إيج قلعة ( القلعة العثمانية الداخلية ) في الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
وأنا أتحدث اليكم ، في حلقة سابقة عن (محلة الميدان) عند باب الجسر ، قلت لكم أن من ابرز معالم محلة الميدان القلعة العثمانية الداخلية والتي كانت تسمى ( إيج قلعة ) .. وللاسف هدمت هذه القلعة وردم الخندق الذي كان يجاورها .
وايج قلعة ، وكانت تطل على نهر دجلة ، وهناك احد ابواب مدينة الموصل المسورة ، وهو من اهم الابواب يسمى (باب القلعة ) وهناك (حمام القلعة) ، الذي يقع اسفل بدن الموصل اي سور الموصل من جهة الميدان . وقد ادركت في الاربعينات باب القلعة والبدن والسكلات وسوق الخشابين في محلة الميدان وكانت القلعة المحاطة بالخندق تلتف حول سور المدينة من الجنوب .
وكما هو معروف ، فإن العرب المسلمون فتحوا الموصل واقليمها سنة 16 هجرية -637 ميلادية وقد وقعت تحت السيطرة العثمانية سنة 1516 ميلادية .. وعند سيطرتهم عليها وجدوا انها في حالة يرثى لها فمنذ غزو المغول لها سنة 1260 ميلادية ومجيء الايلخانيين والجلائريين ودويلات القرة قوينلو والاق قوينلو ومن قبلهم التيموريين وبعدهم الصفويين الفرس تعرضت الموصل لكثير من المجاعات والمآسي والتدمير والتخريب فتقلص عمرانها .. كما يقول شيخنا الاستاذ سعيد الديوه جي في كتاباته عنها وظل في المدينة سوق متهالك وابراج مهدمة هذا فضلا عن سوء اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والفوضى والامية والامراض التي كانت تفتك بأهلها مما ذكره المؤرخ الموصلي ياسين العمري في كتابه (زبدة الاثار الجلية ) فما كاد يمر عام الا والامراض تفتك بالسكان والمجاعات والفيضانات لذلك فكر العثمانيون في ان يعيدوا بناء السور ، ويعمروا ما يمكنهم تعميره من المدينة وكان اول ما قاموا به تعمير السور .. وكان اهل الموصل يسمونه (البدن ) ، وانشأوا القلعة الداخلية التي ترون جنبا منها في الصورة المرفقة لهذا الكلام وقد سموا القلعة التي بنوها القلعة الداخلية والسبب في تسميتها أنها تقع داخل سور المدينة وتقابل سوق الميدان الحالي عند باب الجسر القديم جسر نينوى وهذه القلعة كان يسميها العثمانيين بلغتهم ( إيج قلعة ) أي القلعة الداخلية أما اهل لموصل فيسمونها ( قلعة الموصل ) .
وكان أمام القلعة هذه ساحة واسعة جدا سموها (الميدان) وسبب تسميتها بالميدان انها كانت ميدانا للجيش العثماني سواء في سكنه او تدريباته .
ومن الطريف ان اقول انه بعد خراب وهدم ايج قلعة ظلت الساحة تسمى ساحة الميدان وباب الجسر وفي سنة 1969 قامت بلدية الموصل بإستملاك الدكاكين التي في ساحة الميدان وهدمتها واتخذت الميدان للاسف الشديد ساحة لوقوف السيارات ولاتزال على هذا الحال حتى يومنا هذا .
العثمانيون عندما بنوا هذه القلعة العسكرية الدفاعية احاطوها بالسور . وكان لهذا السور الذي هو جزء من سور الموصل ( أبراج ) تستخدم لوضع المدافع ومن جهة الميدان احاطوها بخندق يحيط بها من الشمال الى الجنوب يأخذ ماءه من نهر دجلة عند باب شط القلعة . وللاسف سويت الارض في الميدان والقلعة بعد ذلك ولم نجد اية اثار لهذا الخندق انا شخصيا لم ادركه لكن المؤرخ الاستاذ سعيد الديوه جي وهو من مواليد 1912 يقول انه ادرك آثار الخندق الذي كان يفصل الميدان عن ايج قلعة اما باب الشط فتروق في محله قنطرة فوقها بناية والباب هذا كان يؤدي الى نهر دجلة وقد جدد بناؤه سنة 1801 ميلادية . ومما يجب علي ذكره ان الخندق كان يأخذ ماؤه من دجلة عند باب شط القلعة ثم يصب الماء في لحف اي بجوار (جامع الاغوات) الحالي والذي عمره اليوم 450 سنة ، وتعرض ايضا جانبا منه للتدمير خلال سيطرة عناصر داعش على الموصل 2014-2017 ، وتعد منارته كما قال لي البروفيسور الفرنسي اندريه ريمون المستشرق الفرنسي الذي زار الموصل في الثمانينات من القرن الماضي ، من انفس منائر المشرق الاسلامي . وما اريد ان اقوله ان وجود الخندق بهذه الوضعية يساعد في حالة الحصار فصل الخندق عن الميدان وعن مدينة الموصل وتصبح في موضع دفاعي قوي .
كان الوالي العثماني بكر باشا بن اسماعيل بن يونس الموصلي وقد تولى الموصل سنة 1030-1031 هجرية 1620-1621 هو من شيد هذه القلعة واهتم بتحصينها لتكون مقرا له ومعسكرا للجيش الانكشاري وقد فصلها عن المدينة بقناة تحيط بها من الغرب والجنوب وتأخذ ماءها من نهر دجلة وكانت تبدو للمرء من خارجها كما قال الرحالة اوليا جلبي في النصف الاول من القرن السابع عشر فخمة بأسوارها الحجرية وكثيرا ما كانت تسمى ايضا (قلعة الموصل ) .وقد ظلت القلعة مركزا للولاية حتى بدء عصر الجليليين 1726 حيث بنوا لهم سراي للحكم قريبا نت باب لكش وظلت القلعة مقتصرة على مهتمها الاساسية بإعتبارها موقعا عسكريا تقيم فيها قوة من الانكشارية .
الشيء الجميل ان بعض الرحالة الاجانب تركوا لنا وصفا لهذه القلعة من خلال زيارتهم للموصل ومن هؤلاء الرحالة الفرنسي ( جان دي تيفنو ) والذي زار الموصل سنة 1644 ، وقال عنها ان في الموصل قلعة مطلة على نهر دجلة يقيم فيها الباشا ويقصد الوالي وشكل القلعة بيضوي يمتد مع النهر وقد بنيت الواجهة المطلة على النهر بحجارة منحوتة ويرتفع السور المحدق بها حوالي ستة امتار اما من جهة اليابسة فهي منفصلة عن المدينة بخندق عميق جدا عرضه عشرة امتار او اكثر .وللقلعة مدخل من جهة اليابسة والبوابة في وسط برج جسيم مربع الشكل مشيد فوق قنطرة كبيرة يجري من تحتها ماء الخندق وقد كان البرج فيما مضى مزودا بالمدافع وقد قيل لي ان هذه القلعة قد بنيت من قبل المسيحيين [يقصد من قبل بنائين من المسيحيين ] وان فيها كنيسة جميلة " .
مما كان يزيد من مناعة سور الموصل وقدرته على الصمود وجود القلعتان الاولى في اعلى المدينة وتطل على دجلة وهي باش طابيا والثانية في الجنوب وهي ايج قلعة وتطل على دجلة ايضا وفي سنة 1788 زارالرحالة هول Howel وقال انها مهدمة .
عُمرت القلعة اكثر من مرة ، منها ان الحاج حسين باشا الجليلي والي الموصل عمرها سنة 1744 اي بعد الانتهاء من معركة الحصار الذي ضربه نادرشاه على الموصل سنة 1743 وقد ارخ الشاعر الموصلي الشيخ قاسم الرامي (توفي سنة 1772 ) ذلك بالتاريخ الشعري وقال :
جدد القلعة اندا الوزرا الوالي حسين ، كما جاء ذلك في كتاب زبدة الاثار الجلية للمؤرخ ياسين العمري .
وتؤكد لنا صفحات التاريخ ان اغوات الانكشارية في القلعة كثيرا ما كانوا يقفون مع الاسرة الجليلية ومثل هذا حدث عندما تولى رجب باشا الحلبي الموصل سنة 1757 للمرة الثانية ونشوب الصراع بين اورطات الانكشارية فريق موالي لاسرة امين باشا الجليلي في باب الميدان وفريق مؤيد لعبد الفتاح بك في باب العراق .
كان الولاة الجليليون يحكمون سيطرتهم على اغوات الانكشارية في القلعة ؛ فالوالي الجليلي كان هو القائد الاعلى لجيش الموصل وليس لأغا الانكشارية الذي يتخذ القلعة مقرا لقيادته كما يقول الاستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف في كتابه (الموصل في العهد العثماني ) أي تأثير على إرادته وكان بإستطاعة الوالي الجليلي معاقبة اغا الانكشارية .
وهناك في المدونات التاريخية اشارات الى بعض الاهمال الذي عانته هذه القلعة من قبل الولاة الذين اتخذوا لهم سرايا (مجموع سراي ) خارج ايج قلعة ولكن القلعة ظلت مقرا للجيش الانكشاري ، ومخزنا للسلاح والعتاد وكان من يشرف على القلعة يسمى (اغا القلعة ) وكثيرا ما كان الانكشاريون يعتصمون بها اذا ما حدثت بعض التمردات على الحكم او نشب صراع بين القوى الداخلية في محاليل الموصل والتي كانت تسمى القوغات .
في سنة 1766 زار ايج قلعة الرحالة الدانمركي نيبور وكتب عنها وقال :" ان ايج قلعة تقع على جزيرة صغيرة مستطيلة الشكل في نهر دجلة وطبعا هو يقصد انها محاطة بالنهر والخندق وانها تستعمل لمخزن للعتاد والذخيرة وانه عندما زارها وجد البواب جالسا عند مدخلها يدخن الغليون" .
وقال :" تركني أجول في هذه القلعة ، ولم يتعرض لي مطلقا فشاهدت كل ما أردت رؤيته على انه لايوجد فيها شيء يثير الدهشة والاستغراب بإستثناء وجود اعداد كثيرة من القنابل التي القيت اثناء حصار نادرشاه عند محاصرة الموصل " .. واضاف انه رأي المدافع والقذائف وقد غارت في الارض وان معظم مباني القلعة قد هدمت وهناك قسم من القلعة مسكونا وابوابها مفتوحة " ومن الطريف انه قال : " وكذلك شاهدت فيها مخزنا مملؤا بخبز الرقاق وقد مضى على خزنه (15) خمس عشرة سنة او لنقل وعشرون سنة وما زال محفوظا " .
واقول انه حتى يومنا هذا في الموصل لاتزال بيوت الموصل تخبز خبز الرقاق وتفيد منه وخاصة في ايام الحصار وهو ما كان مع القسب غذاء للموصليين في الايام العصيبة .
في سنة 1791 زار ايج قلعة الرحالة الفرنسي اوليفييه وقال انها مهملة وفي سنة 1816 زارها الرحالة الانكليزي بكنكهام وكتب عنها في كتابه ( رحلتي الى العراق ) يقول : " يحيط بالقلعة سور وهي خالية من المدافع والمدينة محصنة من جهة الغرب بهذه القلعة والقلعة عبارة عن بناية صغيرة متهدمة تقوم على جزيرة اصطناعية نشأت عن امتداد نهر دجلة من الضفاف التي تقع عليها القلعة الى الخندق العميق الذي يحيط بها وهي تقع قرب جسر القوارب والبناية مثلثة الزوايا مشيدة بالآجر وفيها غرف لسكنى الجيش " .
عندما تولى الموصل احمد باشا الجليلي سنة 1821 ميلادية ( وللمرة الثانية ) 10 ذي الحجة 1233 – 10 رمضان 1237 هجرية – 1818- 1822 ميلادية ) اقدم على ترميم القلعة وترميم السور وترميم قلعة باش طابية وعًمق الخندق الذي يفصل ايج قلعة عن المدينة وجدد مسجد القلعة القريب منها وكانت فيه منارة كما ترون في الصورة المرفقة ومنارته مبنية بالاجر وفيها زخارف تشبه الى حد بعيد زخارف منارة الحدباء والاهم من ذلك انه قام بنقل السرايا اليها واعاد لها هيبتها .
ادرك المؤرخ الموصلي الكبير المرحوم الاستاذ سعيد الديوه جي القلعة وتحدث عنها وقال انه ادرك جانبا من بناية ايج قلعة قبل ان تبنى على قسم من ارضها بناية بلدية الموصل في الميدان والتي هدمت سنة 1939 وكان سوق الميدان امام ايج قلعة ، وقد انشئت على قسم من ارض ايج قلعة (قهوة البلدية ) التي هدمت عند انشاء جسر نينوى ،وعلى قسم من ارض القلعة كانت هناك السكلات التي تباع فيها الاخشاب وتقع على ضفة دجلة .
في الناحية الشمالية من القلعة كانت هناك بناية اتخذت في اواخر العهد العثماني مقرا لدائرة الاملاك السنية وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 اتخذت البناية نفسها مقرا لدائرة الماء والكهرباء وبعضها اتخذ محكمة للبلدية .
وطبيعي كانت جادة نينوى التي فتحت سنة 1914 قد اخذ جزءا من القلعة وكان للقلعة بابان باب يؤدي الى النهر ويسمى باب السر او الصُغ والباب الثاني يؤدي الى الميدان ويعبر اليه بجسر خشبي كان فوق الخندق الذي يحف بالقلعة وبعد هدم القلعة تم انشاء قنطرتين محل الجسر وقد هدمتا فيما بعد .
كان مكتوبا فوق باب ايج قلعة المؤدي الى الميدان ( لااله الا الله محمد رسول الله ) وفي الجانب الايمن من الباب كانت هناك رخامة مكتوب عليها (نصر من الله وفتح قريب ) .
كان جامع القلعة من الجوامع الجميلة وفيه منارة تحدثت عنها قبل قليل وكان مكتوب فوق باب المصلى ابياتا من الشعر تؤرخ تجديد الجامع الذي جرى في عهد والي الموصل احمد باشا بن سليمان باشا الجليلي والذي تولى ولاية الموصل اكثر من مرة اخرها بين ( 10 ذي الحجة 1233-10 رمضان 1237 هجرية 1818-1822 ميلادية وجاء فيها :
لهمة مولانا المؤبد احمد ***محاسن آثار بها يفخر الفخر ُ
وزير له في ذرة المجد عزمه *** جليلة ينحط من دونها النسرُ
لقد شاد بيت الله بعد اندثاره *** لجلب مراضي الله حق له الشكر
ورام له حسن البناء مؤيدا *** وخلد في هذا البناء له الذكر
ففز ايها المولى بقرب مؤرخ *** بتمهيد بيت الله زاه لك الاجرُ 1237 هجرية
وفوق المحراب في جامع القلعة مكتوب : ( فأقيموا الصلاة ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق