التاريخ النفسي لمطولات الشاعرة نازك
الملائكة
ابراهيم العلاف
حين صدر
المجلد الاول من ديوان نازك الملائكة عن دار العودة ببيروت سنة 1970 0 صدر
بمقدمة ضافية كتبتها الشاعرة نفسها في
بحمدون بلبنان يوم 11 آب سنة 1970 وقالت إن
الاثر الشعري في هذا الكتاب ثلاث صور شعرية لقصيدة واحدة أولها قد نظم بين سنة
1945 وسنة 1946 وثانيها قد نظم سنة 1950 وثالثها متأخر التاريخ حتى 1965 ويمكن ان تعد كل قصيدة من هذه القصائد
المطولة مستقلة عن الاخريين .والشاعرة تقصد مطولاتها : عاشقة الليل ومأساة الحياة
وأغنية للانسان .وتضيف انها قد يمكن عدها
مستقلة لولا انها نسخت بعض الابيات احيانا ونقلتها من قصيدة الى اخرى على اعتبار
انها مازالت ترضي ذوقها رغم مرور السنين .ولعل من المفيد- تقول الشاعرة – ان تشرح الظروف الزمنية
والنفسية والفكرية التي احاطت بها في خلال عشرين عاما من 1945 الى 1965 .
لقد نظمت القصيدة الاولى في سنة 1945 ، وكان عمرها اذ ذاك 22 سنة . ولم
يكن ديوانها الاول :"عاشقة الليل " قد ظهر الى الوجود أو طبع وكانت
انذاك تقرأ الشعر الانكليزي وتقول لماذا لايكون لنا في شعرنا العربي مطولات شعرية ؟
.. وكتبت :"مأساة الحياة " فيها كانت كشوبنهاور متشائمة جدا لابل فاقت
شوبنهاور نفسه والذي كان يقول :" حتًام نصبر على هذا لالم الذي لاينتهي ونعترف ان حب الحياة اكذوبة وان
الموت أعظم نعيم للانسان ! .
وهكذا بدأت نظم المطولة على البحر الخفيف
الذي يجري – كما كانت تقول - بين يدي
الشاعر كما يجري نهر عريض في ارض منبسطة .وقد بلغت القصيدة الفا ومائتي 1200 بيت
نظمتها في ستة اشهر وانتهت منها في سنة 1946 وكان موضوعها يتناول الموت والحياة
وما وراءهما من أسرار .
ومع هذا تخللت القصيدة شكوى من المآسي التي
سببتها الحرب العالمية الثانية ودعت الى السلام ونددت بالغرب وبتجار الحروب وقاتلي
البشر ثم تحدثت عن السعادة وبحثت عنها في كل مكان ولم تجدها .
إنظري ،هل ترين َ غير بقايا
ذلك العالم ِ الجميلِ الخصيب ِ
هل تبقى منه سوى دِمَن جَدْ
باء في قبضة الدمارِ الرهيبِ
ياقصورا بالامس ِ كانت هنا يض
حك من حولها ندى واخضرارُ
اصبحت مسكن الخرابِ,جفت ْ
في حماها العطورُ والازهارُ
أين اهلوكِ ياقصور ؟ وفي أي
قبور ثووا أتحت الثلوج ؟
أم ترى مزقتهموا قاذفات ال
نار في عاصف رهيب الاجيج ِ ؟
في سنة 1949 أصدرت مجموعتها الشعرية الثانية :
"شظايا ورماد " وفيها دعت الى الشعر الحر . وفي سنة 1950 كان اسلوبها
الشعري قد تطور عما كان ايام نظمها للمطولة فلم تعد راضية عن " مأساة الحياة
" لهذا قررت ان تعيد نظمها وسرعان ما وجدت نفسها امام قصيدة مطولة جديدة
اعطتها عنوانا جديدا هو :" اغنية للانسان " ، بلغت ابياتها 586 بيتا من
الوزن الخفيف نفسه .
وتقول الشاعرة نازك الملائكة انها مع هذا
شعرتْ بالضيق بسبب عدم عثورها على السعادة ، لكنها وجدت ان السعادة ممكنة وتوقفت
عن النظم بعد أن إستعصى عليها الامر ، ولم توفق في ان تجد صلة بين ماضيها القديم وآرائها
الجديدة فتوقفت عن النظم وتركت القصيدتين خمسة عشر سنة من 1950 الى 1965 وراح
زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة يحثها على اتمام مشروعها واكمال مطولتها :" اغنية للانسان "
وفي ذات صباح من سنة 1965 جلست لتُعدل في مطولتها :"مأساة الحياة "
لكنها وجدت نفسها امام صورة جديدة من القصيدة والشيء الاهم ان نظرتها الى الحياة
تغيرت وحل محل التشاؤم الايمان بالله والاطمئنان الى الحياة وقد راح جو مأساة
الحياة يتبدد تدريجيا ...المهم انها قدمت في ديوانها عند دفعه الى المطبعة عملا
ادبيا متكاملا وهذه المطولة بصورها الثلاث تدل على خط التطور في شعرها مابين
السنوات العشرين من 1945 الى 1965 .
ان الشاعرة نازك الملائكة ، وهي تقدم مطولتها
الشعرية :"مأساة الحياة وأغنية للانسان " تعرف انها تقدم للقارئ التاريخ النفسي لتحولاتها وارتباط ذلك كله
بالتيارات الخفية من عواطفها واراءها وحتى حياتها. ومهما يكن من أمر ؛ فإن نسخة 1945 كاملة لانقص فيها وأما القصيدتان
التاليتان فحسبها انهما تقدمان الحقيقة الشعرية التي تختلف عن الحقيقة القصصية
.فالشعر - كما تقول – أعمق وأجمل من مجرد
الموضوع الذي يعالجه ولذلك يمكن ان ترتوي مشاعرنا بجزء من قصيدة .واما القصة فإن
تمام الحكاية فيها جزء من كمالها لاينفصل عنه .
ثم اقتبست الشاعرة نماذج من موضوع واحد من
القصائد الثلاث ليرى القارئ إتجاه التطور في شعرها عبر عشرين سنة :ورد في
"مأساة الحياة " سنة 1945 في موضوع البحث عن السعادة عند سكان الاديرة ما
يلي :
ايها الراهب الذي يقطع العمر
وحيدا في كوخه المكفهر
هات حدثني العشية عما
عند دنياك من نعيم وبشر
أما في نسخة 1950 فهذه هي الصورة التي صورت
بها مشاعر الرهبان ومملكتهم التي تقوم على الكبت والحرمان :
شيدوها من كل لفنه شوق
في العيون الحبيسة المحرومه
وسقوا ارضها الجديبة من بركان
تلك العواطف المكتومه
وفي نسخة سنة 1965 تحولت هذه المعاني الى
الصيغة التالية :
ايها الراهب الذي يقطع العمر
وحيدا في غرفة منسيه
ومما يلحظ ان نسخة 1965 قد لمحت تلميحا واضحا
الى ان هذه الشاعرة لاتنظر بعيدا ولاعميقا وهي تبحث عن السعادة وانما هي متشائمة
لان نظرتها تقع فوق السطوح ولاتغوص عميقا وقد جاء هذا المعنى في :"انشودة
الرياح " التي خاطبت الشاعرة قائلة :
أنصتي تسمعي
في السكون حفيف
وانظري تبصري
أن جدبي وريف
لكِ قلب غفا
عن معاني الذرى
لكِ روح ثوى
قي ضباب الكرى
وهذا التطور –تختم الشاعرة نازك الملائكة
قولها – هذا التطور هو التمهيد لفكرة عثور الشاعرة على السعادة في ختام القصيدة .
واخيرا لابد لي ان اقف عن الابيات الاولى من
مطولتها :"مأساة الحياة ":
عبثا تحلمين شاعرتي ما
من صباح لليلِ هذا الوجود
عبثا تسألين لن يُكشف السر
ولن تَنعمي
بفك القيود ِ
في ظلال الصفصاف قضيتِ ساعا
تك حيرى تُمضك الاسرارُ
تسألين الظلال والظل لا يع
لم ُ شيئا وتعلم الاقدار ُ
ومن اغنية للانسان التي نظمتها سنة 1950
تقول في مطلعها :
في عميق الظلام زمجرت الام
طار في ثورة وجُن الوجود
طاش عصف الرياح والتهب البر
ق وثارت على السكون الرعودُ
ثورة ثورة تمزق قلب ال
ليل والصمت بالصدى البريق
ثورة تحت عصفها رقد الكو
ن عميقَ الاسى كجرح عميقِ
وفي عاشقة الليل تقول في قصيدتها
:"ذكريات ممحوة "
وجهك أخفاه ضباب السنين ْ
وضمًه الماضي الى صدره ِ
ألقى عليه من شبابي الحزين ْ
أحزان قلب تاه في ذعرهِ
وصوتكَ الخافي خبا لحنهُ
واوحشت سمعي َ اصداؤه
فلست أدري الان ما لونهُ،
ما رجعهُ
الصافي ، وإيحاؤه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق