى (500) متر لا اكثر وهي الى الجنوب من محلة حديثة تعود الى الثلاثينات من القرن الماضي القرن العشرين هي محلة الشفاء .
يقول المؤرخ الموصلي الكبير الاستاذ أحمد علي الصوفي رحمه الله ان محلة الخاتونية كانت تسمى ايضا ( محلة الجصاصين ) ، وكان هناك احد ابواب الموصل وهو (باب الجصاصين ) وهذا الباب يقع بين باب العمادي (عند مطبعة الجامعة سابقا في شارع ابن الاثير ، وباب الميدان عند بناية الثانوية الغربية سابقا في باب سنجار في اعلى المدينة وباب الجصاصين كان مفتوحا حتى اواخر القرن التاسع عشر وقد اغلق بعد تأسيس دائرة انحصار التبغ (الريجي) منعا للمهربين لكنه فتح بعد اعلان اعادة العمل بالدستور سنة 1908 وسمي باب الحرية وكان عامة الناس يسمونه (باب الحجارين ) ، ولايزال قسم من ابناء محلة الخاتونية يزاولون هذه المهنة ويسمون الحجارين وهناك عند باب الجصاصين جامع البنجة ( بنجة علي أي كف الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ورضي الله عنه ) ولي عنه مقال منشور .
باب الجصاصين او باب الحجارين هذا هدم عندما شرعت بلدية الموصل بهدم السور في الثلاثينات من القرن الماضي ، وباب الجصاصين وقد سألني عنه احد الاخوان كان يؤدي الى ما نسميه اليوم بالمقالع الحجرية والرخام واكوار الجص وماتزال تلك الاكوار والمقالع موجودة الى الغرب من مدينة الموصل وتسمى ايضا (مقاطع المرمر ) والمرمر هو الفرش الموصلي ومنه المرمر الازرق والمرمر الحلان .يقول الاستاذ سعيد الديوه جي رحمه الله في الجزء الاول من كتابه (تاريخ الموصل ) ان باب الجصاصين او باب الجصاصة (من الجص) هم الذين كانوا يشتغلون بقلع المرمر وعمل الجص في الاكوار (جمع كور) ولاتزال الاكوار موجودة حتى كتابة هذه السطور .وكما هو معروف فان المرمر -الحلان يكثر في القسم الشمالي الغربي من مدينة الموصل وكان يقابل هذا الباب او لعله يقابل هذا المكان وللجصاصين شأن في احكام سور المدينة او تخريبه ولما حاصر السلطان السلجوقي جاولي صاحب الموصل ( سنة 502 هجرية - 1109 ميلادية ) اغتاظ اهل الموصل وخرج الجصاصة نهار الجمعة وفتحوا الباب للسلطان محمود كما جاء ذلك في كتاب الكامل لابن الاثير .
تاريخيا الموصل مدينة الحجارين وقد ورد في كتاب ( الفتح القسي في الفتح القدسي حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس ) لمؤلفه عماد الدين الكاتب الأصفهاني (1201-1125 ميلادية ) ما نصه :" وفي هذا اليوم وصل من الموصل جماعة من الحجارين، وعدتهم خمسون رجلا، إذا اجتمعوا قطعوا جبلا. وقد سيرهم صاحب الموصل إلى القدس، للعمل في الخندق وتعميق الحفر، والقطع في الصخر. وقد سفرهم بنفقة، وجعلهم من الإحسان على ثقة. وأصحبهم بعض حجابه، ونداهم بندى سحابه. وسير مع المندوب مالا يفرقه عليهم في رأس كل شهر، ويتعاهدهم في كل يوم بتفقد بر. فأقاموا نصف سنة، وأتوا في صنعتهم بكل حسنة" .
ومن دروب الموصل وشوارعها المشهورة انذاك (درب الجصاصة أو درب الجصاصين ) وطبيعي هذا الدرب كان يؤدي الى باب الجصاصين وكان صنع الجص وهو من مواد البناء الشائعة في الموصل مع الحجر من الحرف المهمة ولاتزال هناك اسر في الموصل تحمل لقب (الحجار ) ومنهم صديقنا الاستاذ الدكتور ياسين طه الحجار عميد كلية النور الجامعة ، وصديقنا الاستاذ الدكتور ناصر عبد الرزاق الملا جاسم وكانوا حجارين أبا عن جد معروفون في الموصل وبيتهم الاصلي في محلة رأس الكور وقد علق على ما كتبته فقال :" ذكرى الجصاصين او الحجارين يعود بي الى اجدادي الذين ارتبطت بهم هذه المهنة واصبحت لقبا اصيلا لهم، كان جد جدي ملا جاسم الحجار، وابنه محمد واولاد محمد رحمة الله عليهم جميعا عبد الرحمن وقاسم وابراهيم ومحمود اسطوات في هذه المهنة، وكانت الاكوار اولا في رأس الكور وبعدها انتقلت باتجاه ما عرف بعد ذلك بدائرة الامومة والطفولة في محلة الشفاء ، وكان اهل الخاتونية يعملون بمعية محمد واولاده، ذاك زمان انقضى وبقيت ذكرى اهله..." .
ومن الحجارين عزيز محمد احمد الطائي من محلة الحويرة وايضا الشهيد اسماعيل الحجار وعبدالله مصطفى صالح الحجار وال عبد الله الحجار منطقة المحطة وهناك يحيى الحجار وغيرهم وهم اسر لاتربطهم روابط النسب وانما تربطهم المهنة وقد اشتهر اهل الموصل بانتسابهم الى المهن والحرف التي يعملون بها .
ويذكر الاستاذ الدكتور ذنون يونس الطائي في كتابه (مهن وحرف موصلية قديمة ) ان الموصل تمتاز بكثرة الاراضي الصلبة فيها والتي تكثر فيها الاحجار الكبيرة الحجم وبخاصة في المناطق المجاورة وعليه فان الحاجة للبناء وتشييد الدور والدكاكين دعت الى ضرورة جلب الاحجار الكبيرة وتقطيعها الى اصغر وحسب الحاجة واستخدامها في البناء بمختلف اشكاله ويسمى الذي يمتهن هذه المهنة (الحجار ) وهو من يعمل في قطع وتكسير الحجارة . وما تزال هذه المهنة قائمة مع تطور الادوات والالات المستخدمة في تقطيع الاحجار .
ومن الاسر التي سكنت محلة الخاتونية اسرة آل الشاروك واسرة ال قوز بكر وقد كتبت عنهم مرة وقلت " عائلة قوز بكر من العوائل العريقة في الموصل والمعروفة الان وال قوز بكر كما ورد في" موسوعة الاسر الموصلية" للصديق الاستاذ ازهر العبيدي هم بالاصل ابناء الحاج بكر بك بن الحاج محمد بك واول ما سكنوا سكنوا في محلة الخاتونية في الجانب الايمن من مدينة الموصل. . وقد قيل ان جدهم بكر كان عنيدا بحيث انه رفض اعطاء فرسه الاصيلة لاحد الولاة العثمانيين الذي ارادها عنوة . وتعني كلمة قوز goz باللغة التركية (عيون= قوز goz ) .. ومن ال قوز بكر الملا شريف بن شاكر بك بن محمد بك السوفاجي ومنهم ايضا المؤرخ العراقي الكبير المتخصص بتاريخ الخليج العربي الحديث وسفير العراق الاسبق في تركيا الصديق الاستاذ الدكتور محمود علي الداؤود وهو الان رئيس قسم الدراسات السياسية في مؤسسة بيت الحكمة ببغداد وكان يعمل في كلية الاداب جامعة بغداد وعمره الان يزيد على ال80 عاما ولي عنه مقالة منشورة في النت كما ان لديه شقيقه وهو استاذ للغة الانكليزية في مدارس الموصل الثانوية هو الاستاذ زكي علي الداؤود ولي عنه ايضا مقال منشور على النت " .
وكان في محلة الخاتونية ناعور وبقجة وقد كتبت مرة عن ذلك وقلت :" نواعير الموصل ... وقد يستغرب البعض ويقول وهل هناك نواعير كنواعير راوة وعانة وهيت والبغدادي وحماة ..؟ واقول انني ادركت في صباي عددا كبيرا من النواعير المنتشرة في مناطق مختلفة في الموصل واقصد المدينة ....نعم وكانت النواعير تنصب على آبار وعلى مساحة واسعة تتحول المنطقة الى ما نسميه في الموصل ب"البقجة " رأيت ُ بقجة في محلة الخاتونية قرب مدرستي ابي تمام الابتدائية وهي اليوم قريبة من دورة قاسم الخياط وقد تحولت البقجة (وهي بستان فيها ناعور تزرع فيها الخضراوات ) والناعور يدور من خلال وجود ثور هذه البقجة اندثرت وتحولت الى ساحة للنقليات . .
وفي محلة الخاتونية هناك (جامع الشيخ سعيد كرجية ) ، وهو من ابرز شيوخ الموصل الزاهدين المعروفين وجامع الشيخ سعيد كرجية يقع بالقرب من الجسر الخامس على جهة شارع الفاروق قبل النفق . يقول الاخ الدكتور مروان الشاروك :" الشيخ سعيد كرجية رحمه واسكنه فسيح جناته ... كان جاري في محلة الخاتونية كان له اخ شقيق يسمى ادريس على ما اذكر توفي رحمه الله في بداية الستينات من القرن الماضي وبقى الشيخ سعيد لوحدة كانت الطيور والقطط تسرح في فناء داره الكبير الذي ادخل على المتبقي من جامع الخاتونية وتأسس جامع بأسم جامع الشيخ سعيد كرجية ولي عنه حكايات لطيفة ... رحم الله الشيخ سعيد كرجية كنت كلما اذهب الى مقبرة حي الثورة اقرا عند قبره سورة الفاتحة"
من هو الشيخ سعيد كرجية هذا الشيخ الجليل الذي توفي سنة 1978 وشيع في الموصل تشييعا مهيبا وخرج الموصليون ليشيعوه الى مثواه
الاخير الرجل لم يكن انسانا عاديا بل كان معروفا بالأيمان والتقوى والورع والزهد والقربة من الله ..كتب عنه الاخ والصديق الحاج عبد الجبار محمد جرجيس في كتابه ( موسوعة علماء الموصل ) وال كرجية اسرة موصلية عريقة وهناك عائلتان تحملان اسم كرجية منهما اسرة الشيخ سعيد واسرة السيد محمد سليم كرجية وقد سموا نسبة الى فتاة من بلاد الكرج اي تركستان اختارهم جدهم ليزوجها لاحد اولاده لكنها توفيت بمرض الكوليرا فدفنت في مرقد ام التسعة في الموصل ومن ال كرجية برز من كان يبيع التبغ - التتن ومنهم الاخ الاستاذ الدكتور امجد عبد الرزاق كرجية . درس الشيخ سعيد كرجية على يد علماء كبار منهم الحاج محمد الرضواني ..درس الفقه والاصول والعقائد واللغة وعلم الكلام والمنطق ...كان عاما عاملا اشتغل بتجارة وبيع الاقمشة ....رحم الله الشيخ سعيد كرجية كان عالما جليلا طلق الدنيا وابتعد عن مغرياتها حتى انه لم يتزوج وانشغل بالعلم .
ومن الاسر في محلة الخاتونية الذين يذكرهم الاخ الاستاذ عماد غانم الربيعي في كتابه (بيوتات موصلية ) بطبعته الموسعة 2013 ( آل الاحيدب ) و(آل توحلة ) و( آل حسنكو) و(آل رحاوي) و(آل شندالة ) و( آل العريبي ) وغيرهم واعتذر عن عدم ذكر الجميع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق