كمرك الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل
وأنا اتحدث الى الاخ اللواء المتقاعد علي
ابراهيم القطان تذكرنا كمرك الموصل حيث كان والده رحمه الله يعمل فيه . وقلت له انني اتذكر الكمرك جيدا
واتذكر كل مفاصله وقلت انه كان يقع بالقرب من جسر نينوى الحديدي الذي يسميه الناس
بالجسر القديم وان الكمرك كان محاطا بالكثير من البنايات منها مقهى مصطفى الاعرج
وسوق اليوزبكية وجامع الاغوات وارضه اليوم هي شارع الكورنيش على نهر جلة من ضفته
اليمنى . وطبعا كان لابد للكمرك ان يكون على ضفة النهر لما لذلك من اهمية في
التعامل التجاري مع السلع والبضائع التي تأتي الى الموصل وخاصة الدهن والقطن
والتمور والصوف واليابسات والفواكه .
كان يوجد بجانب الكمرك خان يسمى خان الكمرك
القديم ويقع وسط الساحة المؤدية الى باب الطوب حاليا وبوابة هذا الخان كانت الى
جوا سوق اليوزبكية .
اما الخان الثاني فكانت بوابته من خلف جامع
الاغوات وقد سمي الكمرك بالكمرك لان ما يدخل اليه غالبا ما يأتي من خارج المدينة
وكان البائع في خان الكمرك يسمى ( البقال ) وهو نفسه الذي يسمى في بغداد بالعلوجي
.
ومما اتذكره عن الكمرك الذي ادركته في
الخمسينات من القرن الماضي وقبل هدمه وتغيير خارطة هذه المنطقة التي تقع في
الميدان ان الكمرك كان عامرا بكثير من المواد التي تباع فيه بالجملة من قبيل
الفواكه والبقوليات والقطن والصوف والعفص والجوز والزبيب والدهن الحر والموز
والبرتقال والتفاح والسماق ومعظم ما كان يرد خان الكمرك او سوق الكمرك كان من مدن
وقرى العراق وخاصة تلك التي تقع في شمال الموصل ومنها دهوك والسليمانية وعقرة .كما
كانت الحمضيات تأتي من لواء ديالى .
وكان اسلوب العمل في الكمرك يتم من خلال قيام
الفلاح بجلب الحاصل وبيعه للبقالين اي
لبقالي الجملة وهم بدورهم يقومون ببيعه الى تجار التجزئة اي المفرد .
فمن دهوك واقضيتها ونواحيها وقراها ومنها
صندور وكرماوة وبيره مرة واتروش وايكماله كانت الفواكه تتي الموصل لتباع وتأتي
الحمضيات من الخالص وابو صيدا وشهربان وبهرز لتباع في الموصل وكذلك تأتي من قضاء
بلد ونواحيه واهمها الضلوعية والاسحاقي والدجيل ومكيشيفة في سامراء وهناك الخضروات
التي تنتج صيفا والتي تأتي من سامراء كالخيار والطماطة والخس .كما وجدت الطماطة
التي كانت تنتج في كرمليس في قضاء الحمدانية بسهل نينوى طريقها الى كمرك الموصل .
اما بالنسبة للدهن الحر فكان يرد الكمرك من
الشمال والجزيرة هذا فضلا عن العفص الذي يستخدم في الدباغة والذي يأتي من مدن
وقصبات كردستان العراق .
كان لكل بقال في الكمرك فلاح او عدد من
الفلاحين يتعامل معه وتنشأ بين البقال والفلاح علاقات اقتصادية واحيانا عائلية
وكان الفلاح يحفظ بضاعته في صناديق خشبية معلمة بإسمه بالحبر الازرق تسمى ماركة
الصندوق .كما كانت بعض الفواكه تجلب بالسلال المحلية التي توضع فيها عناقيد العنب
والتين وكثيرا ما كان الفلاح يتفنن في وضعها بالسلال المخرطية وكان البرتقال من
ديالى وعنب بهرز ورمان شهربان كل ذلك يوضع في اقفاص انيقة ومحكمة تحافظ على
المنتوج من الضرر .
كان الحمال باشي بمجرد ان تصل العربة او
السيارة الى الكمرك يتقدم نحوها ويأخذ القائمة من الفلاح والتي كانت تسمى ب(
الستمي ) وهذا يشبه ايضا ما كان يحصل في علوة سوق الحنطة القديم وعلوة سوق الحنطة
الجديد وتوزع الصناديق او المنتوج على البقالين وكثيرا ما كان المحصول يأتي بدون
صاحبة فالثقة بين الفلاح والبقال كانت قوية وقائمة والكل يخافون الله ولايقومون
بما يخالف قيمهم واخلاقهم وسلوكياتهم الرفيعة .
وفي اليوم نفسه تعود السيارات ومن قبلها العربات الى اماكن
انطلاقها الاولى محملة بالصناديق والاقفاص الفارغة ويرسل المبلغ الذي يستحقه
الفلاح مع السائق او مع الحمال باشي ومن
هؤلاء الحمالين عبد حيو والحمال باشي
ادهام والحمال باشي عزت .
وكان لكل علوة كاتب ويوجد (الوزان ) والميزان
كان يتألف من عتلة مرقمة مع كلة من الحديد وفيها جناكيل عدد ( 2) واحدة لرفع
الحاصل وتشد بالحبل والاخرى توضع على خشبة تُحمل على الاكتاف وكانت وحدة القياس هي
( المن ) ومن اجزاءه ( الحقة ) .
كان في كمرك الموصل وزانين معروفين بالدقة
والنزاهة منهم شهاب ابو صالح وفاضل ابو عادل وسالم ابو دريد ومحمود ابو موفق ويحيى
وحبيب .
كثيرا ما كان الزبون او المشتري والبقال يعرف
اسماء الفلاحين ذوي المحصول الجيد فيميل اليهم ويشتري منهم لذلك كان السوق يتداول
اسماؤهم فهذا عنب حجي ظاهر من دهوك وهذا تفاح ابو عادل من بلد وهذا برتقال محسن
السعيدي من ابو صيدا بلواء ديالى وهكذا .
اريد ان انوه الى ما كان يسميه اهل الموصل ب(
الكب ) ويقع على الضفة اليسرى لنهر دجلة قبالة الكمرك وفي الكب يباع الشمزي (
الشمذي اي الركي )والترعوز والخيار والبطيخ . ومن الطريف ان مجلة ( العربي ) الكويتية
في مطلع الستينات ارسلت مندوبها فكتب استطلاعا مصورا عن الكب كما ترون في الصورة
المرفقة الى جانب هذا الكلام .
في كمرك الموصل القديم كانت هناك مطاعم شعبية
نظيفة وجيدة ومعروف اصحابها يتناول فيها المزارعون والفلاحون اصحاب الحاصل فطورهم
او غداءهم وكذلك يفعل البقالون والحمالون والوزانون في الكمرك ومن هذه المطاعم
مطعم باجة أتى وكباب سيد بكر وابراهيم ابو القلية وصبري ابو الكص .
وثمة تقليد كان شائعا في الكمرك وهو ان
المشتري يوزن الحاصل ويذهب لكن ما اشتراه يصله الى دكانه من خلال العربات وبعها
السيارات او الدواب من قبل ذلك وكان الكاتب يقوم بمتابعة تسديد مبالغ المواد
والبضائع المشتراة وكان الحاصل يوضع في صناديق خشبية ثم استبدلت بصناديق بلاستيكية
فيما بعد .
وكان صاحب العلوة في الكمرك يأخذ عمولته من
الفلاح اما الوزان فيأخذ اجرته من الشاري وبالدراهم في الخمسينات من القرن الماضي
.
نعم كمرك الموصل هذا ونظرا لتوسع المدينة
وبعد هدمه بسبب فتح شارع الكورنيش انتقل الى باب سنجار وعندما تم التأميم في سنة
1964 وتوجهت الدولة توجها اشتراكيا تأسست مصلحة المبايعات الحكومة فإضمحل دور
البقال كما اضمحل دور العلاف الذي كان وسيطا بين الفلاح والمشتري من الناس لكن
مصلحة المبايعات الحكومية فشلت في تجربية بيع الفواكه والخضراواتوما شاكل فشلا
ذريعا لاسباب عديدة منها عدم شعور الموظف بالمسؤولية تجاه العمل .
والكمرك اليوم هو سوق كبيرة في الجانب الايمن
من الموصل خلف حي اليرموك وبجوار حي النهروان .
واخيرا لازلنا تحتفظ بذاكرتنا بأسماء عدد من
بقالي الكمرك المشهورين منهم سيد صديق سيد زكي ويحيى التمر والد زميلنا في جامعة
الموصل الاستاذ الدكتور يسار يحيى التمر وايوب وداؤود للوه وجاسم ويحيى للوه وحميد
المختار وطه وحميد الموالي وشهاب البنيوعبو الحافظ وغانم شيت ونوري السعيد وسيد
خليل ابو الفيس وسيد احمد القدو وسليمان سيد حسين وسيد محمد فتحي وجاسم الليلة
ويونس حمودي وطه وابنه موفق الشبلي واديب الزينو ومحسن القاضلي ..ومن اشهر
البقالين الذين كانوا يشترون الحاصل من كمرك الموصل عامر كلو واسماعيل برهو وعبد الوهاب
جعية ويونس حمداوي وسعيد جمل .
هذه هي قصة كمرك الموصل يوم كانت له قصة اما
اليوم فقد اصبحت الاسواق منتشرة في الاحياء السكنية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق