السبت، 6 أغسطس 2022

مقاهي بغداد الثقافية ا.د. ابراهيم خليل العلاف


 


مقاهي بغداد الثقافية
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
كتب عن مقاهي بغداد كُتاب كُثر ، منهم الاستاذ باقر امين الورد ، والاستاذ عبد الحميد الرشودي ، والاستاذ عبد الكريم العلاف، والاستاذ حمودي الوردي ، والاستاذ سعدي السعدي ، والاستاذ رزاق ابراهيم حسن والاستاذ اريك ديفز وكتبتُ أنا عنها في كتابي (تاريخ العراق الثقافي المعاصر ) ، وتحدثتُ عن دورها الثقافي والادبي .
مقاهي بغداد تراثية ، وتاريخية وليس بالإمكان اغفال دورها ، فهناك قهوة خان جغان 1591 ، وقصة هذا المقهى طويلة وهو اول مقهى في بغداد والقصة تقول ان مقهى جغالة زاده ومن بناهء هو نفسه من بنى (خان جغان) ومقهى جغالة زادة اسسه والي بغداد 1586-1590 سنان باشا جغالة زادة العثماني بناه سنة 1590 ميلادية اي في القرن 16 الميلادي ومكانه اليوم بالقرب من خان الكمرك الحالي المتصل خلفه بالمدرسة المستنصرية وبابه على الطريق المؤدية إلى سوق الخفافين. ومما كتب عن هذا المقهى انه أول مقهى بُني في العراق وكان مكانا يرتاده الادباء والشعراء بناه جغالة زاده سنة (999ه‍/ 1590م)، ويقع بالقرب من المدرسة المستنصرية.
وهناك مقاه اخرى منها على سبيل المثال قهوة خان الكمرك (مقهى وكانت المقهى تسمى كهوة ومنها كهوة عزاوي ) ، ومقهى جامع الخفافين والذي تأسس قبل 350 عاما ، ومقهى الزهاوي الذي تأسس سنة 1899 ، وكان هذا المقهى ولايزال ملتقى الشعراء والكتاب والصحفيين والفنانين ..ولهذا المقهى دور ادبي ، وفني وقد أرخ له الشاعر الشيخ احمد العناياتي المتوفى سنة 1905 بقوله :
وان يكن في قهوة غناء
والة ما عنهم غناء
لاتجلسوا بالقرب من مكانهم
لتأمنوا العثرة من لسانهم
ولاتسلهم اعملوا عشاقا
ولاحجازا لاولا عراقا
ومقهى 14 رمضان في الكرخ ، ومقهى النعمان في الاعظمية قرب جامع ابو حنيفة النعمان ، و" مقهى الجرداغ" في السفينة -الاعظمية وقد تأسس سنة 1933 ..وهناك " مقهى عزاوي " في سوق الحميدية بالميدان ، و" مقهى الشابندر" الواقع قرب بناية محاكم بداءة بغداد في سوق السراي ، و" مقهى المميز " في بداية جسر الشهداء ، و" مقهى الشط في المصبغة ، ومقهى البيروتي من مقاهي الكرح ومقهى سبع في الميدان ، ومقهى الرصافي ، ومقهى حسن عجمي مقابل جامع الحيدرخانة في شارع الرشيد ، ومقهى رديف في الكرخ ومقهى عبدو في الكرخ ايضا ، والمقهى البرازيلية في شارع الرشيد كذلك ..ومقهى ام كلثوم لصاحبها عبد المعين الموصلي في الميدان ، ومقهى البرلمان و"مقهى البلدية" الواقعة على ساحة المامونية وعلى الشارع المحاذي لوزارة الدفاع.. هذه المقهى كانت منطلق حركة "جيل الستينات" في الشعر والقصة القصيرة والمسرح.. يقول الصحفي والكاتب والناقد الاستاذ ماجد السامرائي انه عرفها وكان من مرتاديها " منذ صيف العام 1964.. وهناك الكثير الذي ينبغي أن يقال عنها ويدون. . لكي لا ننسى" .
لقد كان من الطبيعي ان تتحول هذه المقاهي في كل يوم الى منتديات ثقافية ومن الطريف ان اشير الى ما كتبته في كتابي "تاريخ العراق الثقافي المعاصر " عن " جماعة الوقت الضائع 1946 " وتأسيسهم لمقهى "الواق واق " مقابل ساحة عنترة (ساحة عنتر ) بالأعظمية واصدارهم لصحيفة "الوقت الضائع " لم ير منها النور سوى عدد يتيم .كان من رواد المقهى ومن الاوائل المؤسسين لجماعة الوقت الضائع بلند الحيدري ، ونزار سليم وسلمان محمود حلمي ، واكرم الوتري ، وساطع الحصري ، ومحسن مهدي ، وحسين هداوي ، وفؤاد رضا ، وابراهيم اليتيم ، وعدنان رؤوف ، وحسين مردان ، وجواد سليم ، ولقد قدر لبعض اولئك ان يكونوا من الرموز العراقية في الميادين الادبية ، والصحفية ، والفنية .. واخيرا تظل المقاهي جزءا مهما من المشهد الثقافي العراقي المعاصر ..مشهد يحتاج الى دراسة عميقة لا بل دراسات عميقة .
ومثلما القاهرة تزخر بالمقاهي الادبية التي كتب عنها كثيرون ، ومنها مقهى كروبي ، ومقهى ريش ، ومقهى الفيشاوي ؛ ففي بغداد مقاه ادبية كانت منتدى ثقافيا وخاصة يوم الجمعة للأدباء والشعراء والفنانين ومنها مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي وقد اردنا ان نعرف حالها اليوم والاخ والصديق الدكتور حسين مايع الكعبي لم يخيب ظني وهو السباق دوما في هذا المجال فأرسل -مشكورا صورا معبرة لمقهى الزهاوي واقول ... ارجعوا الى كتاب (الموجة الصاخبة ) للاستاذ الكاتب والشاعر والصحفي سامي مهدي لتقرأوا عن دور المقاهي الادبية ، وارجعوا الى ما كتبه المتخصص بتاريخ العرب المعاصر الكاتب والباحث الامريكي ( اريك ديفز ) الذي كتب وحاضر عن اهمية مقاهي بغداد الادبية في الحياة الثقافية العراقية المعاصرة .
قبل سنوات وقفت عند ما كتبه الاستاذ رزاق حسن رحمه الله في كتابه (مقاهي بغداد ..دراسات في التاريخ والنصوص ) وكان قد صدر ضمن (الموسوعة الصغيرة رقم 458 سنة 2001 واقول ان الصديق الاستاذ رزاق ابراهيم حسن تحدث عن علاقة الروائي بالمقاهي الادبية وأخذ ماكتبه الروائي العراقي الكبير الاستاذ عبد الخالق الركابي في روايته : ( سابع ايام الخلق ) ، انموذجا .. ويقول ان الاستاذ عبد الخالق الركابي لا يأخذ المقهى مكانا للأحداث بقدر ما يأخذه مكانا للقول .. للكلمة .. وصاحب مقهى ابي بلقيس في رواية ( سابع ايام الخلق ) ، ُيثبت ان المقهى مكانا للقول انه فنان ، ويحب الشعر ، وجلاس مقهاه هم" ادباء وفنانون استوعبوا اسلوب الرجل ومزاجه "..وقد اختار بطل هذه الرواية مقهى ابو بلقيس لأسباب تتعلق بالقول والكلام ؛ فهو يلتقي فيه مع الذين يستطيعون تزويده بمعلومات عن ( مخطوطة الراووق) ، التي تشكل محور الرواية والمقهى ايضا "اشبه بالخلوة نهرع اليها لنعتكف فيها ما عانت نصوصنا الابداعية عسرا ،وهكذا شهدت جدران مقهى( ابو بلقيس ) المزدان بلوحاته بلوحات ابي بلقيس الفطرية ولادة العديد من افكار روياتي السابقة .كما ان صوت الشاعر تردد خلالها مرات لاتعد ولا تحصى وهو يترنم بمقاطع من قصائده قبل نشرها " والشاعر صديق البطل ، وزميله في المقهى ، وفي الرواية يتم السرد فبطل الرواية كذلك روائي وانه يتحرك بالقول ولأجله ، وانه يريد ان يضع المقهى في اطار ( القول ) العام عن مخطوطة الراووق . وابو بلقيس فنان ، ومولع بالأغاني ، وصديق للشعراء " .
هل ان الروائي الاستاذ عبد الخالق الركابي يتحدث عن" ابو داؤود " في مقهى حسن عجمي ذلك الرجل الذي توفي مطلع سنة 2003 ....ابا داؤد عامل المقهى الاثير ، كان جزءا من المقهى كانت جراويته البغدادية ، وشاربيه المعقوفين وصمته ، وكل استكان شاي يقدمه - كما قال الصديق الاستاذ عبد الجبار العتابي- يقدم معه جملة شعرية أو لفظة أو يسرق انتباه الادباء حين تنزل من بين كفيه (الاستكانات ) في لحظات عجيبة من الاستكانة والهدوء ..لا أدري لعله هو .
كتب الاستاذ الشاعر والصحفي والكاتب سامي مهدي عن علاقته بالمقاهي في أكثر من مكان وفي كتابه : (الموجة الصاخبة ) ، وفي ذكرياته التي ينشرها تباعا . كتب يقول :كنتُ من رواد المقاهي المزمنين ، وكان ارتيادها لازمة من لوازم حياتي اليومية حيناً من الزمن ، وفقرة من فقرات برنامجي الأسبوعي حيناً آخر ، وأظنني لا أغالي إذا قلت : إنها أصبحت في ما بعد شأناً من شؤوني الشعرية .
لا أعني هنا مقاهي الأدباء التي ترددت عليها في بغداد فحسب ، لا أعني مقاهي : البلدية ، والبرلمان ، وحسن عجمي ، والزهاوي ، وياسين ، والبيضاء ، وقد ترددت على كل منها حقبة من الزمن وكتبت عنها في كتابي : الموجة الصاخبة ، بل أعني مقاهي أخرى كنت أذهب إليها وحدي لأتابع حركة الحياة والناس : أرى ، وأسمع ، وأتأمل ، وأقرأ في بعض الأحيان ، وأكتب في أحيان أخرى .
كنت أصادق السقاة في هذه المقاهي ، وأتابع الآتين والغادين ، وأراقب الباعة المتجولين ، وأتلصص على هذا أو ذاك من الناس بأدب وحذر ، وأتنصت بفضول ، ولكنني لا أتدخل في حديث إلا إذا بادرني أحد به ، وإن تدخلت فبلباقة وكياسة واقتضاب . وقد ألهمني هذا بالكثير الكثير من القصائد ، وكتبت العديد منها في حينها .
وهكذا أصبح ارتياد المقاهي عادة من عاداتي ، ولازمتني هذه العادة حتى في أيام إقامتي في باريس ( 1977 – 1980 ) . ولم لا والمقاهي الباريسية أرقى من مقاهينا وأنظف وأزهى وأفضل في الخدمة "
.
للمقهى البغدادي تاريخ وموقف وأثر وعلاقة الزبون بالمقهى علاقة حميمية فيها من الروابط الاجتماعية والاخلاقية الشيء الكثير لذلك وجدنا ان في كل طرف في بغدادنا مقهى يتم فيه التفاعل الانساني والتواصل الاجتماعي بابرز مظاهره فهو ليس مكانا لاحتساء الشاي او القهوة او لعب الدومينو والنرد بل هو مكان للاجتماع بين الاصدقاء ، وهو ناد اجتماعي ، وثقافي وهو مركز من مراكز الثقافة والفنون ، وعبره ومن خلاله يتداول الادباء ، والشعراء ، والكتاب ، والصحفيين ، والتجار ، واصحاب الحرف ، والمهنيين ما له علاقة بواقعهم ، وماضيهم ، ومستقبلهم ولذلك فدراسة المقاهي ودورها الثقافي والاجتماعي والمهني مهمة ، وطريفة ، وضرورية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...