ديوان محمد بن مصطفى الغلامي ............يُبعث من جديد
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
أقول ، وأنا متأكد من قولي من أن ما أراه كان حُلما ، والحُلم تحقق من خلال الأخ والصديق الأستاذ الدكتور شريف بشير أحمد . والحلم ، كان ان يكون بيننا ديوان محمد بن مصطفى الغلامي صاحب كتاب ( شُمامة العنبر والزهر المعنبر ) .أرخ لأكثر من ستين كاتبا وشاعرا ، وهو نفسه كان شاعرا لكننا كنا نفتقد ديوانه وتيسرت فرصة ان نرى الديوان بين أيدينا مجموعا ، ومحققا ، ومنشورا .
الديوان ظهر بحلة قشيبة ، وبإخراج متميز، وبجلد سميك وبواقع (515) صفحة من القطع الوزيري . صدر عن دار كفاءة المعرفة للنشر والتوزيع 2024 بالعاصمة الأردنية عمان ، فرحة لا تعادلها فرحة ، وانا اتسلم النسخة الأولى المهداة من الأخ والصديق الأستاذ الدكتور شريف بشير احمد أستاذ الادب العراقي في العهد العثماني في كلية الآداب – جامعة الموصل ، وعليها عبارات الاهداء الانيقة التي اعتدتها منه ، فاليه الشكر ، والعرفان ، والتقدير لما قام به ، وأنجزه ؛ فما أنجزه إضافة قيمة للتراث المعرفي ، ولتاريخ الادب العراقي الحديث في عصوره المبكرة .
عندما كنا نقرأ عن الشعر العراقي في القرن الثاني عشر الهجري - الثامن عشر الميلادي نجد شعرا لمحمد بن مصطفى الغلامي المتوفى سنة 1186 هجرية – 1772 ميلادية ، وكنا نأمل ان نرى ديوانا لهذا الشاعر؛ ديوانا خاصا به فالمؤرخين ينقلون منه ، ويسجلون في مصادرهم ومراجعهم ما يأخذونه عنه ، ولكن اين الديوان ؟ .وكنا نسمع عن وجود مخطوطة الديوان محفوظة في أرشيف الاسرة الغلامية الكريمة والعريقة .كان شاعرا مكثرا غزير الإنتاج ، وكان شاعرا معروفا يملأ شعره اشتاتا من المصادر والمراجع المطبوعة والمخطوطة .
كان على المحقق الكريم ان يجمع تلك القصائد في مجلد واحد لتشكل ( الديوان ) ، ولو كان الديوان موجودا مخطوطا بنسخ عدة فمهمة المحقق ستكون ايسر لأنه سوف يقابل النسخ ببعضها ، ويعتمد أساليب التحقيق وقواعده ويصل الى نتيجة ترضيه ، ولكن ان يصنع ديوانا ، فهذا مما يعقد المهمة خاصة وان ثمة تباين بين المرجعيات الثقافية والمنظومة الشعرية لمحمد بن مصطفى الغلامي ، وبعد رحلة علمية استغرت ثلاث سنوات تم انجاز الديوان الذي يعد – بحق – إضافة أدبية إبداعية للتراث الشعري العراقي في العهد العثماني الذي استغرق من القرون اربعا 1516-1918ميلادية .الديوان أيضا يُعد كما قال المحقق " تاريخا مشرقا للمنظومة الأدبية الموصلية في القرن الثاني عشر للهجرة –الثامن عشر للميلاد ، وكشفا تراثيا اصيلا للأسرة الغلامية الموصلية العريقة " .
شيء جميل ، ومفرح ان يكون شعر محمد بن مصطفى الغلامي بين ايدي القراء ، والمهتمين ، والمتخصصين ، وطلبة الدراسات العليا . والمحقق لم يتوقف على إظهار الديوان ، بل قدم مباحثا تتعلق بالانساق الثقافية في القرن ال 12 الهجري ال 18 الميلادي ، ووقف عند سيرة الشاعر وحياته ، وآراء الدارسين فيه .وجاء الديوان وفيه أولا القصائد ، وثانيا المقطوعات ، والابيات المتفرقات ، والموشحات ، والبديعيات ، والشعر المحبوك الطرفين ، والتاريخ الشعري ( بحساب الجُمّل) ، والمواليا ، وتخميس الابيات ، والمقطوعات .
قدم المحقق والمعد في خاتمة هذا المنجز المعرفي التراثي الادبي الأصيل رؤيته بشأن التحقيق ، والتأويل ، وتحليل النصوص وهذه الخاتمة تعد درسا لمن يروم التحقيق وفيها يقول ان تحقيق هذا الديوان وجمعه ودراسته وتوثيقه تعد رحلة اكاديمية ماتعة ( لايعرف الشوق الا من يكابده) ؛ فالشاعر محمد بن مصطفى الغلامي يمتلك كفاءة شعرية ، ومهارة لغوية تركيبية في البناء الشعري ، وانماط التعبير عنده متعددة ، بحيث تضطر المتلقي الى ان يتحسس مواطن الجمال والرؤى الشعرية في تلك القصائد ، ونسقها الايقاعي ، والتشكيلي .كما تجعل المتلقي على يقين بأن (المرجعية الإسلامية ) بمبادئها وافكارها ، هي ما تظهر في شعره وتتمازج مع رؤاه وقناعاته . والمرجعية الإسلامية ، والثقافة الشعرية عنده هي من اسبغت على شعره كل هذا الجمال في التعبير ، والقوة في التشكيل ؛ فهو يمتلك خزينا لغويا ، معجميا ، موسوعيا أتاح له توظيف الالفاظ توظيفا متقنا ، وزوده بمغذيات متتالية من الالفاظ التي تحمل الكثير من الدلالات ، والموضوعية .
واخيرا والقارئ ، والمتتبع ، والمهتم عندما يستغرق في قراءة الديوان سيقف عند التحولات التاريخية الزمنية المتعلقة ليس بالأحداث وحسب ، بل حتى في الشخصيات السياسية ، والاجتماعية ، والثقافية مما يجعل هذا الديوان أيضا مصدرا من مصادر التاريخ الحديث للعراق عامة وللموصل خاصة في عهد حكم الجليليين 1726-1834 ميلادية .
الشاعر محمد بن مصطفى الغلامي ، شاعر مبهر ولا استطيع في هكذا عجالة ان اقف عند شعره في هذا الديوان ، وادعو لاقتنائه ، والإفادة منه ، والتمتع بقراءته كما تمتعت انا .مثلا قال في صديقه الاديب الموصلي صالح المعمار توفي بعد سنة 1160 هجرية – 1747 ميلادية حين وافته المنية وكان مولعا بكتابة التاريخ على شواهد القبور :
مازلت َ تلهج بالتاريخ تكتبهُ *** حتى رأيتك بالتاريخِ مكتوبا
وفي احدى بديعياته يقول :
مادمتُ ابغي وصالا منهم ُ ابدا *** (والمفلسون التمني رأس مالهمُ)
وذكر الشاعر الموصل مدينة الحدباء في ابيات محبوكات قال :
هل انت يابارقَ الحدباء تخبرنا ***عمن اطلت نواحي في نواحيها
جادت به الموصل الحدباء في زمن *** به لمرقى التهاني أي مُنعرج
لابثُ في العراق يهدي شذاه ُ *** كلما هبت النسيم ُشمالا
نشره ُ فاح بالعراق ،ولكن *** افقدوني الى الوصول معيني
أبارك لأخي وصديقي الأستاذ الدكتور شريف بشير أحمد عمله الجليل ، جعله الله في ميزان حسناته ، والى مزيد من التقدم والنجاح وانا دوما أقول ان الأستاذ الدكتور شريف بشير احمد – بما انجزه وينجزه – يُعد رمزا من رموز العلم والثقافة في عراقنا الحبيب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق