إنجيل
بغديدا المصور 1220 ميلادية
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
من أجمل الهدايا التي وصلتني منذ سنة 2008 ، كتاب جميل بعنوان (
فن التصوير عند السريان في التاريخ الوسيط ) .. والكتاب من تأليف الاخوين الاب
لويس قصاب والدكتور يوسف جرجيس جبو الطوني ، وانا اشكرهما .. وقد سبق ان نوهت الى
الكتاب - الموسوعة المطبوع بدمشق الشام 2008 ، واشدت بجهود المؤلفين الفاضلين في
حينه من خلال جريدة ( فتى العراق ) الموصلية التي توقفت سنة 2009 لوفاة صاحبها
ورئيس تحريرها المرحوم الاستاذ احمد سامي الجلبي .
اليوم أعود
الى الكتاب الذي يقع في (424) صفحة من القطع الموسوعي الكبير ، وبإخراج رائع ،
وبحلة قشيبة ، وبورق أرت صقيل، وبصور رائعة جدا لاتحدث عنه امامكم احبتي الكرام لاهميته ولكونه
مصدرا مهما من مصادر الاهتمام العربي بالتصوير .
الكتاب يتألف من بابين ومقدمة وفهرست وقائمة بمصورات الكتاب
واخرى بأيقونات الكتاب، وثالثة بالمصادر والمراجع .في الباب الاول الذي عنوانه :
المضامين التاريخية والفنية وقف المؤلفان ، وعبر اربع فصول عند السريان والتاريخ
والفن عند السريان وسماته ، والصورة ، والايقونة السريانية ورموزها والعناصر
المعمارية والزخرفية والفنية .
اما في الباب الثاني فقد انصرف المؤلفان لملاحقة البناء الشكلي
لأيقونات القراءات الدينية المقدسة للسنة الطقسية السريانية المتمثلة في ( مخطوط
بغديدا المصور والذي يعود الى سنة 1220 ميلادية ) .وفي الباب مداخل وعدة فصول هي
على التوالي : ايقونات البشارة والميلاد ، وايقونة المعجزات والشفاءات ، وايقونات
دروب الالام والصلب والقيامة ، وايقونات الظهور والتجلي، والعذراء والطفل من خلال التأصيل
المتوفر في الكتاب المقدس وفي القرأن الكريم .
من اجمل المصورات التي ضمها الكتاب ، تلك التي انجزها باكوس
البغديدي ، وبهنام بن موسى الموصلي وهي تحكي بالخطوط والانحناءات.. بالنور
والعتمات ما قام به السيد المسيح عليه السلام من افعال وما قاله من كلام يلبي حاجة
الانسان للمعرفة ، وللخلاص ، ومناغاة الروح .
والكتاب ، ايضا
، يتتبع انجيل بغديدا المصور ، وينطلق من منظور دراسة فن التصوير السرياني من خلال
ايقونات القراءات الانجيلية .. ويقينا ان الفن السرياني فرع من الفن الشرقي القديم
ثم الارث الهلنستي الذي تفاعل معه بعمق .. وما هو منشور في هذه الموسوعة يعكس ايضا
العادات والتقاليد والادوات والملابس والشخوص ومن المؤكد ان الفنان العراقي ( الواسطي ) كان في طليعة الفنانين
العراقيين الذين استقوا معارفهم ومهاراتهم الفنية من اساتذتهم السريان .
في دير الشيخ متي ، وجدنا اعمالا أشار اليها الكتاب هذا
واعتمدها وهذه الاعمال رائعة بكل المقاييس .. وللاسف نحن لانعرف من هم اولئك
الفنانين المجهولين .. ومن المؤكد انهم من الرهبان الذين فتنهم الفن ، وحرك نفوسهم
، وكانوا يرون ان تلك الايقونات لها قدرات ليست فنية فحسب بل تهذيبية ، وارشادية .
في معظم الايقونات التي تضمنها انجيل بغديدا المصور جعل رهبان
دير مار متي عين الرائي تنجذب نحو السيد المسيح عليه السلام ، وبعدها يجول الناظر
بصره في بقية اجزاء الصورة وذلك لان الفنان حسم مركز السيادة في هدفها الرئيسي وهو
المسيح وقد استخدم رهبان جبل الالوف طرقا شتى في سبيل تعزيز المركز من خلال
التباين في الالوان ؛ فمثلا جعلوا عباءة المسيح وإزاره باللون الداكن . بينما بقية اجزاء الصورة كانت بالوان فاتحة في
معظمها حيث الماروني والاحمر الداكن .هذا فضلا عن ان الرهبان في رسوماتهم للسيد
المسيح تفننوا في المخالفة والانعزال والحركة والسكون من خلال اختلاف شكل الخطوط
او شكل عناصر التكوين ووجدنا انهم اظهروا السيد المسيح جالسا على كرسيه وهو يبارك
تلاميذه بيمينه رافعا اصبعيه وبيساره البشارة يحيط من كل جهة ثلاثة من التلاميذ.
ثمة ملاحظات مهمة على ايقونات انجيل بغديدا المصور ، منها ان
المدرسة السريانية في التصوير كانت جزءا من المدرسة الموصلية ؛ فالفنان الراهب
استخدم الموروث الموصلي المحلي بشكل واضح
ونلاحظ هذا مثلا في لوحة الملاك جبرائيل وهو يبشر الكاهن زكريا .وقد اكد الفنانون
الرهبان في رسوماتهم مسألة القداسة عن طريق إغراء الُمُشاهد على متابعة مراحل
التدبير والتفكير والتنفيذ والينابيع التي استقى منها الفنان خيالاته ومبتكراته
سواء كانت الدوافع عقلية ام نفسية ام وليدة النزعات والانفعالات والاحلام او تكون
رواسب كامنة في اعماق النفس .
وحرص الفنانون الرهبان وهم ينفذون هذا الانجيل المصور على ان
تكون الموصل حاضرة سواء في بيوتها أوبساتينها ومن خلفيات الصور نرى اجواء الموصل
وبرطلة وبغديدا وسفوح جبل مقلوب او ما يسمى بجبل الالوف اي الالوف من الرهبان
غارقة في الالوان ومن شدة توهجها تأبى الغياب
.
انجيل بغديدا المصور ، اذا ، يقف انموذجا للفن السرياني المرتكز
على استخدام الالوان والتعبير الفني الرائع والنزعة الزخرفية وقد اعطت العقود
والاروقة والعناصر المعمارية الاخرى تنوعا كبيرا لأشكال الرسوم التي ضمها المخطوط .
ومن خلال الاحاطة بنتاج رهبان مار متي يمكننا الوقوف على
الخصائص العامة للمدرسة السريانية في فن التصوير خاصة ، وان هذه المدرسة تركت
تأثيرها الواضح على المصورات المسيحية في العراق ؛ ففي لوحة دخول السيد المسيح
عليه السلام الى اورشليم القدس الشريف نلحظ تنوعا في التأثير الذي احدثه الرسامون
العرب المسلمون في العراق او بلاد مابين النهرين كما تسمى وعلى الاخص رسامو منطقة
الموصل فكثير من عمل هؤلاء الرهبان يشبه ما موجود منها في المخطوطات العربية خاصة
بالنسبة الى الملابس والعمائم المستعملة وفي السمة الشرقية الموجودة في الانوف
الكبيرة ، وفي الايحاءات الحية وهذا ينطبق بصفة خاصة على سكان اورشليم - القدس
الذين يشاهدون في ناحية يسار اللوحة ومن الجهة الامامية وحتى في سلوكهم اذ يذكرنا
هؤلاء الاشخاص بجزئيات منمنمات عربية كثيرة منها مثلا ( منمنمة العزة) في كتاب ( الترياق ) المحفوظ في مكتبة فيينا .. وهناك
مظهر بارز اخر وهو استعمال الهالة التي نجدها في مخطوطات اسلامية كثيرة .
الاخ الاستاذ الدكتور يوسف الطوني وهو يقدم للكتاب ، تحدث عن
الدراسة التي كان اتمها وطبعها الاب غليوم دي جرفانيون سنة 1940 حول كتاب القراءات
الانجيلية المقدسة والذي سمي ايضا (مخطوطة انجيل بغديدا ) ، والذي يعود في نسخه
الى دير مار متي سنة 1220 ميلادية ، والذي يحمل عنوان ( منمنمات المخطوطة
السريانية 559 الفاتيكانية ) ، والذي قام بتعريبه الاب لويس قصاب .
كتاب ممتع ، ورائع ولابد من الرجوع اليه والافادة منه .بارك
الله بجهود الاخوين الكريمين الاب الاستاذ لويس قصاب والدكتور يوسف الطوني .
_____________________________________
* غلاف
الكتاب والصورة الاخرى للمطران جرجس دلال مطران الموصل مع امين المكتبة
الفاتيكانية في روما سنة 1937 وهو يتأمل (انجيل بغديدا المصور) وقد فتح على موضوع
دخول يسوع الى اورشليم ( السعانين ) .وايقونة (العشاء الاخير ) وايقونة ( يهوذا
يعرض تسليم السيد المسيح وايقونة شفاء ابن الارملة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق