السبت، 28 يناير 2023

اتجاهات حركة النهضة الحديثة في الوطن العربي ونشوء الحركة القومية العربية ا.د. ابراهيم خليل أحمد العلاف


 اتجاهات حركة النهضة الحديثة في الوطن العربي ونشوء الحركة القومية العربية

ا.د. ابراهيم خليل أحمد العلاف

استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

من كتاب (تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني 1516-1916 ) دار ابن الاثير للطباعة والنشر –الموصل  1983 طبعة 2005 الصفحات من 359-423

___________________

شهدت الفترة من 1908-1914م تنامي الوعي القومي العربي , وقد سبقت حركة الوعي القومي هذه , نهضة فكرية بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر , وشملت مختلف جوانب الحياة العربية : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . ولما كان لكل حركة قومية ان تضمن لنفسها واقعاً تعمل من خلاله , فقد اثمرت تلك النهضة الفكرية واخذ صداها يترك اثاره على الاوضاع السياسية . وسنتعرض اولاً لدوافع حركة النهضة العربية .
دوافع حركة النهضة العربية :
اشرنا فيما سبق الى التنظيمات العثمانية وما احدثته من تغيرات في الواقع الاقتصادي والاجتماعي , خاصة فيما يتعلق بحدوث انقلاب في طبيعة العلاقات الاجتماعية داخل القبيلة , وتعاون رؤساء العشائر واثرياء المدن في الاستحواذ على كثير من الاراضي الزراعية والقرى وظهور طبقة (Landlords) .
لقد ازداد الطلب على المنتوجات الزراعية والحيوانية نتيجة للتغلغل الاستعماري الاوربي في الوطن العربي وتدفق رؤوس الاموال الاجنبية نحو الولايات المتحدة العربية , واتجاه التجار الاوربيين الى جعل هذه الولايات كلها منتجة للمواد الاولية والغذائية وسوقاً لتصريف بضائعهم المصنوعة ومجالاً لاستثمار اموالهم , في اقامة المشروعات او تقديم القروض محاولين ربط اقتصادها بالسوق العالمية . وتحت تأثير ضغط الملاكين الجدد اتجه الاقتصاد في معظم الولايات العربية , من اقتصاد طبيعي يسد الحاجة المحلية الى اقتصاد التسويق القائم على الربح . وقد تفاوتت الولايات المتحدة العربية في حجم التطور الذي حصل في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة , لعوامل جغرافية وتاريخية . كما سبق ان قدمنا فقد اسهمت البنوك في تسهيل عملية التعامل المصرفي , ومعظم المصارف التي تأسست في الولايات العربية , كانت برؤوس اموال اجنبية . واصبح للتجار العرب فعاليات مهمة في مجال الاستيراد والتصدير . وكان لتلك النشاطات اثر كبير في نشوء فئات برجوازية تجارية جديدة , واصبح لهذه الفئات وزن مهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية , وكان لهذه الفئات كذلك صلة قوية بالعوامل الاقطاعية المحلية . وقد اخذت تلك الفئات تثبت وجودها وتعبر عن واقعها بشكل او بأخر . وكان كل تغير في ذلك التعبير يعتمد الى حد كبير على مدى تطورها , خاصة في امكاناتها لايجاد مواقع ثابتة لها في الحياة الاقتصادية .
وبالرغم من المواقع الاقتصادية التي احرزتها الفئات البرجوازية تلك , الا انها لن تستطيع ان تتحول الى قوة مستقلة في البناء الاجتماعي , زيادة على ذلك ان شرائح عديدة من هذه الفئات امثال صغار التجار واصحاب الدكاكين الحرفية وغيرهم كانت تلاقي الكثير من اضطهاد رأس المال الاجنبي والبرجوازية الكبيرة . الا انها بحكم واقعها لم تستطيع التحرك باتجاه من شأنه فرض رياح التغيير على مجتمع المدينة . وربما كان المثقفون (الانتيلجنتسيا Intelgentisia) , وهو القطاع الديناميكي المتحرك داخل البرجوازية , الوحيدين الذين بدأوا يتحركون بمثل ذلك الاتجاه . والمثقفون اساساً هم من ابناء العوائل الكبيرة , ومن البيوتات التجارية المعروفة آنذاك .لقد رافق ظهور تلك التطورات في البنيان التحتي للمجتمع انعكاسات طبيعية في البناء الفوقي . وتحددت الروف الموضوعية الجديدة التي حتمت تغيير المجتمع التقليدي القديم . وأخذ الناس يفكرون بأسلوب جديد , وينظرون الى الاشياء والمتغيرات في الحياة نظرة واقعية من السابق . وانتشرت بين الموظفين وضباط الجيش والمعلمين والتجار والكتاب افكاراً جديدة تتعلق بالمجتمع وكيفية تنظيمه , لاسيما فكرة تنظيم المجتمع على اساس وطني يقوم على اساس الولاء القومي والوحدة القومية وينضم تحت لواءها العرب على اختلاف اديانهم ومذاهبهم وطوائفهم . وطبيعي ان هذه القفزة حدثت بعد جمود استمر قروناً عديدة , بفعل التطور الاقتصادي – الاجتماعي .وساهم في صقلها الاحتكاك بالفكر الاوروبي ومكتسبات الحضارة العلمية والتكنولوجية . ولم يجر ذلك ضمن الوطن العربي كله على مستوى واحد بل تأثر بعوامل كثيرة منها عامل الموقع . وقد تجلى التغيير في مجالات عديدة منها الادب الذي بدأ منذ ذلك الوقت يبحث عن اشكال جديدة متميزة عن المفاهيم العثمانية الكلاسيكية التي كانت تسود العصر مثل الاستناد الى قدسية الخلافة العثمانية وسيادة الدين . وقد ربطت كثير من القصائد التي نظمت في اقطار عربية عديدة خلال هذه الفترة بين تأخر الامة العربية وسوء الادارة العثمانية , ولاقت بعض القصائد رواجاً كبيراً بين المثقفين لما تضمنته من نزعة عربية واضحة وتبرم ونفور من الحكم العثماني .
كما تجلى التغير في ظهور المدارس الحديثة على النمط الاوروبي من حيث وجود منهج يتضمن مفردات المواد الاساسية واغراض تدريسها ويقوم بتدريس هذه المواد معلمون مؤهلون وفق كتب مؤلفة في ضوء محتوى المنهج الدراسي وبامتحانات منظمة وجداول دروس اسبوعية . لذلك فقدت المؤسسات التعليمية الدينية التقليدية اهميتها وقل اقبال الطلاب عليها وصار عددها يتناقص و تأثيرها يضعف في المجتمع . وقد اسهم نشاط الارساليات التبشيرية التي وجدت طريقها الى بعض الولايات العربية منذ القرن السابع عشر , في قيام حركة فكرية ويمكن تقدير اهمية وجود هذه الارساليات اذا علمنا بانها عملت على ادخال اللغة العربية والعلوم الحديثة ضمن مناهج مدارسها . لهذا ازداد الاقبال على المدارس التبشيرية لا سيما من قبل ابناء العوائل الثرية . وكان من اسباب هذا الاقبال كذلك ان المدارس التبشيرية اخذت تهتم بقضايا اجتماعية كثيرة , كالموسيقى والمسرح مما جلب انظار الناس اليها . كما حدث عندما قدمت المدرسة الاكيليريكية للآباء الدومنيكان في الموصل سنة 1981م اول مسرحية في تاريخ العراق الحديث , والتي كانت تدور حول حياة الفلاح وعلاقته بالارض .
لقد شهدت الولايات المتحدة العربية , كما اشرنا الى ذلك من قبل , قيام عدد من المطابع . وعلى الرغم من ان نشاطها كام محدودا , لكنها ساهمت في طريقة التطور نحو الوعي الثقافي بين طبقات السكان المختلفة , وتهيئة الاجواء القومية كذلك . فسرعان ما اخرجت تلك المطابع العديد من الكتب والصحف والمجلات التي انتشرت بين المثقفين وادت عملها في ايقاظ الفكر وتنمية الثقافة .
وجه الفكر العربي منذ بدء حركة النهضة , تلك جملة من التساؤلات ولقد قويت وتطورت تلك الاتجاهات بشكل خاص بعد انتصار الثورة الدستورية العثمانية في 23 تموز 1908م . اذ تأثر الوعي العربي القومي في هذه الفترة بالذات , وشهدت السنوات من 1908-1914 م تنامي الوعي القومي للعناصر التي تتألف منها الدولة العثمانية . ولم يشذ العرب عن ذلك . اذ بدأوا في تشكيل الجمعيات والاحزاب السرية والعلنية والتي قامت بدور مهم في العمل من اجل التخلص من النير العثماني . ومما يلحظ ان الحركة العربية القومية , كغيرها من الحركات القومية في العالم , قد تدرجت من اتجاهات ثقافية الى اخرى سياسية , وتطورت من تطلعات اقليمية محدودة ضمن الاطار العثماني الى افاق اوسع كما سيتوضح من استعراضنا لنشأتها . وسنقف اولا عند اتجاهات حركة النهضة الفكرية الحديثة في الوطن العربي .


اتجاهات حركة النهضة العربية الحديثة :


ظهرت في الوطن العربي , اواخر القرن التاسع عشر اتجاهات فكرية عديدة . وقد ذهب مؤرخو عصر النهضة العربية الحديثة مذاهب شتى في عرض تلك الاتجاهات وتوضيح مضامينها السياسية والاجتماعية الا انها لا تخرج , برأينا عن الاتجاهات التالية :
1-
الاتجاه الديني – الاصلاحي : ويدعو هذا الاتجاه الى بعث نهضة اسلامية , على غرار النهضة التي جرت في اوروبا خلال حركة الاصلاح الديني المعروفة بقيادة مارتن لوثر . ويقوم هذا الاتجاه على التوفيق بين الدين الاسلامي ومنجزات العلم الحديثة , لتتمكن المجتمعات الاسلامية من التكيف مع متطلبات العصر الحديث . ويتمسك ممثلو هذا الاتجاه بالرابطة العثمانية . وهذا الاتجاه , كما يقول الدكتور الياس فرح , محاولة لتجاوز اتجاهين متعارضين اولهما الاتجاه الديني التقليدي الذي يمثل النظرة الشكلية غير الجوهرية للاسلام فيطمس جوهره الحضاري , ويأسر الفكر ضمن اطار التقليد والمحاكاة القديم ويغلق باب الاجتهاد , ويبعد المجتمعات الاسلامية عن التفاعل مع التطور العلمي والحضاري الحديث .
2-
الاتجاه العقلاني –العلماني : والذي ينطلق من نظرة خارجية الى الواقع ويتجاهل الصلة الطبيعية بين الماضي والحاضر , ويقفز الى مستقبل لا صلة له بهذه الديمومة التاريخية الواقعية , فتتخذ تصوراته الاصلاحية طابعاً طوباوياً مغرقاً في رد الفعل وفي الذاتية ويرتدي (احلاما تقدمية) .
ومن ابرز ممثلي الاتجاه الديني الاصلاحي جمال الدين الافغاني (1838-1897م) , ومحمد عبده (1849-1905م) , ومحد رشيد رضا (1865-1925)  .
جمال الدين الافغاني :
ولد جمال الدين الافغاني سنة 1838م في مدينة سعد آباد بافغانستان وقد تلقى دراسته الاولى التي اقتصرت على اللغة العربية والعلوم الدينية والفلسفة والرياضيات على الطريقة التقليدية في التعليم آنذاك . ثم سافر الى الهند واقام بها قرابة سنة درس فيها العلوم الاوربية الحديثة . وقد ادى فريضة الحج سنة 1875 ثم عاد الى بلاده لينتظم في سلك الوظيفة الحكومية , لكنه ترك افغانستان قاصداً مصر لاول مرة سنة 1870 م وهناك تعرف على شاب ازهري هو الشيخ محمد عبدة وكان لهذا اللقاء اثر حاسم في حياتهما , اذ اصدر الاثنان بعد ذهابهما الى باريس سنة 1884م ثمانية عشر مجلداً من مجلة عربية تدعى (العروة الوثقى) خصصت معظم صفحاتها لتحليل سياسة الدول العظمى ومواقفها من العالم الاسلامي . كما عالجت موضوع تخلف المسلمين انذاك . وكانت لغة المجلة من اختصاص محمد عبده , اما التفكير والتحليل فكان من نصيب الافغاني , وهكذا اصبحت , بفضل , بفضل لغتها وفكرها معا , من اشد المجلات العربية تأثيرا على المثقفين انذاك . كما اسسا جمعية سرية من المسلمين المصممين على العمل من اجل وحدة الاسلام واصلاح شؤون المسلمين . لكن مدى انتشار هذه الجمعية مايزال غامضا , مع انها كانت ذات فروع في تونس واقطار عربية اخرى .
كان الافغاني يميل بطبعه الى الرحلات , واستطلاع اوضاع العالم الاسلامي . وقد صرف جزءا كبيرا من حياته في القاء المحاضرات التي كرسها لفضح اثر الاستعمار على الجوانب المختلفة لحياة الشعوب الاسلامية . وكان العلاج الذي يقترحه دائما هو تمسك المسلمين بأسلامهم , وعلى وجه اخص الجهاد في سبيل الهه والقيام به , لانه كان يرى ضرورة الثورة على الاستعمار الاوربي باعتباره مصدراً للفساد والضعف في حياة المسلمين في آسيا وافريقيا . ومن ثم كان برنامجه , كما اورده في العروة الوثقى : ((خدمة الشرقيين على ما في الامكان من بيان الواجبات التي كان التفريط فيها موجبا للسقوط والضعف وتوضيح الطرق التي كان يجب سلوكها لتدارك ما فات والاحتراس من غوائل ما هو آت . ويستتبع ذلك البحث في اصول الاسباب ومناشئ العلل التي ذهبت بهم . الى جانب التفريط والبواعث التي دفعت بهم الى مهام وعرة عميت فيها السبل واشتبهت فيها المضارب .. وان الظهور في مظهر القوة لدفع الكوارث انما يلزم له التمسك ببعض الاصول التي كان عليها آباء الشرقيين واسلافهم ... ودفع ما يرمي به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصاً من التهم الباطلة التي يوجهها اليهم من لا خبرة لهم بحالهم , ولا وقوف على حقائق امورهم وابطال زعم الزاعمين ان المسلمين لا يتقدمون الى المدنية ما داموا على اصولهم التي فاز بها آباؤهم الاولون  ))   .
اثارت شخصية الافغاني وآراؤه , في اثناء اقامته بباريس كثيرا من الاهتمام بين الاوربين المعنيين بشؤون العالم الاسلامي . وقد دخل في نقاش مع المستشرق ارنست رينان حول موقف الاسلام من العلم . كما استفاد من علاقته الشخصية بالفرد بلنت (Blunt) ( وهو من السياسيين الانكليز , زار مصر سنة 1880م واستقر فيها برهة من الزمن ) , لينقل وجهة نظره فيما يتعلق بمستقبل مصر والسودان السياسي . وكان بلنت الذي ألف كتابا ضمنه ملاحظاته وافكاره نشر سنة 1882م باسم (( مستقبل الاسلام )) يعطف على الحركات القومية في الهند ومصر وقد قضى الافغاني شنة 1885م بعض الوقت في لندن , حيث حل ضيفاً على بلنت , للبحث في مستقبل مصر مع السياسيين الانكليز . وقد اوفدت الحكومة البريطانية السير هنري درموند وولف الى استانبول للبحث في مستقبل مصر مع السلطان العثماني على ان يذهب الافغاني لمساعدته في المفاوضات غير ان هذه الخطة فشلت . وحين يئس الافغاني من امكانية ايجاد حل للقضية المصرية ذهب الى ايران ليساهم في حركة المعارضة ضد امتياز التبوغ الذي كان الشاه ناصر الدين (1831-1896م)مصراً على منحه الى شركة بريطانية لذلك طرد الافغاني وحمله الجنود ليلقوه مريضاً على الحدود العراقية –الايرانية بالقرب من البصرة . وقد مكث في البصرة ريثما عادت اليه صحته وفي 1892م , دعاه السلطان عبد الحميد الى استانبول . وهناك انهى الافغاني بقية حياته اشبه بسجين في بلاط السلطان وان احيط بالإكرام حتى توفي اواخر سنة 1897م.
تعد حركة الافغاني ودعوته استمرارا للحركات الدينية الاصلاحية التي سبقتها , وخاصة الوهابية والتي تشترك جميعها في الكفاح من اجل الحفاظ على سلامة الفكر واهله من التعديات والتشويهات التي اصابته من الداخل والخارج . الا ان ما يميز حركة الافغاني عن غيرها من الحركات هي انها , كما يقول الدكتور فاضل زكي محمد , حركة سياسية اتخذت منهجيا اسلاميا حديثا . ويتمثل هذا المنهج الحديث في التمييز ما بين الاسلام الاصيل الذي لا يقف امام التطور والتقدم ويتماشى مع احدث اساليب الحكم وبين المفترى عليه الذي التصقت به خصائص مصطنعة لا تمت اليه بصلة والتي اظهرته بصورة الدولة والنظام المتصلب والمتعزل , وتعاون على اظهار صورته المصطنعة هذه مفكرون غربيون اسسوا انفسهم بالمستشرقين .
ان محور افكار الافغاني يدور حول بناء مجتمع اسلامي سليم متماسك موحد يأخذ بكل اساليب التقدم يدور حول والحياة الحديثة التي لا تتعارض و روح الاسلام . فعلى الصعيد الداخلي , انتقد الافغاني الاوضاع السياسية في العديد من الاقطار الاسلامية ورأى ان وضع دستور يجدد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين امر ضروري لتوفير حرية الشعب في القول والعمل . كما هاجم الافغاني المذهب المادي , شارحاً اخطاره ومضاره على المجتمع الاسلامي . لقد رأى ان الضعف الحقيقي للمسلمين بدأ بظهور المذاهب الطبيعية والدهرية والباطنية و وصف هذه المبادئ بأنها هدامة تسعى لتفرقة المسلمين عن طريق التشكيك بعقيدتهم وبالتالي افسادها . اما على الصعيد الخارجي فقد ربط الافغاني بين الاستعمار الاوربي والضعف الداخلي . لذلك فعلى المسلمين ان يعلموا على ان يكونوا سادة انفسهم في الداخل والخارج والسبيل الى ذلك هو الالتفاف حول المبادئ الحقة للاسلام والتي توصلهم الى تحقيق حريتهم وقوتهم ووحدتهم , ويقصد الافغاني بالوحدة , كل شعب اسلامي من الداخل واتحاد الشعوب الاسلامية مع بعضها في اهدافها وفي ظل وحدة اسلامية وبذلك فقط يستطيع المسلمون القضاء على التعصب المذهبي والسلبية والعنف وتسلط الاجنبي .
لم يدع الافغاني , كما اشار جرجي زيدان وجارلس ادامز الى توحيد كلمة الاسلام ولم شمل المسلمين في سائر اقطار العالم في حوزة دولة واحدة يقودها الخليفة الاعظم الذي لا يشاركه في الحكم احد . وانما كان يدعو الى ان اشراك الامة في حكم البلاد عن طريق الشورى وانتخاب نواب عن الامة هو البديل لإشكال الاستعباد الذي عرفه الشرق انذاك , فالقوة المطلقة تعني الاستبداد ولا حياة للدولة الا برجل قوي عادل يحكم الامة باهلها ((على غير طريق التفرد بالقوة والسلطان)) .
حاول السلطان عبد الحميد الاستعانة بآراء الافغاني المتعلقة بالوحدة في الدعوة الى حركة الجامعة الاسلامية التي تبناها السلطان آنذاك لتحقيق بعض المصالح السياسية على الصعيدين الداخلي والخارج . فعلى الصعيد الداخلي سعى السلطان عبد الحميد للظهور بمظهر التقي الورع , فطهر قصوره من الخمور والمجون واولى الشؤون الدينية عناية كبيرة . فعلى سبيل المثال امر في سنة 1898م بأن يتلى المولد النبوي الشريف في مدارس استانبول كافة واهتم بتشييد مساجد وتكايا كثيرة , كما كان من مظاهر تطبيق سياسة الجامعة الاسلامية تقريب العرب واستمالتهم . اذ اسند عبد الحميد مناصب كبيرة الى بعض العرب , فمثال ذلك عين عزت باشا العابد سكرتيرا تانيا للبلاط وتعوم باشا معاونا لمستشار وزارة الخارجية , ونجيب ملحم  باشا رئيسا لجهاز الجاسوسية . كذلك زاد عدد الضباط العرب في الجيش العثماني , وفضلا عن ذلك شكل من الجنود العرب وحدات عسكرية وضمها الى حرسه الخاص . كما دعا قسماً من كبار رجال الدين العرب للإقامة في استانبول . واسس في استانبول مدرسة خاصة بأبناء رؤساء العشائر العربية وقيل انه فكر بجعل العربية لغة رسمية للدولة العثمانية . ومن جهة اخرى فقد استفاد عبد الحميد من سياسة الجامعة الاسلامية لقمع الانتفاضات في اجزاء عديدة من دولته والتلويح بخطر الاستعمار والتدخل الاجنبي . وكان هدفه من ذلك تخويف الدول الاوربية واشعارهم بتأييد المسلمين له في المستعمرات الواقعة تحت سيطرتهم لذلك فقد احيى لقب الخلافة وراح يؤكد مركزه كخليفة للمسلمين .
رأى عبد الحميد ان الاعتماد على اوربا وتطبيق تظمها في الدولة العثمانية , ادى الى تقلص مساحة الدولة العثمانية وضياع الكثير من ممتلكاتها , وان الانحطاط والتدهور الذي اصاب العالم الاسلامي عامة لم يكن مرده عوامل داخلية , بقدر ما كان بسبب التغلغل الاستعماري الاوربي , لذلك حاول عبد الحميد , استغلال حركة الجامعة الاسلامية , على الصعيد الخارجي لتحرير الولايات التي وقعت تحت النير الاستعماري وارسل اعداد كبيرة من خريجيها للدعاية له الى الهند وباكستان وايران والصين واقطار المغرب العربي . كما سخر الصحافة كذلك في الدعاية لحركة الجامعة الاسلامية وطبع الاف من المصاحف الكريمة و وزعها في ارجاء عديدة . وقد كسب عبد الحميد تأييد الالاف من الحجاج بفضل انشائه سكة حديد الحجاز التي كان من اهدافها تسهيل اتصال المسلمين ببعضهم .
لقد عزا البعض من المؤرخين النجاح الذي حققته حركة الجامعة الاسلامية الى مساندة جمال الدين الافغاني لها . لكن هذا لم يمنع من ان يبدي لعض الاحرار سواء في استانبول او الولايات العربية ارتيابهم من نوايا عبد الحميد واستبداده . حتى ان الافغاني نفسه كاشف عبد الحميد بما كان يعتقده  ويراه , وفي المقدمة ذلك ضرورة تعميم اللغة العربية في الدولة العثمانية وجعلها اللغة الرسمية . وتوحيد العرب والاتراك(( بجعلهم امة عربية بكل ما في اللسان من معنى وفي الدين الاسلامي من عدل , وفي سيرة افاضل العرب من اخلاق وفي مكارمهم من عادات)) لا ان يعامل العرب ولغتهم بصورة تشجع على الفرقة والانقسام والانتفاض . لقد ادرك الافغاني ان عبد الحميد لم يكن جادا فيما يدعو له بدليل استبداده ورضوخه لمطالب الاوربيين مرات عديدة . لذلك كان يحذر باستمرار من عدم السماح للمصالح السياسية لحكام المسلمين ان تحول دون الوحدة الحقيقية . وراء الافغاني هذه تلقي الضوء على حياة الافغاني المضطربة وتنقلاته المستمرة ومواقفه تجاه الحكام المسلمين ومن سيرة علاقاته العاصفة معهم .

نشأة الحركة العربية القومية :
كانت جمعية بيروت السرية سنة 1876 أول جهد منظم في الحركة السياسية العربية ، فقد بدأت بلصق المنشورات التي تندد بمساوئ الحكم العثماني وتدعو لى الثورة ووضعت أول بيان محدد عن منهاج العرب السياسي ، لكنها توقفت بسبب حملات القمع الحكومية بين سنتي 1882 م و1883 ، وانتقل أبرز مؤسسيها فارس نمر ، وشاهين مكاريوس ويعقوب صروف ، إلى القاهرة سنة 1885 ليؤسسوا هناك جريدة سياسية يومية هي جريدة المقطم ومجلة فكرية باسم المقتطف ، وليتابعوا من خلالها الدعوة إلى محاربة الظلم والاستبداد التركيين والعمل على تأليف جبهة عربية موحدة ( من المسلمين والمسيحيين ) تقوم على فكرة العروبة وتستطيع الوقوف في وجه الأتراك كما تكونت في دمشق حلقة سياسية سرية باسم حلقة دمشق الصغيرة في دار الشيخ طاهر الجزائري 1852 – 1920 وذلك سنة 1903 ، وكان لولب هذه الحلقة محب الدين الخطيب ومن أعضائها البارزين عارف الشهابي وعثمان مردم ولطفي الحفار وصالح قنباز وصلاح الدين القاسمي .
إن الطروحات السرية لهذه الحلقة تسجل خطوة مهمة على طريق توسيع اهتمام الشيخ طاهر الجزائري الثقافية لتأخذ طابعا سياسيا وذلك باتجاه الدعوة لمنهاج سياسي يقضي بمطالبة الدولة العثمانية باتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنح العرب حقوقهم المشروعة ، وقد حققت الحلقة بعض الاتصالات مع شباب بيروت ، ومنهم عارف النكدي وعبد الغني العريسي ومحمد المحمصاني والأمير عادل أرسلان وغيرهم ممن ستبرز أسمائهم أعضاءا في الجمعيات العربية القومية التي تشكلت قبيل العرب العالمية الأولى ، وفي سنة 1905 انتقل معظم أعضاء حلقة دمشق إلى استانبول فألفوا هناك جمعية النهضة العربية التي قامت بدور كبير في بث الوعي القومي وتوقفت عن العمل قبل إعلان الدستور ، وبعده تطورت الاتجاهات الفكرية وقويت بشكل خاص ونما الوعي القومي من ممجد مشاعر وأحاسيس تجيش في صدور الأحرار من العرب إلى الحركة منظمة لها أنصارها ومناهجها السياسية ، ومما زاد في بلورة النواحي التنظيمية في الحركة العربية التطورات التي حدثت في الدولة العثمانية وكان من أبرزها الانقلاب العثماني لسنة 1908م .
إن الانقلاب العثماني الذي تم في 23 تموز سنة 1908 قامت به مجموعة من الضباط تنتمي إلى جمعية الاتحاد والترقي وعلى رأسها أنور ونيازي ، وقد تمخضت العملية الانقلابية عن تظاهر السلطان عبد الحميد باستجابته لمطالب الانقلابيين بإعادة دستور سنة 1876 المعطل منذ سنة 1877 والسير بموجب شعارات الحرية والعدالة والمساواة ، وسرت من جراء ذلك موجة من الفرح والابتهاج في معظم أرجاء الدولة العثمانية أملا في بداية عهد جديد تترجم فيه شعارات الاتحاديين إلى واقع ملموس ، وقد نشط الاتحاديون في الدعاية لمبادئهم عن طريق التوعية السياسية وتمثلت هذه بمختلف فروع جمعية الاتحاد والترقي التي افتتحت في شتى الدولة العثمانية كما استعانت الجمعية بالصحف والمجلات لنشر أهدافها السياسية ، وعمدت كذلك إلى فتح النوادي والمدارس وعينت لها معلمين ودعاة من بين أعضائها يلقنون الطلاب أهداف ومبادئ الاتحاديين .
نشرت جمعية الاتحاد والترقي برنامجها السياسي في أواخر أيلول سنة 1909 وقد نص على ان تدار الولايات على أصول توسيع المأذونية أي الصلاحيات التي نصت عليها المادة ( 108 ) من الدستور ، مع مواصلة السعي في تقوية عرى الاتحاد والإخاء بين العناصر العثمانية ، على ان تبقى اللغة التركية هي اللغة الرسمية وتتبع الدولة سياسة تعليمية ترمي إلى تربية النشء العثماني تربية موحدة والى فتح مدارس تضم عناصر الدولة المختلفة في تعليم مشترك للوصول إلى التربية الموحدة .
مال الأحرار من العرب وغيرهم في استانبول في تلك الفترة إلى تشكيل جمعيات تساند جمعية الاتحاد والترقي في سبيل المحافظة على أحكام الدستور وجمع كلمة العناصر العثمانية المختلفة ، وكان رئيسها صادق باشا العظم ، ضابطا سابقا في الجيش العثماني ومن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ، وقد عاش في المهجر مضطهدا من السلطان عبد الحميد ، وعاد إلى استانبول بعد الانقلاب .
بالرغم من الجهود التي بذلها الزعماء العرب المعروفون آنذاك ، ومنهم عبد الكريم الخليل وعبد الحميد الزهراوي ، ورفيق العظم ، ورشدي الشمعة ، لكي يظهروا إخلاصهم وتعاونهم مع الاتحاديين إلا إن بوادر الخلاف سرعان ما بدأت تلوح بالأفق ، خاصة بعد أن ظهرت بعض المقالات في الصحف الموالية للاتحاديين تهاجم العرب وتتحامل ضدهم ، وبدلا من أن يحقق الاتحاديين للعرب مطامحهم المشروعة في تحسين أوضاع الولايات العربية وتشجيع التعليم باللغة العربية ، فإنهم اتجهوا نحو تطبيق مركزية شديدة ، واعتمدوا سياسة التتريك وتمجيد النعرة الطورانية واستخدموا لتحقيق ذلك الإرهاب ، خاصة بعد أن قمعوا الثورة الرجعية التي حدثت في 13 نيسان سنة 1909م ، وخلع السلطان عبد الحميد على أثرها ونصب محله أخاه الأصغر محمد رشاد ، وقد ألغيت الجمعيات ومن ضمنها جمعية الإخاء العربي العثماني .
لجأ المثقفون الأحرار من العرب إزاء تلك السياسة القمعية إلى تأسيس النوادي والجمعيات التي ظاهرها ثقافي ، وباطنها سياسي .
ولعل من أبرز هذه النوادي " المنتدى الأدبي " باستانبول الذي أسسه جماعة من الموظفين والنواب والأدباء والطلاب في صيف سنة 1909 ليكون مركزا لإلقاء المحاضرات والأبحاث العلمية وتقديم المسرحيات والروايات العربية والاستفادة من ريعها في تمشية أمور المنتدى ، وقد أصدر المنتدى مجلة أدبية باسم " لسان العرب " وسرعان ما أصبح المنتدى ملتقى العرب يتناقشون فيه ويبحثون في شتى المواضيع التي تهم مستقبل بلادهم ، وكان من مؤسسيه عبد الكريم الخليل وعبد الحميد الزهراوي ورفيق رزق سلوم وصالح حيدر ، وجميل الحسني ويوسف مخيير ، وسيف الدين الخطيب وشفيق العظم ، ورفيق العظم ، ورشيد رضا ورضا صالح وطالب النقيب وعزيز علي المصري وندرة ونخلة المطران ، وعزة الجندي ورشدي الشمعة وبلغ أعضاؤه الوفا ، كانوا بأغلبيتهم من الطلاب ، وصارت له فروع عديدة في سوريا والعراق ولبنان ، وظل المنتدى يعمل حتى سنة 1905 حين أغلقته السلطات الاتحادية ، وقد تعرض عدد من أعضائه للإعدام في سنتي 1915 و1916 بسبب نشاطهم القومي ، ومن هؤلاء عبد الحميد الزهراوي وشفيق العظم ورفيق رزق سلوم وعبد الكريم الخليل ورشدي الشمعة وصالح حيدر وسيف الدين الخطيب وعزة الجندي وندرة مطران ونخلة مطران ، وقد يكون من المناسب الإشارة إلى ان شبان المنتدى الأدبي رفعوا لأول مرة بين سنتي 1909 – 1911 العلم العربي القومي الذي يتألف من مثلث أحمر اللون تلتصق به ثلاثة ألوان أفقية متوازية هي الأسود ويرمز للدولة العباسية من فوق ثم الأخضر ويرمز للدولة الفاطمية ثم الابيض ويرمز للدولة الأموية ، أما اللون الأحمر فهو رمز راية الأشراف في الحجاز ، وهذا العلم بالذات هو الذي رفعه الشريف حسين أبان ثورته على الاتراك سنة 1916 ويرفعه الفلسطينيون اليوم .
لقد خابت آمال العرب وضعفت ثقتهم بالاتحاديين ، وقد دلت انتخابات أول مجلس للمبعوثان ، بعد إعلان الدستور سنة 10908 على سيطرة أعضاء جمعية الاتحاد والترقي عليها بطريقة وتسمح لهم أو لمؤيديهم أن يشكلوا أكثرية برلمانية كما ان تمثيل العناصر غير التركية كان يقل كثيرا عن تمثيل العناصر التركية ، فالترك مثلا لم يكونوا أكثر الأجناس عددا في الدولة وكان العرب في الواقع يفوقونهم عددا بنسبة 3 – 2 وعلى هذا فقد كان مجموع أعضاء مجلس المبعوثان 245 مبعوثا ، مثل الأتراك 150 مبعوثا ومثل العرب 60 مبعوثا ، أي كان الترك متفوقين بنسبة 5 – 2 على رأي جورج انطونيوس ، وكان ليبير يعتقد العكس من ذلك ، بأن هناك تمثيلا عادلا لكل القوميات فالمجلس مؤلف من 260 مبعوثا من بينهم حوالي 120 تركي و 72 عربي و20 كردي والبقية من عناصر الدولة العثمانية الاخرى ، وثمة إحصائية أخرى تذكر أن المجلس ضم 288 مبعوثا منهم 147 مبعوثا يمثلون الأتراك و 60 مبعوثا يمثلون العرب .
ليس هنا مجال لمناقشة هذه الاحصائيات المتضاربة وذلك لعدم توفر الاحصائيات الدقيقة لمجموع السكان في الدولة العثمانية ترجع إلى سنة 1908 وفبها ان المجموع لا يتجاوز الـ22 مليونا من بينهم 7.5 من الأتراك و 10.5 من العرب والبقية من العناصر الأخرى .
حاول بعض المبعوثين العرب تشكيل كتلة برلمانية باسم الحزب العربي ووسمت لهذا الحزب بضعة أهداف أبرزها طلب المساواة الحقيقية مع سائر العناصر ، وجعل اللغة العربية لغة التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية ورعاية حقوق المواطنين في الولايات العربية وتعيين الموظفين في الأقطار العربية من الذين يتكلمون العربية وقد ساهم مبعوثا لواء الموصل داود يوسفاني ومحمد علي فاضل مع شفيق المؤيد مبعوث دمشق وعبد المهدي قاسم مبعوث كربلاء وشكري العسلي مبعوث دمشق وعبد الحميد الزهراوي مبعوث حماة وغيرهم من أجل العمل على إخراج هذه الفكرة إلى حيز التنفيذ ، وقد عهد إلى عبد الحميد الزهراوي وشكري العسلي بوضع نظام داخلي لهذا الحزب لتقديمه إلى رئاسة مجلس المبعوثان والحكومة على أن يباشر بافتتاح الفروع والأندية في العاصمة والولايات العربية بعد التصديق عليه مباشرة ، ولكن النواب العرب لم يستمروا في مساعيهم بعد ذلك وعدلوا فكرتهم في اللحظات الأخيرة وفضلوا البقاء ضمن الحزب الحر المعتدل الذي تألف في 21 تشرين الثاني سنة 1909 م .
وقد أعلن الحزب المذكور بأنه سيعمل على استصدار قانون للولايات باقرب وقت مستطاع يكون من شأنه أن يؤمن تطبيق قاعدة " توسيع المأذونية وتفريق الوظائف " حسبما نص عليه الدستور ، كما سيبذل جهده لكي يؤمن للمجلس الإداري لكل ولاية حق الإدارة والإشراف على الشؤون العامة للولاية ، وكان من أعضاء هذا الحزب كل من داوود يوسفاني مبعوث الموصل الذي تولى إدارة جريدة الحزب " تنظيمات " سنة 1911 م ونافع الجابري مبعوث حلب ، وسليمان البستاني الرئيس الثاني لمجلس المبعوثان ورضا الصلح مبعوث بيروت الذي أشرف على إصدار جريدة الحزب الأخرى " إصلاحات " . أما سبب عدول النواب العرب عن تشكيل الحزب العربي ، فيرجع إلى اعتقادهم بان وجودهم داخل الحزب الحر المعتدل سيعمل على زيادة قوة المعارضة للاتحاديين وعدم بعثرتها ، إلا أن الحزب الحر المعتدل سرعان ما ذبل وانحل بعد فترة قصيرة وذلك بعد تأسيس جمعية الحرية والائتلاف في 8 تشرين الثاني سنة 1911 م دون الاتيان بعمل يذكر .
حزب الحرية والائتلاف وانتخابات سنتي 1912 و1914 م :
أدت الاندحارات العثمانية في طرابلس الغرب إلى ازدياد المعارضة في مجس المبعوثان لوزارة حقي باشا فأدت إلى إسقاطها ، ولم تكتفِ المعارضة بذلك بل عمدت إلى تكوين حزب جديد عرف باسم " حزب الحرية والائتلاف " في 8 تشرين الثاني 1911 والذي ضم عناصر الحزب الحر المعتدل وجماعة من الاتحاديين المنشقين عن جمعية الاتحاد والترقي ، وقد ساهم بعض المبعوثين العرب في تشكيل هذا الحزب الذي ضم عناصر مختلفة تجمعهم فكرة معارضة الاتحاد والترقي والإيمان باللا مركزية ، وقد نشر الحزب منهاجه السياسي الذي نص على توسيع المأذونية وتفريق الوظائف باستثناء مسائل الدفاع الخارجي أو مسائل المنافع المشتركة بين الولايات مع بقاء الرابطة العثمانية على ان تمنح الولايات استقلالا إدارية على أساس اللا مركزية .
تفاقم الصراع بين الاتحاديين والائتلافيين في مجلس المبعوثان ، إذ ازدادت حدة المعارضة لجمعية الاتحاد والترقي مما اضطر الاتحاديين إلى استصدار إرادة سلطانية لحل مجلس المبعوثان في 18 كانون الثاني سنة 1912 على ان تجري الانتخابات خلال ثلاثة أشهر من تاريخ حل المجلس ليجتمع مجلس المبعوثان الجديد.
اختلفت الانتخابات التي بدأت أواخر كانون الثاني سنة 1912م عن سابقتها وذلك لأن الصراع بين جمعية الاتحاد والترقي وحزب الحرية والائتلاف كان على أشده ، وبالرغم من نجاح الاتحاديين في ان تكون لهم اكثرية برلمانية إلا إنهم سرعان ما واجهوا مشاكل معقدة ، وقد كان للجمعية العسكرية التي تألفت منذ آيار – حزيران سنة 1912م والتي عرفت باسم ضباط الانقاذ أو " خلاص كار ضابطان " دور كبير في إحداث تلك المشاكل ، ومعظم هؤلاء الضباط من الألبان وقد أعلنوا تمردهم في الروم إيلي وتركزت معارضتهم حول عدم شرعية الحكومة ومجلس المبعوثان الجديد الذي أقحمت جمعية الاتحاد والترقي أعضاءها فيه ، فطالبوا بانتخابات حرة ، ودعوا إلى عدم تدخل الجيش في السياسة وأوعزوا إلى محمود شوكت باشا وزير الحربية بالاستقالة فاستجاب لدعوتهم في 21 تموز سنة 1912م ، وتألفت وزارة ائتلافية برئاسة احمد مختار باشا ( ثم كامل باشا من بعده ) وحل مجلس مبعوثان ، وأعلنت الحكومة الجديدة عن عزمها لتطبيق مبدأ اللامركزية .
لم تتمكن وزارة ضباط الانقاذ من تنفيذ منهاجها اذ أطاح بها الاتحاديون بانقلابهم العسكرية الثاني في 23 كانون الثاني سنة 1913م بقيادة أنور باشا وحكم وحكم الاتحاديون منذ ذلك التاريخ وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى بشعاراتهم الثلاثة المعهودة ألا وهي : المركزية والطورانية والتتريك ، وتقوم الطورانية على تمجيد القومية التركية والتركيز على قرابة الأتراك العثمانيين مع إخوانهم الطورانيين في آسيا الوسطى ، واستندت الحركة الطورانية إلى سياسة التتريك ، وكان لسياسة التتريك وللحركة الطورانية فلاسفتها منهم يوسف آق جوره أوغلي ومن آرائه في هذا الصدد : (( إن الذين يرتبطون مع الأتراك بالدين فقط وليس بالعرق ، إلا أنهم قد امتزجوا مع الأتراك إلى درجة معينة يسهل صهرهم في المجتمع التركي أما الذين لم يتولد لديهم شعور قومي فيمكن تتريكهم )) .
أجرى الاتحاديون انتخابات جديدة لمجلس المبعوثان فأعلنت نتائجها في 4 كانون الثاني سنة 1914 م ، وقد مارس الاتحاديون فيها أساليب مختلفة من الضغط ليضمنوا إجراء الانتخابات لصالحهم ولم يمنع هذا من فوز بعض النواب العرب الذين يحملون اتجاهات مغايرة لاتجاهات الاتحاديين وقد ساهم هؤلاء النواب العرب غيرهم في إثارة بعض القضايا المتعلقة بالأمور الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية ولكن أنباء الحرب العالمية الأولى أخذت تطغى على اخبار مجلس المبعوثان ، فأصدر السلطان محمد الخامس إرادة سلطانية في آب سنة 1914 تقضي بتعطيل المجلس نظرا لظروف الحرب .
لم تكن فروع جمعية الاتحاد والترقي في الولايات العربية هي المجال الوحيد الذي برز فيه الاتجاه الطوراني وسياسة التتريك وإنما كانت هناك مجالات أخرى ، ومنها سياستهم تجاه التعليم ، لقد حرص الاتحاديون على ان يكون التعليم في المدارس باللغة التركية وحدها تطبيقا لسياسة التتريك التي اتجهوا إليها ، وكان من مظاهر الاتجاه القومي التركي المتطرف كذلك ، هو اهتمام الاتحاديين بالمناطق التي يسكنها الأتراك ، كما تشدد الاتحاديون في ان يكون التدريس باللغة التركية بما في ذلك تدريس قواعد اللغة العربية واذا اضطر بعض المعلمين أحيانا إلى الشذوذ عن هذه القاعدة فإنهم يمنعون من ذلك من قبل المسؤولين ، وعلى أي حال لا يتمكنون من استعمال أي كتاب ما لم يكن تركيا ، وكثيرا ما يحدث أن المعلم للقواعد العربية كان يجهلها ومع هذا يلقي دروسه باللغة التركية ، وغالبا ما كان الطلاب العرب يرددون الأناشيد التركية دون ان يفقهوا كثيرا من معانيها .
إن سياسة الاتحاديين تجاه التعليم في الولايات العربية قادت إلى نفور قسم من الناس واعراضهم عن المدارس الحكومية حيث فضلوا إرسال أبنائهم إلى مدارس الإرساليات التبشيرية أو الكتاتيب أو المدارس الدينية .
ولهذا فقد كانت المدارس الرسمية مقتصرة على أولاد الموظفين والضباط وبعض الوجهاء الذين كانوا على صلة مستمرة مع دوائر الدولة .
سار الاتحاديون منذ سنة 1913م وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى بسياسة مركزية أثارت حفيظة القوميات الأخرى في أرجاء الامبراطورية ، وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال بردود الفعل القومي بين العرب عن طريق المؤسسات التي مارست نشاطا ملحوظاً في التوعية القومية عن طريق المطالبة بالحكم المركزي ، ومن ذلك نشاط حزب اللامركزية الإدارية العثمانية في القاهرة ، أما بالنسبة للقومية العربية فقد تمثلت في التنظيمات الحزبية السرية وأبرزها جمعيتي العهد العسكرية والعربية الفتاة ، ولنفق عند هذه التنظيمات لنكشف طبيعتها وظروفها ومنهاجها ثم نحدد أهم السلبيات التي وقعت فيها الحركة القومية العربية عموما ولنبدأ أولا بحزب اللامركزية الإدارية العثماني .
حزب اللامركزية الإدارية العثماني :
تأسس أواخر سنة 1912 في القاهرة ، وهدفه السعي لتطوير أسلوب الحكم في أقطار الدولة العثمانية على أساس اللامركزية ، وبعبارة أخرى منح كل ولاية قسطا كبيرا من الاستقلال الإداري حتى تستطيع تنفيذ الإصلاحات الضرورية ومقاومة أي غزو أجنبي في حالة تعذر مساعدة الحكومة المركزية لها خشية أن يتكرر ما حدث في ليبيا وفي غيرها من أقطار المغرب العربي ، وقد كان من أهداف هذا الحزب كذلك ان تكون في كل ولاية لغتان رسميتان : اللغة التركية واللغة المحلية ، وأن يؤدي شبان كل ولاية الخدمة العسكرية داخل ولايتهم في زمن السلم ، وأن تخصص واردات الولاية لسد احتياجاتها الفعلة ، وأن توسع صلاحيات مجالس الولايات ، وأن يستعان قدر الإمكان بخبراء أجانب لإعادة تنظيم قوى الشرطة ودوائر العدل ، وقد أكد الحزب على انتهاج الوسائل العلمية والسلمية لتحقيق أهدافه .
كما ظهرت في بيروت أواخر سنة 1912 بعد تأسيس حزب اللامركزية جمعية إصلاحية باسم " لجنة الإصلاح " تألفت من ستة وثمانين عضوا من جميع الأديان وكانت خطتها تهدف إلى التطبيق العملي للمبادئ التي نادى بها دعاة اللامركزية وقد أعلنت لجنة الإصلاح منهجها في اواسط شباط سنة 1913م ونشرته على نطاق واسع في الشام والعراق ، فعمدت السلطات المحلية إلى مطاردة بعض أعضائها ، غير أنها اضطرت تحت ضغط المظاهرات التي عمت بلاد الشام أن تطلق سراح القادة المعتقلين وتعلن عزم الحكومة على القيام بالاصلاحات على أساس اللامركزية
أصدر الاتحاديون في 5 آيار سنة 1913م قانونا جديدا للولايات جاء على النقيض تماما مما هدفت إليه مناهج لجنة الإصلاح وحزب اللامركزية الإدارية العثماني وقد عده الكثيرون خطوة مقنعة نحو المزيد من المركزية وزيادة وطأة استانبول على الولايات العربية وتقوية قبضتها على الحرية .
واجه القانون الجديد ، بعد نشرة مقاومة شديدة في الولايات العربية فأخذت الصحف تندد به ، وكتبت جريدة صدى بابل البغدادية في عددها الصادر في 25 آيار سنة 1913م تقول : (( أي قدرة تقدر على إفهام إخواننا الأتراك ، أن العرب في الدولة هم اخلص العناصر وأصدقها وأشدهم تمسكا بالجامعة العثمانية ، إن إخواننا يعلمون ذلك ولكنهم لا يريدون أن يعترفوا يريدون أن يتجاهلوا الأسباب )) . وقد عقدت الاجتماعات في الولايات العربية ، وتقرر فيها الاحتجاج على القانون المجحف بحقوق الوطن والمواطن ، وأبرق عدد من المثقفين في الولايات العربية إلى استانبول يطالبون عدم تطبيق القانون باعتباره غير كافٍ لإصلاح ولاياتهم .
لقد ارتبطت الحركة الإصلاحية بصورة خاصة ، بحزب اللامركزية الإدارية العثمانية في القاهرة ، وكان من مؤسسيه رفيق العظم وحقي العظم ورشيد رضا واسكندر عمون ، وعبد الحميد الزهراوي وداود بركات ، وقد ذكر عبد الغني العريسي أحد القوميين العرب الذين أعدمتهم السلطات العثمانية فيما بعد في اعترافاته أمام المجلس العرفي العثماني في عالية لبنان : إن رئيس الائتلافيين صادق بك كان يتردد على رفيق العظم وجرى بينهما شبه اتفاق بحيث يكون الحزبان عونا على إزاحة الاتحاديين من الحكم .
أسست جمعيات إصلاحية مماثلة لجمعية الإصلاح في بيروت ، في الموصل وحلب ودمشق والبصرة ، كان قسم منها فرعا لحزب اللامركزية الإدارية العثماني ، اما القسم الآخر فكان جمعيات مستقلة نسقت نشاطاتها مع الحزب المذكور .
كانت حركة الوعي القومي في سوريا أقدم عهدا ، وأقوى تنظيما وأكثر أنصارا بالقياس إلى الأقطار العربية الأخرى ، ولقد سبقت كما رأينا حركة الوعي هذه نهضة فكرية ، ولما كان لكل حركة أن تضمن لنفسها واقعا تعمل من خلاله فقد أثمرت تلك النهضة وبدأ صداها يترك أثره على الأوضاع السياسية ، واذا كانت حركة الوعي القومي قد اتخذت في سوريا شكلا منظما جلب انتباه المؤرخين فليس معنى هذا أنه لم تكن هناك في الولايات العربية الأخرى عوامل تعمل عملها في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وفكرية تفاعلت مع بعضها وأدت إلى ظهور الوعي القومي .
إن الاتحاديين بدلا من أن يحققوا للعرب مطامحهم القومية اتجهوا منذ سنة 1913 وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى إلى انتهاج سياسة مركزية متطرفة أثارت حفيظة القوميات الأخرى ومنهم العرب ، هذا فضلا عن اتباعهم سياسية تفضيل الأتراك على غيرهم من عناصر الدولة ، وقد استخدموا الإرهاب في فرض سياستهم ، كما ألغيت الجمعيات العربية العلنية ، وكان لفشل الاتحاديين في الدفاع عن الأقطار العربية ضد الغزو الأوربي الاستعماري أثر في إحساس العرب بضرورة بعث كيانهم الخاص المتميز ، فبدأوا يجهرون برفضهم للسيطرة العثمانية ، ثم لجأوا إلى تنظيم أنفسهم في جمعيات وأحزاب سياسية سرية لمواجهة الأخطار الجديدة .
ولعل من أبرز تلك الجمعيات جمعيتي العهد العسكرية ، والعربية الفتاة .
جمعية العهد العسكرية :
اضطر الأحرار العرب إلى العمل السري بعد ان ازداد اضطهاد الأتراك لهم ، ولعل من أبرز الجمعيات السرية التي تأسست خلال المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى جمعية العهد السرية ، تشكلت في استانبول بزعامة عزيز علي المصري وهو ضابط عربي في الجيش العثماني وبعض الضباط المتحمسين للقضية العربية أمثال سليم الجزائري وطه الهاشمي نوري السعيد وجميل المدفعي وغيرهم ، ولا يوجد تاريخ دقيق لنشأتها ، فقد ذكر عزيز علي المصري بأنه في سنة 1912 أسس جمعية العهد العسكرية ، بينما حدد جورج انطونيوس بداية سنة 1914 تاريخا لنشأتها ، أما أمين سعيد فقد وضع اليوم الثامن والعشرين من تشرين الأول 1913 تاريخا لتأسيس هذه الجمعية .
سميت الجمعية بهذا الاسم ، لأن انتماء أي عضو إليها يعد بمثابة ( عهد ) بينه وبين الله على خدمة الوطن ن وكان هدف الجمعية الحصول على الاستقلال الداخلي للأقطار العربية ، ويقول نوري السعيد : (( بأن هدف الجمعية كان منحصرا في إصلاح الحال على أساس النظام الاتحادي ( فيدراسيون ) ... ولم يفكر أحد منا في الانفصال عن الامبراطورية العثمانية ، وإنما كان تفكيرنا منصبا في الحصول على إدارة عربية محلية ، ولغة عربية رسمية على أن نشترك والعنصر التركي في إدارة سياسة الدولة العامة ... ) كان منهاجها نفس منهاج الجمعية القحطانية التي كشفت السلطات الاتحادية أمرها ، والجمعية القحطانية أسست سنة 1909 في استنابول بزعامة علي المصري ونص منهاجها على ان تؤلف الولايات العربية مملكة واحدة تصبح جزءا من إمبراطورية تركية عربية .
لقد حرص عزيز علي المصري على ان تقتصر جمعية العهد على العنصر العسكري وحده ، لذلك لم يقبل فيها من المدنيين غير اثنين أحدهما الأمر عادل ارسلان أحد الأعضاء الأوائل في الجمعية السابقة ، وقد يكون من المناسب الإشارة إلى أن الضباط العراقيين احتلوا مكانة مهمة في مجالس جمعية العهد ، وقد أنشأوا بين أواخر سنة 1913 وبداية سنة 1914 فروعا للجمعية في الموصل وبغداد ، ولربما يرجع ذلك إلى أن العراق شهد منذ أواخر القرن التاسع عشر ، تأسيس العديد من المدارس العسكرية ( الرشدية والإعدادية )
قررت السلطات العثمانية بعد ان أصبح لجمعية العهد نشاط كبير في استانبول وتسربت الأخبار عن نشوء فروع لها في بعض المدن العربية ، وأنها لقيت تأييدا من الضباط العرب ، أن تقاوم ذلك كله ، وتعمل على تفريق رجال الحركة وتبعثرهم قبل ان يشتد ساعدهم ، لهذا عقدت في يوم 24 كانون الثاني سنة 1914 اجتماعا خاصا في وزارة الحربية حضره الصدر الأعظم سعيد حليم باشا ومحافظ استانبول العسكري جمال باشا ( قبل تعيينه وزيرا للبحرية ) ومدير الأمن العام عزمي بك ، وقد درست في هذا الاجتماع التدابير الواجب اتخاذها لمقاومة الحركة العربية عامة ، وجمعية العهد خاصة واتخذت عدة قرارات أهمها : تولية القيادة في الولايات العربية إلى الضباط الأتراك وإقصاء الضباط العرب ، والاستغناء عن خدمات بعضهم قدر الإمكان وعهد إلى جمال باشا تنفيذ ذلك ، والى شيء من هذا القبيل أشار جمال باشا في مذكراته حين اتهم الضباط العرب العاملين ضمن الفرقة العربية المرابطة في شبه جزيرة غاليبولي بأنهم صرفوا اهتمامهم عندما كانت الحكومة العثمانية مشغولة بالحرب البلقانية بالحرب سنة 1913 إلى ( تعضيد وسائل الابتزاز السياسي التي قام بها ( دعاة القومية من العرب ) في استانبول بدلا من القيام بواجبهم العسكري ، وقد يدل هذا على أن الاتحاديين علموا بوجود حركة عربية بين الضباط العرب ، فقاموا في 9 شباط 1914 باعتقال الرائد عزيز علي المصري ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتقلل من نشاط الجمعية فكان من الطبيعي أن يتناثر أعضاؤها .

جمعية العربية الفتاة :
وهي جمعية سرية أسسها في باريس عام 1911 م مجموعة من الشبان العرب الذين كانوا يدرسون هناك منهم عوني عبد الهادي وجميل مردم ومحمد المحمصاني وعبد الغني العريني ، وتوفيق الناطور ورستم حيدر .
وهدفها تحقيق استقلال الاقطار العربية وتحريرها من النير العثماني ، وفي سنة 1913 نقل مركزها إلى بيروت ، ثم في السنة التالية نقل إلى دمشق حيث بلغ عدد أعضائها المائتين ، وهي أبرز الجمعيات السياسية العربية على الإطلاق ، امتازت بوضوح أهدافها ، ووعي أعضائها ، وإخلاصهم ودقة نظامها وقد بقي سر هذه الجمعية مكتوما حتى النهاية ولم يعرف سرها إلا بعد أن أعلنت الحكومة العربية في دمشق سنة 1918 م ، ومن آيات البطولة التي اتصف بها اعضاؤها أن احدهم فضل الانتحار على الاعتراف ، وفضل آخر المشنقة على إفشاء سر الجمعية ، وقد كان لهذه الجمعية دور كبير في القضية العربية خلال الحرب العالمية الأولى وتشير المؤرخة الفلسطينية الدكتورة خيرية قاسمية إلى أنها عثرت بين أوراق محب الدين الخطيب على كراس يتضمن منهج الجمعية ، ومما جاء فيه أنها تأست (( من قبل فريق من النابتة العربية للقيام بما تفرضه عليهم الوطنية ليتعزز بهم مركزها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي حسب ما تتطلبه طبيعة الوجود )) وكذلك على منشور سياسي للجمعية بعنوان الصرخة الأولى يطالب بالإصلاح والاستقلال الإداري وعليه ختم الجمعية ـ، كما اطلعت على رسالة من عارف الشهابي في 18 آذار سنة 1914 م إلى محب الدين الخطيب يعلمه بقرار الجمعية أن يكون شعارها الألوان الثلاثة التي تمثل التاريخ العربي : الأخضر والأبيض والأسود ، وقد اقترح محمد المحمصاني في رسالة أخرى في 25 نيسان 1914 بأن يعمل ختم للجمعية يجمع النخلة والصقر .
المؤتمر العربي الأول في باريس سنة 1913 م :
زاد الاتحاديون من تعسفهم واضطهادهم للحركة القومية العربية ، الأمر الذي دفع قادة هذه الحركة إلى نقل نشاطهم إلى خارج الدولة العثمانية انطلاقا من الحاجة في تعريف الرأي العام العالمي بمطالب العرب القومية ، ورغبة منهم في توحيد جهود الشباب العربي ونضالهم ، لذلك انبثقت في ذهن فريق من المثقفين والطلاب العرب الذين يدرسون في باريس ومنهم عبد الغني العريسي وتوفيق فايد ، من بيروت وعوني عبد الهادي من نابلس ومحمد المحمصاني في بيروت وجميل مردم من دمشق ، وتوفيق السويدي من بغداد ، فكرة عقد المؤتمر في باريس لمحاولة توحيد كافة القوى القومية بغية ممارسة ضغط مشترك على الحكومة العثمانية والعمل على نشر أخبار القضية العربية خارج الولايات العربية ، وقد تألفت لجنة تحضيرية للمؤتمر مؤلفة من عبد الغني العريسي وعوني عبد الهادي ومحمد طبارة وجميل مردم ومحمد المحمصاني وندرة المطران وشكري غانم وشارل دباس جميل المعلوف تأخذ على عاتقها الاتصال بالمنظمات القومية والشخصيات العربية البارزة.
لقد كانت أولى خطوات اللجنة التحضيرية اتصالها بحزب اللامركزية في القاهرة وعرضها عليه تبني المؤتمر ورئاسته لأنه كان يضم رجالا بارزين في الحركة العربية القومية ، كما إن الإصلاح الذي سيطالب به المؤتمر سيقوم على منهج الحزب ، وقد كانت دعوة حزب اللامركزية تتردد آنذاك في كل أرجاء الوطن العربي ورأت اللجنة أن ذلك من عوامل نجاح المؤتمر والوصول به إلى نتائج ملموسة ، استجاب كثير من قادة الحركة العربية عن اللجنة العليا لحزب اللامركزية : اسكندر عمون ، وعبد الحميد الزهراوي نائب حماة في مجلس مبعوثان ، والشيخ احمد حسن طبارة صاحب جريدة الإصلاح اليومية في باريس ، والدكتور أيوب ثابت سكرتير الجمعية الإصلاحية في بيروت ، وتوفيق السويدي طالب عراقي يدرس القانون في باريس وسليمان عنبر تاجر عراقي وجميل مردم ، طالب سوري يدرس القانون في باريس .
أذاعت اللجنة التحضيرية للمؤتمر بيانا إلى الأمة العربية جاء فيه أةن عقد المؤتمر جاء نتيجة لما يجري في الأقطار العربية من أحداث ولكي (( نثبت للعالم أننا أمة متماسكة ذات وجود حي لا ينحل ومقام عزيز لا يضام وخصائص قومية لا تنزع ومنزلة سياسية لا تقرع ... إننا نصارح الدولة العثمانية بأن اللامركزية قاعدة حياتنا ، وإن حياتنا أقدس حق من حقوقنا ، وأن العرب شركاء في هذه المملكة شركاء في الحرية )) . ثم وجه البيان نداءه إلى العرب قائلا :
إننا ندعو كل من يخفق قلبه لأمة العرب صغيرا أو كبيرا أن يلبي داعي الوطن لاسيما أرباب الزعامات في مقاعد الجمعيات فعليهم نعتمد وإليهم نتجه .. ))
وقد حددت اللجنة الموضوعات التي سوف يبحثها المؤتمر ومن أبرزها : مناقشة حقوق العرب في الدولة العثمانية وضرورة إصلاح أوضاعهم .
عقد المؤتمر أربع جلسات رسمية في قاعة الجمعية الجغرافية الفرنسية بين 18 – 23 حزيران سنة 1913 ، وانتخب عبد الحميد الزهراوي رئيسا له ، وقد حضر المؤتمر حوالي 250 مندوبا يمثلون الأقطار العربية ، وتلقى برقيات تأييد من شخصيات ومنظمات قومية عديدة في الوطن العربي ، وقد اتخذ المؤتمر عددا من المقررات ، أكدت ضرورة الاعتراف بحقوق العرب السياسية الكاملة ، وعلى أن يكون لهم دور في إدارة الدولة وأن يفسح المجال لهم لتحقيق أمانيهم القومية ، وأن تكون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية وأن تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف الاستثنائية ، كما أكدت ضرورة الدفاع عن الأقطار العربية من أي عدوان خارجي ، وقد ناقش المؤتمرون قضية مستقبل الدولة العثمانية ، واشتد الجدل حولها ، ولكن المؤتمر أكد على وحدة الدولة ، شرط الاعتراف بحقوق العرب كاملة ، كشركاء فيها ، والحق بمقررات المؤتمر شروط نصت على أن الأعضاء المنتمين إلى الجمعيات العربية يمتنعون عن قبول أي منصب حكومي في الدولة العثمانية إلا بموافقة جمعياتهم ، كما ان مقررات المؤتمر ستكون بمثابة البرنامج السياسي للعرب القوميين في تعاملهم مع السلطات العثمانية ، وسوف لا يسمح لأي عربي يرشح نفسه للانتخابات إلا إذا تعهد بتأييد هذا البرنامج والسعي لتنفيذه .
إن مقررات المؤتمر المتعلقة بالدعوة إلى الاصلاح والمساواة كانت من القوة ، بحيث أجبرت الحكومة العثمانية على إعلان قبولها لتلك المقررات أو التظاهر بقبولها . فقد أرسلت جمعية الاتحاد والترقي سكرتيرها العام مدحت شكري بك إلى باريس للتفاوض مع رجال المؤتمر في مطالبهم ، وفتحت أبواب المفاوضات ووقع مدحت شكري بك اتفاقا مع عبد الحميد الزهراوي وافق فيه تقريبا على معظم مقررات المؤتمر ، وصادق السلطان محمد رشاد في 8 آب 1913 على الاتفاق وصدر مرسوم سلطاني بذلك ، ولكن اتضح للعرب بما لا يقبل الشك أن الاتحاديين ما كانوا مخلصين في نواياهم .
إذ سلطوا على المؤتمر أقلام أنصارهم من ذوي النزعة العثمانية ، وخاصة الشيخ اسعد الشقيري والدكتور حسن الأسير وشكيب أرسلان ومحمد حبيب العبيدي والشيخ عبد العزيز جاويش وغيرهم ، فهاجموا المؤتمر ، واتهموا أعضاءه بالخيانة ، وقالوا أن غاية أولئك تسليم البلاد إلى الأجانب والقضاء على الدولة والإسلام ، ولم يكتفِ الاتحاديون بذلك ، بل اتخذوا جملة من المقررات السرية في كانون الثاني سنة 1914م منها : مقاومة دعاة الانفصال عن الدولة العثمانية وإلغاء الجمعيات العربية كلها ومراقبة نشاطاتها وإبعاد الضباط العرب عن استانبول وعددهم آنذاك يصل إلى ( 500 ) وتولية القيادة في الولايات العربية إلى الضباط الأتراك والإسراع في تنفيذ سياسة التتريك وتعزيز نفوذ جمعية الاتحاد والترقي في الأقطار العربية ومطاردة العرب الذين يعملون ضد الاتحاديين .
دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى في 4 تشرين الثاني سنة 1914م بجانب دول الحلف المركزي وذلك تنفيذا للمعاهدة السرية المعقودة بينها وبين ألمانيا في 2 آب سنة 1914م ، هذا مع العلم أن الاستعدادات العسكرية العثمانية قد بدأت قبل أربعة أشهر تقريبا من دخولها الحرب رسميا ، إذ شرعت بإعلان النفير العام في 3 آب سنة 1914 ، وقد خلقت حادثة ضرب الموانئ الروسية في البحر الاسود من قبل القطعات الحربية العثمانية في 29 تشرين الأول سنة 1914م الموقف الذي أدى إلى دخول الدولة العثمانية الحرب ، فقد أعلنت روسيا الحرب عليها في 4 تشرين الثاني وتلا ذلك إعلان حرب مشابهة من جانب بريطانيا وفرنسا بعد يوم واحد .
أرسلت السلطات الاتحادية بعد دخولها الحرب مباشرة ، جمال باشا وزير الحربية إلى سوريا وكلفته بمهمة عسكرية ، على رأس الجيش الرابع تستهدف القيام بهجوم على القوات البريطانية في قناة السويس والقضاء على تحركات العناصر العربية القومية هناك ، وقد كان لهزيمة الجيش التركي وخسائره الثقيلة في حملته على قناة السويس ، أثر كبير في ازدياد قلق جمال باشا وحذره وخوفه من ازدياد نشاط القوميين العرب ، لذلك شكل في تموز 1915 الديوان العرفي في عالية بلبنان لمحاكمة الدفعة الأولى من القوميين العرب ، بعد أن وجهت إليهم تهمة العمل ضد الدولة العثمانية بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا ، ومما ساعده على ذلك عثوره في القنصلية الفرنسية ببيروت على وثائق تدين بعض الشخصيات العربية بالتآمر على الدولة ، وفي 21 آب سنة 1915 م نفذ حكم الإعدام في ساحة البرج ببيروت بهؤلاء وهم : عبد الكريم الخليل ومحمود المحمصاني ومحمد المحمصاني وعبد القادر الخرساء ونور الدين القاضي وسليم أحمد عبد الهادي ومحمود نج عجم ومحمد مسلم عابدين ونايف تللو وصالح حيدر وعلي الارمنازي ، وقد اتهم معظمهم بالانتساب إلى حزب اللامركزية ، وبعضهم بالعمل على الانفصال التام عن الدولة العثمانية ، وف 6 آيار سنة 1916 قدم جمال باشا ( وقد سمي بالسفاح منذ ذلك الوقت ) القافلة الثانية من القوميين العرب إلى الاعدام في ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج ببيروت ، فالذين أعدموا في دمشق هم شفيق المؤيد العظم ، وعبد الحميد الزهراوي وعبد القادر الجزائري وشكري العسلي وعبد الوهاب الانكليزي ورفيق رزق سلوم ورشدي الشمعة . أما الذين أعدموا في بيروت فهم جرجي حداد وسعد عقل وعمر حمد ومحمد الشنطي البافي وتوفيق البساط وعبد الغني العريسي والأمير عارف الشهابي والشيخ احمد طبارة ، وسيف الدين الخطيب ، علي الحاج عمر النشاشيبي ومحمود جلال سليم النجاري وسليم الجزائري ، أمين لطفي الحافظ ، وهذا وقد أصدر الديوان العرفي حكم الإعدام الغيابي بحق أكثر من 90 شخصية من أعضاء الجمعيات العربية منعهم رفيق العظم وحقي العظم وشبلي الشبل ورشيد رضا ونجيب عازوري ويوسف البستاني وداوود بركات ومحمد أرسلان .
كان لسياسة القمع و الارهاب التي اتبعها الاتحاديون أثر كبير في ابتعاد العرب عن الدولة العثمانية ، وانصراف تفكيرهم إلى التخلص نهائيا من الحكم العثماني ، هذا فضلا عن سياسة الاتحاديين الاقتصادية والتي تمثلت بمصادرة المحاصيل وفرض الاعانات للجيش باسم التكاليف الحربية ونقل الكتائب العسكرية العربية إلى مناطق بعيدة في جبهات القتال ، وزاد الأمر سوءا انتشار الأمراض والمجاعات في ولايات عربية عديدة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...