الغـزو الفرنسي لمصر في كتـاب المؤرخ الموصلي ياسين بن خير الله الخطيب العمري ( 1744 ـ 1816 ) الموسوم " غرائب الاثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر"
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
نشبت الثورة الفرنسية في 14 تموز 1789 . وتزعمت الفئة الجديدة التي قادت الثورة ، توجيه سياسة فرنسا الخارجية نحو تحقيق مصالح استعمارية في الوطن العربي .. وكان غزو مصر سنة 1798 جزءاً من خطة واسعة لاتخاذها قاعدة لضرب المصالح البريطانية المناوئة في الهند والخليج العربي ، وبالتالي تحقيق الهدف الاستعماري بإقامة امبراطورية فرنسية في الشرق على غرار امبراطورية الاسكندر المقدوني في العصور القديمة .
وفي الاول من تموز سنة 1798 بدأ انزال الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال نابليون بونابرت بالقرب من الاسكندرية ، وبعد مقاومة عنيفة من سكانها ، استطاع بونابرت احتلالها ، ثم زحف نحو القاهرة ليحتلها في 21 تموز 1798 . ثم غزا بونابرت بلاد الشام ، بهدف تحقيق مصالحه الاستعمارية وايقاف الجيوش العثمانية التي بدأت بالزحف نحو مصر . وقد سقطت العريش بيده وكذلك الرملة وغزة ويافا . وفي اذار ضرب الحصار على عكـا والذي استمر ثلاثــة اشـهر ، اضـطر بعدهـا الى الانسحاب امام حصونها المنيعة ومقاومة اهلها الباسلة . وبعد عودة بونابرت ، الى مصر قرر مغادرتها الى فرنسا بعد ان سمع بحدوث بعض المشاكل هناك ، تاركاً للجنرال كليبر امور قيادة جيشه .
لقد شعر الجنرال كليبر ، انه على ارض معادية له ، وانه لا يستطيع البقاء فيها يعد ان واجه الثورات والانتفاضات في كل مكان . وبدأت لذلك المفاوضات الفرنسية ـ العثمانية التي اختتمت بمعاهدة العريش في كانون الثاني 1800 وبموجبها انسحب الفرنسيون من مصر ، وهكذا فشل الغزو سياسياً وعسكرياً ، وامتلك المصريون ارادتهم .
لم تكن الاقطار العربية غائبة عن معركة مصر مع الغزاة. فمنذ الايام الاولى للغزو التجأ الى بلاد الشام اولئك الذين رفضوا التعاون مع الفرنسيين فجعلوها مركزاً لنشاطهم ومقاومتهم . ولم تجد نفعاً رسائل بونابرت الى كل من شريف مكة وامام مسقط لاستمالتهم الى جانبه . وعندما وردت الى الحجاز اخبار احتلال الفرنسيين لمصر انزعج اهل الحجاز وضجوا بالحرم . وقاد احد المغاربة في منطقة البحيرة حركة ضد المحتلين . ولقد اسهم العراقيون في تخليص مصر من المحتلين ، حين ارسلوا المجاهدين ، وقدموا الاموال لمقاومة الفرنسيين . وفي الموصل سمع الاهالي بالغزو الفرنسي وانزعجوا كثيراً ويكشف لنا كتاب المؤرخ الموصلي المعاصر للغزو ، وهو ياسين بن خير الله الخطيب العمري ( 1744 ـ 1816 ) الموسوم (( غرائب الاثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر)) ، الذي عنى بطبعه ونشره في الموصل سنة 1940 المرحوم الدكتور محمد صديق الجليلي ، مدى متابعة الموصليين لما كان يجري في الاقطار العربية من احداث في تلك المرحلة الخطيرة .
ان المعلومات التي يوردها مؤرخنا الموصلي في كتابه هذا الذي يغطي السنوات 1785 ـ 1815 ، تعد دقيقة ومُفصلة . ففي حوادث السنة ( 1213 هـ ـ 1798م ) يورد خبر غزو الفرنسيين لمصر مشيراً الى محاولة الغزاة استمالة الاهالي واستخدام المكـر والخديعة والحيلة ، قائلاً : (( وفيها ملك الفرنج الفرنسيون مدينة اسكندرية ... ثم ملكوا مصر ( القاهرة ) والرملة وغزة ويافا بالغدر والحيلة والمكر ثم ملكوا الباقي بالسيف . قيل انهم قدموا الى مصر في ثمانين مركباً فيهم ثمانون الف مقاتل ... وخرج من مصر الوالي بأمواله ... وجرت امور يطول شرحها والسلطان سليم ( الثالث ) لا يعلم بها ... )) . ويواصل مؤرخنا حديثه ليقول : (( لما ملك مصــر ( الفرنسيون ) طمعوا في البلاد ، وملكوا غزة والرملة ويافا وعزموا على اخذ بيت المقدس ، فالتقاهم الشيخ يوسف بن الجراد ، وقاتلهـم وقتل مـن الفرنسيين خمسـة الاف ... ثم عزموا على اخذ عكا وفيها الوزير احمد باشا الجزار ، وكان عنده ثلاثون الف مقاتل ، فزحفوا الى عكـا فضربوهم بالمدافع وهم لا يكفون ... ففتح الجزار باب البلد ، وخرج بمن معه وهزم الفرنسيين وقتل منهم ، نحو عشرين الف وابعدهم عن عكا مسيرة يومين)) .
وفي حوادث السنة 1216هـ ـ 1801م يتحدث مؤرخنا الموصلي عن ظروف خروج الغزاة من مصر قائلاً : (( وشدو الحصار ، فأرسل الفرنسيون يطلبون الامان ويسلمون له ( للقائد يوسف باشا ) مصر فصالحهم ( معاهدة العريش ) وخرجوا من مصر وتوجهوا الى بلادهم .. وقيل ان يوسف باشا حاصر ( القاهرة ) ثلاثة ايام ... وهرب مقدمهم وقائدهم برته بول ( بونابرت ) ... ثم خرجت الجيوش الفرنسية من مصر ... وساروا الى الاسكندرية بالمراكب)) .
ويتطرق المؤرخ الموصلي الى عودة المجاهدين من اهل ولاية الموصل الى بلادهم بعد ان اسهموا مع اخوانهم في القتال ضد الغزاة فيقول : وفي سنة 1801 (( قدم الى الموصل أحد أهل الجهاد ... )) والذي كان قد (( سار الى مصر في عشرين رجلاً )) (( وبلغ خبره يوسف باشا ، فأكرمه واعطاه جملة صالحة من الامـوال وكتـب له فرمانـاً في اربعين أقجـة ( والاقجة عملة فضية عثمانية كانت تعادل في القــرن السادس عشر نصف درهم ) من خراج الموصل)) .
ان هذا الذي اورده المؤرخ العمري ، يدل دلالة واضحة على تضامن الموصليين والعراقيين جميعاً مع اخوانهم في مصر ، حين سمعوا بأنباء العدوان الاجنبي . وبعد ان تأكدت في العراق اخبار جلاء الغزاة عن مصر والشام ، عم فرح شديد وأقيمت الاحتفالات على مدى ثلاثة ايام .
في مثل هذا اليوم 20-10-1798 وانا أعيد نشر مقالتي هذه تحل ذكرى اندلاع ثورة القاهرة الاولى ضد الغزو الفرنسي وراح ضحيتها ( 2500 ) شهيدا فيما خسر الفرنسيون (16) فردا بينهم جنرال .من هنا فان على فرنسا اليوم ان تعتذر عن ماضيها الاستعماري ليس في الجزائر وحسب بل في مصر وتونس وفي كل الاراضي التي احتلتها وغزتها .
* نشرت في جريدة الحدباء ( الموصلية )،15 مايس1984 ثم اعيد نشرها في كتابي :اوراق تاريخية موصلية ،مكتب الفتى ،2006 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق