حمدي جلميران والوطنية الاقتصادية في العراق
1890ـ1975*
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
عندما كنت أحضر لرسالة الماجستير عن ولاية الموصل 1908-1922، زرت المرحوم حمدي جلبي يحيى علي جلميران في داره بتاريخ 20 أيلول سنة
1974 وكان على فراش المرض ثم تكررت زياراتي له حتى وفاته رحمه الله سنة 1975.
وفي حينه
توقفنا كثيرا عند (النادي العلمي) الذي تأسس سنة 1918 في الموصل، وكان حمدي
جلميران، أحد مؤسسيه الى جانب مكي الشربتي، ومحمد رؤوف الغلامي، وداؤد الجلبي.
وظروف
قيام هذا النادي ونشاطاته عكست أوجها من المواقف الموصلية ازاء الاحتلال
البريطاني، فقد أراده القوميون والوطنيون في الموصل ستارا لتحركاتهم ضد الاحتلال
بينما جعله البعض الاخر من المتزلفين الى المحتلين منبرا لاظهار تقربهم الى السلطة
الجديدة فدار صراع عنيف داخل النادي جعلت الكولونيل (العقيد) جيرارد ليجمن الحاكم
السياسي و العسكري البريطاني للموصل يسرع في اغلاقه بعد فترة قصيرة من انشائه.
وقد تحدث لي المرحوم حمدي جلميران عن تلك الظروف
قائلا : (( لقد أريد للنادي العلمي ان يخدم غرضا سياسيا، على الرغم من كونه ذا
طابع أدبي ثقافي في الظاهر على غرار المنتدى الادبي في استانبول سابقا، لكنه لم
يمارس نشاطه سوى أشهر معدودة (عقد أول اجتماع له في 18 تشرين الثاني 1918 وأصدر
مجلة باسم مجلة النادي العلمي ) فقد عمد الانكليز الى غلقه ووضعوا اليد على
محتوياته من كتب ونشرات وغير ذلك لانهم اشتموا منه انه يخدم القضية الوطنية.
كان حمدي جليمران من مؤسسي النادي، ومن أعضاء هيئته الادارية وترأس النادي الدكتور داؤد الجلبي، ومن الاعضاء حنا خياط، وخير الدين العمري، وسليم حسون، وداؤد صائغ، وعلي الجميل، وياسين العريبي. لم يكن حمدي جليمران بعيدا عن النشاط السياسي في الموصل قبل الحرب العالمية فقد شارك في معظم الفعاليات المناوئة لحكم الاتحاديين 1908-1918.
وقد أورد سليمان فيضي وهو أحد العاملين من أجل
الحركة العربية القومية في العراق اسمه وقال انه كان ناشطا سياسيا وعندما جاء فيضي
الى الموصل في 22 أب سنة 1913 لتأسيس جمعية تعمل ضد الاتحاديين الاتراك، التقى به
مع نخبة من زملائه ومنهم ابراهيم عطار باشي، وسعيد الحاج ثابت، ومحمود الملاح،
وعبد المجيد العمري ومحمد رؤوف الغلامي وقاسم الشعار، ومكي الشربتي، وايوب العبد
الواحد، ومحمد طاهر العمري، والحاج أمين الجليلي، وشهاب الدبوني (جريدة صدى
الاحرار، 9 ايار 1952). وعندما اندلعت الثورة العربية سنة 1916 بقيادة الشريف
حسين، شريف مكة، كان حمدي جلميران من أبرز مناصريها.
وقد
استنكر مع الكثيرين من قادة الحركة الوطنية اعلان الانتداب البريطاني على العراق
ورفضوا كلمة الانتداب و(( كل ما يحول دون استقلال العراق التام)) (ملفات البلاط
المكي، ملفة أراء الشعب في موقفه السياسي رقم 3/6ب في 17 حزيران 1922). ولم يكن
بعيدا عن الذين عملوا في التخطيط لثورة تلعفر في 4 حزيران 1920 والتي اتسعت فيما
بعد لتتحول الى ثورة عراقية كبرى كان لها أثرها في اجبار الانكليز على تغيير
سياستهم والبدء بتشكيل الدولة العراقية بتشكيلاتها الادارية والقضائية والعسكرية
المعروفة وقد قام مع زملائه في الحركة الوطنية في الموصل بدعم ترشيح الامير فيصل
ملكا على العراق وقد حضر حفلة تتويجه في أب 1921 وكان ضمن وفد الموصل الذي سافر
الى بغداد لتهنئته بتسلمه مهامه الدستورية ملكا على العراق.
عندما كتب تلميذي (الدكتور صلاح عريبي) رسالته للماجستير عن غرفة تجارة الموصل 1926-1964 وقدمها الى كلية الاداب/ جامعة الموصل سنة 2001 كان اسم حمدي جليمران يتردد، واحدا من أبرز الذين عملوا من أجل بناء الاقتصاد العراقي الحديث شأنه في ذلك شأن مصطفى الصابونجي ومحمد نجيب الجادر ونوري فتاح وغيرهم من الوطنيين الاقتصاديين .
وعندما تأسست غرفة تجارة الموصل، تأسيسها الثاني
في تشرين الاول 1926، كان حمدي جليمران من أبرز مؤسسيها، وقد أنتخب عضوا في هيئتها
الادارية الاولى التي اجتمعت يوم 28 تشرين الاول 1926 وقد تسلم مسؤولية سكرتارية
الغرفة لسنوات طويلة (28سنة) وكان رئيسها انذاك محمد نجيب الجادر أما سعيد جلبي
الدباغ فكان نائبا للرئيس.. وقد قامت الغرفة بنشاط اقتصادي ومهني وثقافي كبير جدا
نجد تفاصيله في رسالة الماجستير المشار أليها أنفا. وقد كتب الدكتور عريبي بان
حمدي جليمران ((يمتلك عقلية اقتصادية كبيرة، وكان له دور فعال في اعطاء المقترحات
الاقتصادية التي خدمت تطور البلد وازدهاره)). وقد سبق للدكتور زهير علي احمد
النحاس ان تطرق الى نشاط حمدي جليمران الاقتصادي في أطروحته للدكتوراه الموسومة :
((تاريخ النشاط التجاري في الموصل بين الحربين العالميتين1919 ـ1939 والمقدمة الى
كلية الاداب بجامعة الموصل سنة 1995 بأشراف زميلنا الاستاذ الدكتور خليل علي مراد
فقال على الصفحة 155 ((وفي مجال الفكر الاقتصادي عرفت الموصل التاجر حمدي يحيى
جليمران الذي أمتلك قدرة وعقلية تجارية متميزة مثل نظيرها. فقد كان عضوا وسكرتيرا
نشطا لغرفة تجارة الموصل وقدم اقتراحات وأراء تجارية واقتصاديا غالبا ما كانت تأخذ
بها وزارة المالية وتعمل على تطبيقها خدمة للصالح العام. ومن تلك الاقتراحات
اقتراحه على غرفة تجارة الموصل في كانون الثاني 1927 ضرورة تسجيل عدد الاغنام
والمواشي المصدرة من الموصل الى سوريا وكذلك تسجيل السلع المصدرة الى بغداد. وقد
عملت الغرفة بذلك، واقتراحه على الغرفة في مايس 1928 ايجاد حل مناسب للعملة
الممزقة والتالفة التي أخذت تلحق أضرارا بالتجارة وحركة التعامل التجاري وملخص
اقتراحه هو سحب جميع هذه الاوراق من قبل البنوك، سيما وان الموصل كانت انذاك مقبلة
على حصاد محصولي الحنطة والشعير وقد اسهم مقترحه هذا في تنشيط حركة العطاءات
والمداولات التجارية وقد أخذ باقتراحه لاهميته )). ونقل النحاس عن السيد ربيع
النعيمي مدير غرفة تجارة الموصل (1995) إشادته بجهود وخدمات حمدي جليمران وذكر
بانه يعده من أفضل الخبراء الاقتصاديين الذين عرفتهم الموصل، ولو قدر له العمل في
دول متقدمة اقتصاديا لكانت مقترحاته تستحصل بمبالغ كبيرة، لكونها تحقق جدوى
اقتصادية وبأعلى الارباح.
أنتخب حمدي جليمران عضوا في المجلس التأسيسي العراقي (1924) وهو أول برلمان عراقي.. وكان عضوا في الدورة الانتخابية السادسة عن الموصل (8 أب 1935-30 تشرين الاول 1935) ومن زملائه في المجلس انذاك أمجد العمري وجمال المفتي ومحمد حبيب العبيدي وحازم شمدين اغا وحميدي الفرحان، روفائيل بطي وضياء يونس وسعيد الحاج ثابت والسيد عبد الغني النقيب وعبد الله البريفكاني، وفريد الجادر ويعقوب مراد الشيخ وغياث الدين النقشبندي.
أنتمى الى حزب الاخاء الوطني منذ 1930 وقد تأسس
هذا الحزب بتاريخ 25 تشرين الثاني سنة 1930 لمعارضة معاهدة 30 حزيران 1930 بين
العراق وبريطانيا كما طعن في الانتخابات التي أجرتها وزارة نوري السعيد (1930)
وانتقد القوانين التي استنتها تلك الوزارة انتقادا شديدا ومما جاء في نظامه
الاساسي انه يبذل الجهود كتنبيه الشعب العراقي الى الاخطار المحدقة به من النواحي
السياسية والاقتصادية ويعمل على مكافحة كل ما من شانه ان يشوب استقلال البلاد بأية
شائبة أو يخل بالوحدة العراقية، كما ولم يكن نشاطه السياسي والنيابي يقل أهمية عن
نشاطه الاقتصادي، وعندما شعر ان صحته قد بدأت تتدهور التمس من زملائه في غرفة
تجارة الموصل سنة 1961 عدم ترشيحه لعضوية الهيئة الادارية..
وأقول في ختام هذه المقالة، انني عرفت الرجل وطنيا مخلصا، احب العراق وعمل من اجل استقلاله وبناء اقتصاده ويحق لنا اليوم ان نفخر به وان نعده من مؤسسي الدولة العراقية الحديثة، فجزاه الله عنا خير الجزاء، وعزائنا فيه انه اليوم يذكر وقمين بابنائنا واحفادنا معرفته ووضعه مستقبلا في مكانه اللائق كأحد رجالات العراق المؤسسين.
*نشرت المقالة لاول مرة في جريدة فتى العراق 28 آب 2006 ثم في كتابي :" شخصيات موصلية " دار ابن الاثير للطباعة والنشر (الموصل ، 2007 .(
ومن ثم نشرتها في مدونتي والرابط :http://wwwallafblogspotcom.blogspot.com/2012/…/18901975.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق