الأحد، 29 يناير 2023

الموصل والحمدانيون بقلم : ا.د. ابراهيم خليل العلاف




 



الموصل والحمدانيون

ا.د. ابراهيم خليل العلاف

استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل

رحم الله استاذي الدكتور فيصل السامر الذي كتب اطروحته للدكتوراه في جامعة القاهرة قبل اكثر من 60 سنة عن ( الدولة الحمدانية في الموصل وحلب ) والتي طبعت في كتاب قبل سنوات ورحم الله الصديق الدكتور رشيد عبد الله الجميلي الذي كتب فصلا في (موسوعة الموصل الحضارية 9 التي اصدرتها جامعة الموصل سنة 1992 .والدولة الحمدانية التي حكمت الموصل وحلب بين سنتي 293-381 هجرية 905-991  ميلادية تستحق الاهتمام وتستحق ان نفرد لها حلقة خاصة من برنامجنا هذا والحمدانيون الذين حكموا الموصل خلال هذه الفترة تغلبيون ينتسبون الى جدهم ابي العباس حمدان بن حمدون  وكانت قبيلة تغلب من اعظم قبائل ربيعة شأنا . وقد ظهروا كقوة اجتماعية في عهد الخليفة المعتضد بالله وكانوا ثائرين عليه وعلى الدولة العباسية وكانت ثورتهم قد تركزت في اقليم الجزيرة الفراتية والموصل كانت قاعدة لاقليم الجزيرة العربية منذ ايام الفتوحات الاسلامية كانت قاعدة عسكرية وادارية واقتصادية واجتماعية وقد استطاع الخليفة المعتضد استيعاب الزعماء الحمدانيون الذين وجدوا ان الضرورة تقتضي توحيد جهودهم مع العباسيين من اجل النهوض بأقاليمها وتأكيد وحدتها واستعدادها للقضاء على القوى المعرضة والخارجة عن الحكم وخاصة حركة الحسين بن زكرويه القرمطي سنة 290 هجرية – 903 ميلادية وقد استطاع القائد الحمداني الحسين بن حمدان من اخماد الحركة هذه واسر قائدها والاتيان به الى بغداد حيث اعدم سنة 291 هجرية – 904 ميلادية .

النقطة التي اريد ان اتحدث عنها ان الحمدانيين وضعوا جهودهم في خدمة الدولة العباسية في محاولة منهم لتأكيد قوة العرب واسهم اربعة من اسرة بني حمدان في مواجهة الدولة العباسية مع الطولنيين في مصر ودخلوا مصر وبعدها اثبت القائد الحمداني الحسين بن حمدان جدارته في قمع حركة الخارجين على الدولة العباسية حلال عهدي الخليفة المعتضد والخليفة المكتفي 283-294 هجرية – 896- 907 ميلادية وكان من نتائج هذا الموقف ان وافق الخليفة  المكتفي على تعيين القائد الحمداني ابو الهيجاء عبد الله بن حمدان وهو شقيق الحسين بن  سعيد الحمداني واليا على الموصل واعمالها اواخر سنة 292 هجرية -905 ميلادية  ومنحه لقب ( ناصر الدولة )   والحسين بن سعيد الحمداني هو اخو الشاعر الكبير ابو فراس الحمداني  ( ذكر ابن خلكان في الصفحة 364 طبعة بولاق من الجزء الاول من كتاب (وفيات الاعيان )  ان ان من ولي حلب من بني حمدان هو الحسين بن سعيد الحمداني وانه توفي بالموصل لاربع عشرة ليلة بقيت من جمادي الاخرة سنة 338 بالموصل ودفن في المسجد الذي بناه في الدير الاعلى )  .. وكان ذلك بداية حكم الحمدانيين للموصل والذي استمر حتى سنة 381 هجرية -991 ميلادية .

ومما هو جدير بالذكر ان الدولة الحمدانية امتدت لاحقا بإتجاه حلب وسائر  بلاد الشام وقسم  من جنوب الاناضول الحالية  .

الذي اريد ان اقوله ان مهمة الحمدانيين في الموصل لم تكن سهلة ؛ فلقد واجهوا حركات الخوارج الجدد الذين  هددوا وحدة الدولة العربية الاسلامية ايام العباسيين وقد كانت هذه الحركات قد استقرت في اقليم الجزيرة الفراتية بقيادة صالح بن محمود الذي كان يعبث بمقدرات المناطق القريبة من مدينة الموصل ومنها سنجار من خلال جمع الاموال تخحت مسمى الزكاة وقد نجح الحمدانيون في تحرير كل هذه المناطق من الخلكن في نهاية الامر وارج الجدد والقاء القبض على قادتهم وارسالهم الى بغداد .

نقطة اخرى تسجل للحمدانيين وهي مواجهتهم للروم والذين كان خطرهم يتزايد على حدود الدولة العربية الاسلامية الغربية وكانوا يسعون من اجل استعادة بلاد الشام من المسلمين العرب وكثيرا ما كانوا ينظمون حملات للاغارة على مدن الشام الحدودية لكن القائد الحمداني سعيد بن حمدان تصدى للروم في شميشاط سنة 319  هجرية  - 931 ميلادية وانتصر عليهم وردهم على اعقابهم وواصل زحفه في بلاد الروم وحقق الكثير من الانتصارات عليهم .

العلاقات بين الحمدانيين والعباسيين لم تكن دوما على مايرام لكن الحمدانيين ما لبثوا ان كسبوا ثقة الخلفاء العباسيين الى درجة انهم تولوا منصب امير الامراء في بغداد وهو منصب مهم وثمة من يقول ان الخلفاء العباسيين كانوا بحاجة لنفوذ الحمدانيين بإعتبارهم عربا في تأكيد هوية الدولة وشخصيتها الحضارية وفي مواجهة البويهيين الفرس .

لقد حمل القادة الحمدانيون لواء المعارضة للنفوذ البويهي منذ ان بدأ الظهور ببغداد سنة 334 هجرية – 946 ميلادية وقد نشبت بين الحمدانيين والبويهيين صراعات ادت الى دخول ناصر الدولة الحمداني بغداد لكن احمد بن بويه وكان يلقب نفسه ب (معز الدولة ) ما لبث ان الحق الهزيمة بناصر الدولة الحمداني وبعدها وقع الصلح معه سنة 335 هجرية - 947 ميلادية  لكن الصلح لم يدم طويلا اذان ان ناصر الدولة الحمداني لم يفِ بتعهداته في دفع التزاماته المالية فعاد الصراع ثانية وتكرر الامر اكثر من مرة وكانت النتيجة اقصاء ناصر الدولة عن ولاية الموصل سنة 353 هجرية  964 ميلادية ، وحل محله ولده ابو تغلب فضل الله وفي عهد هذا الامير تفجر الصراع بين القادة الحمدانيين مما اتاح الفرصة للبويهيين التدخل في شؤونهم وتمكن عضد الدولة البويهي من دخول الموصل وارغم ابو تغلب  التنحي ثم التوجه نحو دمشق وقد قتل في الطريق وهكذا انتهى حكم الحمدانيين للموصل واقليم الجزيرة الفراتية سنة 369 هجرية -979 ميلادية .

الذي يهمني ان اشير اليه وانا اتحدث عن الموصل في عهد حكم الحمدانيين للموصل ان اوضاع الموصل الاقتصادية وخاصة الزراعية ازدهرت كثيرا حتى ان ابن حوقل اشار الى ذلك في كتابه (المسالك والممالك  ) وقال انه " غرسوا الاشجار وكثرت  الكروم وغرست الفواكه وغرست اشجار النخيل والخضر "كما اولى الحمدانيون زراعة الرز والحبوب عناية خاصة وقيل ان خراج القمح والشعير بلغ في عهدهم خمسة ملايين درهم .

ومما يسجل لهم انهم جنوا اموالا كبيرة وامتلأت خزائنهم بالاموال لذلك كانوا معروفين بالاسراف في العطاء الى درجة ان سيف الدولة الحمداني امر بسك  دنانير للصلات في كل دينار عشرة مثاقيل وعلى كل دينار اسمه وصورته وقد امتدح البلداني ابن حوقل سياستهم الزراعية في حين انتقدها اخرون وقالوا انهم كانوا يضطون  اقتصاديا على الناس ويقول الدكتور رشيد عبد الله الجميلي ان سياسة  الحمدانيين الاقتصادية كانت تهدف الى التنمية  الزراعية  وزيادة الانتاج وتعظيم الخراج للاستفادة من الواردات في حروبهم الكثيرة ضد الروم البيزنطيين .

ولم تكن الزراعة في نطاق اهتمامات الحمدانيين بل اهتموا ايضا بالتجارة وصيانة طرق القوافل التجارية وضمان امنها وقد تعاونوا مع الدولة العباسية ببغداد وادى ذلك الى ازدهار التجارة في الموصل خلال القرن الرابع الهجري –العاشر الميلادي واكد البلداني ابن حوقل ان الموصل امتازت بأسواقها الكثيرة بحيث كان لكل صنف من اصناف البضاعة سوقان او ثلاثة او اربعة خاصة بها وكان كل سوق منها يضم مائة حانوت او اكثر " .

وفي مجال الصناعة تميزت الموصل في عهد حكم الحمدانيين بشهرتها في بعض الصناعات التي غزت اسواق اوربا واسيا وبرز نخبة من الحرفيين المهرة وشجع الامراء الحمدانيون هذه الصناعات وركزوا على كل ما له علاقة بالترف من ثياب وسجاد وزجاج وعطور وحلي وما له علاقة ببناء القصور والمساجد والحصون والمشاهد وصناعة الاسلحة وكانت الموصل في عهدهم من مراكز صناعة النسيج في الدول العربية الاسلامية وبرع نساجو الموصل وصنائعها واشتهرت الموصل بصناعة التحف المعدنية المطعمة بالذهب والفضة وبإسلوب التكفيت وكان لمدرسة الموصل في صناعة التحف تأثيراتها في الشام ومصر .

فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي فإن الحمدانيين اكدوا عروبة الموصل لذلك توافدت على الموصل القبائل العربية من الخزرج وتميم وبنو قيس وهمدان وربيعة والشهوان وبنو شيبان وربيعة كما دخلتها ايضا عشائر كردية سكنت المنطقة الواقعة شمال وشمال شرق الموصل ووفد اليها التركمان خاصة بعد دخول البويهيين بغداد سنة 334 هجرية - 946 ميلادية  .

وقد حرص الحكام الحمدانيون على تشجيع الاحتفالات الدينية كالاحتفال بالملد النبوي الشريف وزيارة قبر النبي يونس عليه السلام وكثيرا ما كانوا يشجعون الاهالي واصحاب الحرف على ممارسة الفروسية والخروج الى ظاهر المدينة للنزهة وزارة الاديرة والمواقع التاريخية وقد عرف الامراء الحمدانيون بغناهم وتزايد ثرواتهم فبنوا القصور الفخمة التي تحيط بها الحدائق الفسيحة ومن اشهر قصورهم قصر ابو تغلب بن ناصر الدولة على نهر دحلةوقد عكس الشاعر الموصلي السري الرفاء صورة هذا القصر في قصائده وصور لنا مظاهر الحياة الاجتماعية في الموصل وكان من نتائج ذلك ان ازدهرت الحركة الثقافية ونشط الشعراء والادباء واجتمعوا على ابواب الامراء من بني حمدان ومن الشعراء  والادباء والبلدانيين الذين برزوا في عهدهم فضلا عن السري الرفاء والجغرافي احمد بن حوقل صاحب كتاب (المسالك والممالك ) وابو الفتح عثمان ابن جني النحوي الكبير صاحب المصنفات ومنها كتاب (الخصائص ) وكتاب ( سر صناعة الاعراب ) .وقد حفلت المدونات التايخية بالكثير من الشعراء والادباء وقسم منهم من الامراء الحمدانيون انفسهم ومنهم مثلا الشاعر لابو تغلب ناصر الدولة .

واخيرا لابد ان اقول ان الحمدانيين اهتموا بالعمارة واصلحوا المسجد الجامع في محلة الكوازين وشيدوا مساجد منها مسجد ابي حاضر وبنوا دارا خاصة للامارة قرب قصر قره سراي الحالي على نهر دحلة وكانت لهم قصور منها قصر ابي الحسن ياروخ بن عبد الله على نهر دجلة وقصر لبي تغلب ناصر الدولة وقد كتب ياقوت الحموي يقول عن قصور الموصل انها كانت مبنية من الرخام والنورة اي الجص وكانت الموصل كمدينة في عهدهم قد توسعت وفتحت فيها شوارع جديدة تربط بين احيائها وارباضها ومن هذه الطرق درب دير الاعلى  عند باشطابية الحالية اي القلعة الرئيسة ودرب باصلوت ودرب الجصاصين ودرب جميل ودرب  رحى امير المؤمنين ودرب الدباغين  ودرب ايليا الطبيب والى جانب هذه الدروب كانت ثمة سكك منها سكة ابي نجيع.

لقد كانت الموصل في عهد حكم ال حمدان تزخر بأصحاب الخبرة والمهارة من البنائين والفنانين الذين تميزوا بالزخرفة وفن الحفر على الخشب والجص والرخام وقد اشار الاستاذ يوسف ذنون الكاتب والباحث والخطاط المعروف الى ان كثيرا من القصور والمنشآت والعمائر في الموصل والتي تعود للعهد الحمداني ظهرت فيها الزخارف الجصية التي تتألف من رسوم نباتية تتخللها صور حيوانات كالغزال والاسد والبط والحمام واشار الى لوح رخامي عثر عليه شمال موقع مزار الامام يحيى بن القاسم في الموصل فيه زخرفة  تعود الى نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريين  وتحمل بقايا اثار المسجد الذي بناه لنفسه الحسين بن سعيد الحمداني المتوفى سنة 338 هجرية .950 ميلادية .

وهكذا تميز العهد الحمداني في تاريخ الموصل ليس في جوانبه السياسية والادارية والعسكرية بل في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهذا ما نلمسه في ان العهد الحمداني في الموصل لايزال حيا في ذاكرة الموصليين التاريخية .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...