الجمعة، 7 ديسمبر 2012

الطباعة في الموصل ..نشأتها وآثارها


الطباعة في الموصل ..نشأتها وآثارها

أ‌.  د. ابراهيم خليل العلاف

شهدت الموصل تأسيس عدد من المطابع منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر،  واذا علمنا بان اول مطبعة استخدمت الحروف العربية تأسست في روما سنة 1514  اتضح لنا بان دخول الطباعة الى الموصل جاء متأخرا. ويعزى تأخر الموصل في  هذا المجال الى تدهور اوضاعها العامة شأنها في ذلك شان الولايات العربية – تحت السيطرة العثمانية. كما ان السلطات العثمانية فرضت على الولايات العربية نوعا من العزلة في كل ما هو حديث. خوفا من نهضة الشعب العربي الرازح تحت نفوذهم مطالبا بالحرية والحياة الكريمة.
ارتبطت حركة الطباعة في الموصل بنشاطات الارساليات التبشيرية المختلفة. ولما كان هدف هذه الارساليات. منذ الثلث الاخير من القرن السادس عشر، هو ربط الكنيسة الشرقية بالغرب الكاثوليكي. فقد اقبل المرسلون الدومنيكان الى الموصل سنة 1750 باجازة البابا بندكتس الرابع عشر. وقد عين هنري امانتون الدومنيكي قاصدا رسوليا على بلاد ما بين النهرين وفارس وارمينيا. وكان من الاهداف التي نوى تحقيقها في الموصل.
مركز قصادته: جلب مطبعة لنشر وسائل التعليم والثقافة، وعند مروره بالقدس اتى معه بشاب كلداني من ماردين اسمه "يوسف" ليساعده في نصب المطبعة، وكان "يوسف" صفافا بارعا قادرا على تصفيح الحروف من اي لغة كانت.
وصل امانتون الموصل في تموز 1858، وتم تأسيس المطبعة في مجلة الجولاق سنة 1858 بناء على اقتراح الاب بيصون الدومنيكي. وكانت مطبعة بدائية حجرية حتى سنة 1963 وحين وجدوا مطبعتهم هذه غير كافية. ولن تفي بالغرض عملوا على توسيعها بشراء معدات طباعة كاملة اعتمدوا لها مبلغا من المال ساهمت فيه جمعية مدارس الشرق بباريس بستة الاف فرنك للمطبعة. وبمجموعات من الحروف العربية والسريانية والفرنسية من المطبعة بباريس، وجلبت الحروف من مطبعة المرسلين الانكليكان في فارس، وقد الحق بالمطبعة المذكورة مسبك لصب الحروف وقسم لتجليد الكتب وتذهيبها بالطرق الحديثة.
لقد تولت مطبعة الدومنيكان مهمة طبع عدد من الكتب بلغات مختلفة منها العربية والتركية والفرنسية، كما تولت كذلك عملية طبع الاوراق والسجلات الرسمية قبل مجيئ مطبعة الولاية سنة 1975، وفي سنة 1961 اخرجت المطبعة اول كتاب هو "رياضة درب الصليب" ومؤلفه الخوري يوسف داؤد الموصلي.
لم تقتصر المطبعة الدومنيكية على طبع الكتب الدينية حسب بل تبنت طبع الكتب المدرسية لتعليم اللغة العربية وغيرها من اللغات. ومن مطبوعاتها في هذا المضمار كتاب "مبادئ التهجئة لتدريس الصبيان" الذي طبع سنة 1862 باللغتين العربية والسريانية. وقد ساهمت في توجيه النشئ الى التاريخ . وخاصة الديني منه بما نشرته من الكتب التي تتناول موضوعات في التاريخ القديم والوسيط والحديث. ومن هذه الكتب، مختصر في التواريخ القديمة "للقس لويس رحماني والمطبوع سنة 1876، ومختصر في تواريخ القرون الوسطى للمؤلف نفسه. والمطبوع سنة 1877 وكتاب، جني الثمار في لطائف الاخبار لتمرين الصبيان في المدارس. مجموع من احسن كتب العرب، لمؤلفة اقليمس يوسف داؤد وقد طبع سنة 1863 وكتاب "اسطاخيوس القائد الروماني الشهير في القرن الثاني" المطبوع سنة 1899 وكتاب "احسن الاساليب لانشاء الصكوك والمكاتيب" لمؤلفه نعوم فتح الله سحار والمطبوع سنة 1888 وكتاب "الاجوبة الشافية في الصرف والنحو التهذيب" لمؤلفة سليم حسون والمطبوع سنة 1906 وكتاب "الذهب لتهذيب احداث العرب" للمؤلف نفسه والمطبوع سنة 1911. وكتاب "ذخيرة الاذهان في تواريخ المشارقة والمغاربة والسريان" للقس بطرس نصري الذي طبع الجزء الاول منه سنة 1905 والجزء الثاني بعد ذلك بثماني سنوات وقد بلغ عدد مطبوعات الدومنيكان حسب احصائية روفائيل بطي (74) مطبوعا. واستمرت مطبعة الدومنيكان في النشر الا ان السلطات العثمانية، خلال الحرب العالمية الاولى، صادرتها بدعوى تبعيتها لدولة معادية وضمت الى مطبعة الولاية، ولما احتل الانكليز الموصل في تشرين الثاني 1918 اعادوا الى الارسالية الدومنيكية بعض ما حفظ من المطبعة الرسمية من ادوات وآلات وحروف. ومهما يكن فان مطبعة الدومنيكان كانت من عوامل النهضة الفكرية في الموصل، ذلك انها عاشت اكثر من خمسين سنة.
لم تتحمل المطبعة الدومنيكية وحدها عبء النهضة الفكرية، بل شاركتها في ذلك المطبعة الكلدانية، فقد ساهمت الاخيرة في نشر الوعي الثقافي بين فئات السكان المختلفة وخاصة بين المسيحيين وقد انشأ هذه المطبعة الشماس روفائيل مازجي الامدي (ولد سنة 1815) سنة 1863 بعد ان جلب معداتها من باريس وكان روفائيل ثريا من دياربكر وقد طلب منه البطريرك يوسف اردو بعد ان استدعاه الى الموصل ان يخص المدينة ببعض مشروعاته الخيرية، فكانت هذه المطبعة. وقد الحق بالمطبعة مسبكا للحروف العربية والكلدانية والفرنسية. ويعتبر كتاب "مزامير داود النبي" الذي صدر سنة 1869 اول ما طبع فيها. وقد طبع باللغة الكلدانية مع مقدمة باللغة العربية.
نشرت المطبعة الكلدانية عددا من الكتب المدرسية والتاريخية ولعل اهم ما طبعته كتاب "روضة الصبي الاديب في اصول القراءة والتهذيب" باللغتين العربية والفرنسية سنة 1869 وقد عمد مؤلفه المطران جرجس عبد يشوع الموصلي الى تحليته بفقرات من تواريخ العرب (14). وبعد وفاة الشماس روفائيل اغلقت المطبعة الكلدانية وهجرت سنينا، وذلك لحدوث الانقسامات التي منيت بها الطائفة الكلدانية في الموصل. وقد استؤنف العمل فيها سنة 1878 في عهد البطريرك ايليا عبو اليونان، ثم تعطلت المطبعة ثانية سنة 1898 وبيعت بعض الاتها لمطبعة الحكومة. وعادت الى العمل سنة 1904 لتواصل عملها ونشاطها في طبع الكتب المدرسية والدينية. وقد نقلت الى المدرسة الكلدانية، ثم جاءت الحرب العالمية الاولى فاقفتها للمرة الثالثة ثم احياها البطريرك عمانوئيل الثاني بعد الحرب العالمية الاولى وابتاع آلة طباعة صغيرة اضافة الى آلاتها القديمة..
اذا كانت الصيغة الدينية قد غلبت على مطبوعات المطبعتين الدومنيكية والكلدانية فان مطبعة نينوى التي اسسها عيسى محفوظ بمشاركة فتح الله سرسم سنة 1910 لم تكن كذلك. فقد ثبتت مهمة نشر عدد من الكتب باللغتين العربية والتركية، عالجت هذه الكتب موضوعات لغوية وادبية ودينية منها "بدائع الافكار ياخود الحكمة والادب للترك والعرب" لمؤلفه فاضل الصيدلي. وذلك سن 1914 وتضمن الكتاب المذكور "شذرات عربية ادبية مشروحة باللغة التركية".
لقد صادف تأسيس مطبعة نينوى انتشار الافكار القوميةة وبداية شعور عرب الموصل بقوميتهم. لذا كانت مساهمتها في النهضة الفكرية، ونشر الوعي القومي اكثر من غيرها، اذ لجأ اليها عدد من العاملين في الحركة القومية في الموصل، فساهمت في طبع مؤلفاتهم ووضعها بين ايدي القراء. لعل كتاب "الاناشيد الموصلية للمدارس العربية" الذي نشره محمد سعيد الخليلي سنة 1914 من اكثر تلك الكتب اهمية وانتشارا، ذلك ان اعضاء جمعية العلم السرية في الموصل. ارادوا الوقوف ضد نزعة التتريك .
وكان محمد سعيد الجليلي. احد المعلمين في مدرسة "دار العرفان" الرسمية التي اتخذها القوميون مركزا للنشاط السري، وقد اسندت اليه مهمة تدريس الاناشيد وهو التعليم المدخل حديثا في منهج الدراسة الابتدائية قصد به تدريس اناشيد "الحماسة التركية" وصادف حينذاك موافقة الحكومة العثمانية على ان يكون التدريس في المدارس الابتدائية باللغة العربية، اثر المؤتمر العربي الاول في باريس سنة 1913 فاغتنم القوميون هذه الفرصة للعمل على قلب الاناشيد التركية الى اللغة العربية. وقد كلفوا عددا من الادباء والشعراء الموصليين ان يضعوا اناشيد عربية حماسية لها صبغة قومية تتغنى بمجد العرب التاريخي واذكاء نار الحماسة في افئدة النشيء العربي.
وممن استجاب للدعوة محمود الملاح الذي كان متبرعا بالقاء دروس التاريخ العربي والاسلامي في المدرسة المذكورة بصورة غير رسمية وبدون مقابل من اجل بث الفكرة القومية مدة سنة كاملة، وقاسم الشعار واسماعيل حقي فرج وداود الملاح وتوفيق آل حسين اغا افغان وغيرهم. وكان لتلك الاناشيد اثر كبير في تحفيز الشباب الموصلي للتخلص من الحكم التركي، والدعوة الى مقاومته بالقوة للحصول على الحقوق العربية.
وفي ابان الحرب العالمية الاولى، صادرت السلطات العثمانية، مطبعة نينوى، مدة عشرة اشهر، واخذت تطبع فيها جريدة "حقي طوغرو" اي "دعوة الحق" وذلك لبث دعوتها باللغات الاربع التركية والعربية والفارسية والكردية، ومن مطبوعات "نينوى" كتاب "خطبة نادي الشرق" لمحمد حبيب العبيدي، وهو كتاب سياسي اجتماعي خاطب به مؤلفه امم الشرق ودعاها الى النهوض، وقد اوحت اليه بهذه المعاني الحرب العثمانية البلقانية سنة 1912 وكتب على الرسالة عبارة "يتفق ربعها في سبيل تعزيز مبدأها" وكتاب "عنوان البيان وبستان الاذهان" لأحد المؤلفين القدماء في الحكم والاداب في جزئين صغيرين سنة 1914، وكتاب "التحفة السنية في المشايخ السنوسية" لعلي الجميل الموصلي سنة 1915 وموضوعها يدور حول حركة السنوسي الاصلاحية في طرابلس الغرب ، وكتاب ""تنوير الاذهان في بعض حقائق تاريخ الكلدان" لمحرره حنا نرسي الموصلي.
واذا كانت مطبعة نينوى قد لعبت دورا مهما في تهيئة الاجواء القومية وتناميها في الموصل، عن طريق الكتب والصحف، فان ثمة مطبعة اخرى كان لها اثرها كذلك. تلك هي مطبعة الولاية التي اسسها تحسين باشا سنة 1875 وجلب ادواتها من الاستانة، وكانت تقوم بطبع الاوراق الرسمية والدفاتر مع قيامها بطبع جريدة الموصل التي كانت تصدر اسبوعيا.
وقد وضعت مطبعة الولاية تحت اشراف مكتوبجي "مدير التحرير" الولاية وفي سنة 1983 الحقت بمطبعة الولاية تسع مطابع، واحدة تدور بالبخار، واثنتان تدوران باليد ، واربع حجرية، واله لتحسين الاقمشة، واخرى لعمل المظاريف . واختصت احدى هذه المطابع بالجيش وسميت بالمطبعة العسكرية او مطبعة الفيلق لتقوم بطبع ما يحتاج اليه الجيش من المنشورات والاوامر والكتب الفنية والعسكرية. كما كانت مطبوعاتها سرية ولا يطلع عليها الا كبار الضباط خشية تسرب الاسرار العسكرية الى الخارج. وقد تولت مطبعة الولاية كذلك طبع القوانين التجارية وقوانين الاراضي والكتب التاريخية والتقاويم العثمانية المعروفة بالسالنامه . ولم تكن هذه المطبعة مقصورة على طبع المطبوعات الحكومية . وانما كانت تطبع كل ما يقدمه اليها الاهالي من مطبوعات. ومن الذين تولوا ادارة المطبعة رؤوف افندي الشربتي  وعلي بك كاتب مجلس الادارة ورؤوف افندي بن محمد افندي والمكتوبجي طاهر بك واحمد افندي رئيس كتاب المحاسبة الخصوصية ونظمي بك وحسن فايق بك رئيس بلدية الموصل وخير الدين العمري.
هذا وقد توالى انشاء المطابع في الموصل في عهود الاحتلال والانتداب والحكم الوطني. وكان لنهضة الطباعة وتطورها اثر كبير في نهضة الصحافة والحركة الثقافية، ومن اهم هذه المطابع المطبعة الاثورية ومطبعة النجم ومطبعة ام الربيعين ودجلة والشرقية وحداد والاتحاد والشعب والجمهورية والحصان والخيام والعصرية والهدف والوطنية والحدباء والزوراء والزهراء والجامعة، ومعظم هذه المطابع انصرفو لطبع الكتب والاوراق الرسمية والاهلية والاعلانات التجارية فقط باستثناء مطبعة النجم ومطبعة ام الربيعين ومطبعة الهدف ومطبعة الجامعة فقد كان لهذه المطابع دورا مهما، في تطوير الحركة الادبية والثقافية وتهيئة الاجواء القومية والوطنية وتناميها في الموصل.
تأسست مطبة النجم، سنة 1923 من قبل سليمان الصايغ، وبعد موته نقلت الى دير السيدة في القوش وكانت مطبعة النجم تطبع باللغتين العربية والكلدانية. كما طبعت عددا من الكتب الدينية، وقد طبعت فيها مجلة النجم، وهي مجلة دينية، تاريخية اجتماعية ادبية رئيس تحريرها القس سليمان الصايغ وقد صدر عددها الاول سنة 1928.
اما مطبعة ام الربيعين فقد تأسست سنة 1934 وكانت مقتصرة في الطباعة على بعض الصحف وخاصة جريدة فتى العراق التي صدر عددها الاول في 27 شباط 1934.
وفي سنة 1957 تأسست في الموصل مطبعة "الهدف" وصاحبها الكاتب الصحفي عبد الباسط يونس، ومع انها طبعت بعض الكتب الا انها اختصت بعد ذلك بطبع جريدة "الهدف" وقد جاء في مقدمة اصدارها انها مجلة ادبية غير سياسية، صدرت سنة 1951 واستمرت في الصدور بشكل متقطع حتى عام 1968.
اما مطبعة الجامعة فقد تأسست سنة 1970 باشراف جامعة الموصل. وتعتبر مطبعة الجامعة من احدث مطابع "المونيتايب" وقد بلغت كلفة المكائن والاجهزة خمسون الف دينار. ويمكن للمطبعة ان تطبع باللغة العربية واللغات الاجنبية الاخرى، كما يمكن الطبع الملون بالاوفسيت وتتبع "مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر" وليس من شك في ان لهذه المؤسسة دورها المشهود في دعم حركة التاليف والنشر وتوفير المصادر والكتب.. وتتولى كذلك طبع المجلات التي تصدرها كليات جامعة الموصل كمجلة اداب الرافدين الت تصدرها كلية الاداب.. ومجلة زراعة الرافدين التي تصدرها كلية الزراعة والغابات في حمام العليل. كما تتولى مطبعة الجامعة كذلك طبع مجلة "الجامعة" التي جاء في مقدمة اصدارها انها "مجلة شهرية يصدرها المركز الثقافي الاجتماعي في جامعة الموصل. ونظرة بسيطة على الاعداد الاخيرة من هذه المجلة تشكف لنا مدى التقدم الكبير الذي احرزته الموصل في ميدان الطباعة.
8-6-2012*


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...