يهود العراق : الرحيل من جنة العراق الى بؤس الكيبوتزات الصهيونية ..آخر ما كان يخطر في بال يهود بغداد!!
ترجمة وتقديم: أمل الشرقي
في السابع والعشرين من شهر نيسان 1950 وصل الى بغداد من امستردام رجل يحمل جواز سفر باسم ريتشارد آرمسترونغ وقدم نفسه بصفة ممثل لشركة امريكية تدعى شركة الشرق الادنى للنقل الجوي (نيات) تسعى الى الحصول على عقد مع الحكومة العراقية لنقل اليهود العراقيين الى قبرص. وكانت الحكومة العراقية قد اقرت قبل ذلك بستة اسابيع قانون اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الراغبين بالهجرة والسماح لهم بمغادرة البلاد، وفي التاسع من شهر ايار 1950 وقعت (نيات) عقدا مع الحكومة العراقية ينظم تلك المغادرة.
لم يكن تهجير اقدم الجاليات اليهودية في الشرق الاوسط من العراق مجرد عملية تجارية بالنسبة لآرمسترونغ و (نيات)، انما كان رسالة، فآرمسترونغ لم يكن في الواقع سوى شلومو هيليل، رجل الموساد المولود في العراق، ونيات لم تكن سوى احدى الواجهات التي تمتلكها الوكالة اليهودية. اما الوجهة التي يقصدها اليهود المهاجرون فكانت اسرائيل وليست قبرص، وبحلول نهاية عام 1952 كانت غالبية اليهود العراقيين قد غادرت البلاد في هذه العملية التي اطلق عليها الموساد اسم عملية عزرا ونحميا.
هذه الواقعة التاريخية كانت موضوع كتابين صدرا في العاصمة البريطانية لكاتبين يهوديين من اصل عراقي. الاول حمل عنوان ذكريات من عدن: رحلة عبر بغداد اليهودية (2008) لمؤلفته فيوليت شماش المولودة في بغداد والتي هاجرت اسرتها الثرية الى الهند، انفقت شماش السنوات العشرين الاخيرة من عمرها في تسجيل ذكرياتها عن المدينة التي كانت تدعوها بغدادي، ارض موطني. اما الكتاب الثاني فهو كتاب بغداد الامس.. (2007) لمؤلفه ساسون صوميخ اليهودي العراقي الذي هاجر الى اسرائيل.
تبالغ الدعاية الموالية لاسرائيل في تضخيم بعض المتاعب التي تعرض لها اليهود في العالم العربي وتسعى الى تكذيب ما عرفه العالم عن التسامح الاسلامي مع اصحاب الديانات الاخرى، لكن مذكرات الكاتبين اليهوديين العراقيين تروي حكاية اخرى. فشماش المولودة عام،1912 تصف حياة اسرتها في بغداد قبل دخول القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الاولى بانها كانت جنة. عاشت شماش في قصر مطل على نهر دجلة تقاسم الاعمام وزوجاتهم اجنحته المتعددة، ودرجت في حدائقه الواسعة التي تفوح بروائح البرتقال والمشمش، واكلت الخبز طازجا من التنور المنزلي قبل ان تلتحق بمدرسة الاليانس البغدادية التي كانت واحدة من شبكة من المدارس اليهودية عبر الشرق الاوسط. تقول شماش كانت كل الطوائف تعيش بسلام، وتتبادل فيما بينها الدعابات حول ديانات بعضها البعض بحسن نية وبدون قيود لكنها تستدرك ان ذلك كله يبدو الان بعيدا عن التصديق اشعر كما لو انني اسرد حلما من الاحلام يصعب الربط بين اجزائه المتباينة.
عندما اعلن بلفور عن دعم بريطانيا اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كانت مغادرة العراق الى الكيبوتزات الصهيونية آخر ما يخطر في بال يهود بغداد. بعد لقائه مجموعة من وجهاء اليهود العراقيين، كتب ارنولد ويلسون، المندوب السامي البريطاني في بغداد الى وزارة الخارجية البريطانية ان اعلان بلفور لم يثر اي اهتمام في العراق. واضاف يقول ان اليهود الذين اجتمع بهم قالوا له ان فلسطين بلد فقير والقدس مدينة لا تصلح للمعيشة. وبالمقارنة مع فلسطين، فان العراق هي الجنة، كما قال له احدهم انها جنة عدن، وبالنسبة لنا فان العراق هو الوطن.
في البدء، لم يستجب اليهود العراقيون للخطاب الصهيوني. بل ان البعض منهم كان معاديا للصهيونية، وبغض النظر عما يمكن ان تثيره فكرة اقامة وطن قومي لليهود في نفوس البعض من نوازع، فان الغالبية كان تخشى من ان يعرض المشروع الصهيوني حياتهم في العراق الى الخطر.
في كتابه بغداد الامس يستذكر ساسون صوميخ المولود في بغداد عام 1933 سنوات الاربعينيات من القرن العشرين التي يصفها بانها العصر الذهبي للامن والتلاحم.
يقول صوميخ ان اليهود العراقيين في تلك السنوات كانوا يشيدون المساكن الجديدة ويفتحون المدارس والمستشفيات ولا تبدو عليهم مطلقا اية رغبة في الرحيل عن البلاد. وكانوا ينعمون بالرخاء العام الذي ساد العراق في السنوات ما بين 1941 و 1948 حيث كان اليهود الذين لا تزيد نسبتهم عن 2 بالمئة من مجموع السكان يديرون 75 بالمئة من تجارة الاستيراد. نشأ صوميخ في حي بغدادي مختلط يعرف باسم بستان الحسن وبدأ بكتابة الشعر العربي في سنوات مراهقته وهو يدين بالفضل لاساتذته الذين رعوا موهبته الادبية وكلهم من العرب المسلمين.
اختار صوميخ عنوانا ثانيا لكتابه بغداد الامس هو تكوين العربي اليهودي. والكتاب عبارة عن مرثية لتجربة التعايش التي عرفها في بغداد، يستذكر فيه الكاتب الايام التي كان الادباء العرب واليهود يلتقون معا في المقاهي المنتشرة في شارع الرشيد ببغداد، يقرأون الكتب نفسها، ويحلمون بدولة مستقلة وحديثة وعلمانية يستطيع فيها شاب مثل صوميخ ان يعتبر نفسه يهوديا وعربيا في الوقت نفسه.
كانت غالبية الكتاب الذين عرفهم صوميخ في العراق تدور في فلك الحزب الشيوعي، ويقول صوميخ ان الشيوعيين نجحوا حتى عام،1948 في توجيه الغضب الجماهيري ضد الامبريالية والصهيونية. في عام 1946 شكل عدد من الشيوعيين اليهود عصبة مكافحة الصهيونية التي واجهت التهديد من الحركة الصهيونية السرية آنذاك ومن الزعيم السياسي نوري السعيد الذي اسخطه انخراط اليهود في صفوف المعارضة الشيوعية.
لكن اندماج اليهود في المجتمع العراقي تزعزع بشدة اثر اندلاع الحرب في فلسطين عام.1948 كان الموساد قد ضاعف نشاطه في العراق بعد مجيء الملك غازي - المعروف بمعاداته للبريطانيين - الى الحكم وبعد ثورة مايس ايار 1941 التي قادها ضباط قوميون حصلوا على تأييد الالمان. وقد دخل عدد من ضباط الموساد الى العراق بصفة متطوعين في القوات البريطانية التي اخمدت تلك الثورة.
لم يكن هدف الموساد تحسين اوضاع اليهود في العراق انما العمل على ترحيلهم عنه. وقد ظهرت منشورات تدعو اليهود الى عدم الاختلاط بالعرب وتهدد من يتعامل معهم بان ذلك التعامل يقود الى المذابح.
في الوقت نفسه روجت الحكومة الاسرائيلية حديثة العهد روايات ملفقة عن مذابح ومعسكرات اعتقال لليهود في العراق واصدرت بيانا يدين قيام الحكومة العراقية باعدام سبعة يهود بتهمة الانتماء الى الحركة الصهيونية وهو ادعاء اعترف كبير عملاء الموساد في بغداد بانه عار عن الصحة. وحذرت اسرائيل من انها سوف تدعم المقاومة المسلحة ضد حكومة نوري السعيد في بغداد اذا لم يسمح لليهود العراقيين بالهجرة، كما بدأ الاسرائيليون في ذلك الوقت، بترويج فكرة مبادلة اليهود العراقيين باعداد مساوية لهم من اللاجئين الفلسطينيين وهي فكرة تحمست لها وزارة الخارجية البريطانية التي جاء في مذكرة لها ان التخلص من الاقليات غير المتجانسة يهدئ النيران بدلا من ان يذكيها.
من جانبها، اقنعت السفارة الامريكية في بغداد رئيس الوزراء العراقي انذاك توفيق السويدي بان تمرير قانون اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الراغبين بالهجرة من العراق لن يؤدي الى هجرة جماعية ما دامت اسرائيل تلتزم بسياسة معتدلة وتوافق على تسوية سلمية لا تبدو غير مقبولة جدا من قبل العرب.
لكن هدف اسرائيل كان تجميع المنفيين وليس التوصل الى تسوية سلمية. كانت اسرائيل قد استولت على اراض تزيد مساحتها بنسبة 20 بالمئة عن مساحة الارض التي منحت لها بموجب قرار التقسيم. وكانت بحاجة الى المزيد من اليهود ليستوطنوا في تلك الاراضي، وبحلول ايار عام 1950 كانت الصفقة قد ابرمت بين ريتشارد ارمسترونغ من الموساد الاسرائيلي وتوفيق السويدي رئيس وزراء العراق لترحيل اليهود العراقيين الى اسرائيل.
يتساءل ساسون خضوري، كبير حاخامي بغداد: لماذا لم يأت احد الينا بدل التفاوض مع اسرائيل حول ترحيل اليهود العراقيين? لماذا لم يشر احد الى ان زعامة اليهود العراقيين الراسخة والمسؤولة تعتقد بان العراق هو موطنهم، في اوقات الشدة والرخاء، وقد كنا واثقين من ان الشدة ستزول?
هنا، ظهرت الحاجة الى امر يحمل اليهود العراقيين، الميالين الى الصبر لحين زوال الشدة، على الرحيل، فكانت سلسلة التفجيرات التي استهدفت احياء يهودية في بغداد وابتدأت في نيسان 1950 ثم استؤنفت عام 1951 مع اقتراب انتهاء مهلة العام التي منحت لليهود العراقيين ليختاروا بين المكوث في البلاد او الهجرة منها. ويعتقد الكثير من اليهود العراقيين اليوم ان الذين نفذوا تلك التفجيرات كانوا عملاء اسرائيليين هدفهم دفع اليهود الى الهجرة.
يقول صوميخ انه طار الى اسرائيل يوم 21 اذار 1951 مع مئتي يهودي عراقي يفترض ان تكون تلك الرحلة نهاية شتاتهم لكني لم ار ايا منهم يقبل الارض التي نزلها.
فقبل مغادرتهم الطائرة استقبلوا بتحية ما كان لهم ان ينسوها ابدا. اذ صعد الى الطائرة رجل راح يرشهم بمادة دي. دي. تي المطهرة. وكان نزولهم في اللد التي طرد منها في يوم 13 تموز 1948 اكثر من ثلاثين الف فلسطيني على ايدي قوات اسرائيلية قادها اسحاق رابين.
يقول صوميخ انه احتجز مؤقتا في معسكر ساحلي بالقرب من حيفا ريثما يقرر ضباط الهجرة الوجهة التي سوف يرسل اليها. وكانت تلك الاجراءات تدعى الصدور بالعبرية او التصدير بالعربية. اعترضنا بغضب على تحويلنا بين يوم وليلة من اشخاص الى بضاعة تستورد وتصدر من قبل موظفين يتكلمون الييديش.
قبل صوميخ كان سمير نقاش الروائي اليهودي القادم من العراق قد كتب في روايته انس بغداد يقول كنا نعيش في قصور ها هم يضعوننا في خيام لكن ظروف المعسكر السيئة لم تكن السبب الرئيس وراء امتعاض اليهود العراقيين بقدر ما كان الازدراء الذي عوملت به حضارتهم في اسرائيل التي يسيطر عليها الاشكيناز.
تقول فيوليت شماش بلاد النهرين هي موطن ابينا ابراهيم وفيها كتب التلمود ووضعت الشريعة اليهودية.
لكن هذه الحقائق ما كانت لتعني شيئا لدى بن غوريون الذي قال لا نريد للاسرائيليين ان يتحولوا الى عرب وقد كان اليهود العراقيون قريبين جدا من ان يكونوا العرب في اسرائيل. وقد وجدوا انفسهم، وهم النخبة في البلاد التي جاءوا منها، يعاملون كأقوام بدائية في حاجة الى الترويض على يد الاشكيناز المصممين على محو اي معلم من معالم الشرق. يقول صوميخ ان العنصرية التي قوبل بها اليهود العراقيون جعلت من المستحيل عليهم التماهي مع الحركة التي جاءت بهم الى ما تسميه الوطن.
في مقالها الذي استعرضت فيه كتابي شماش وصوميخ، ذكرت مجلة لندن ريفيو اوف بوكس ان ساسون صوميخ قدم في مطلع تسعينيات القرن الماضي طلبا لانشاء جمعية للتضامن مع الشعب العراقي هدفها توثيق التعاون والجيرة الطيبة بين اليهود والعراقيين، بما يسمح للاجيال القادمة بالاطلاع على هذه الرابطة الرائعة التي ميزت الحياة اليهودية في العالم العربي على مدى 1500 عام، لكن طلبه رفض من قبل مسجل الجمعيات غير الربحية في القدس المحتلة الذي وجد ان من غير المناسب احياء مثل هذه الذكريات واعتبرها مصدرا للتخريب.*
*شكرا لسعادة السفير الاسبق الاستاذ فاروق زيادة الذي ارسل لي المقال عبر الايميل .
ترجمة وتقديم: أمل الشرقي
في السابع والعشرين من شهر نيسان 1950 وصل الى بغداد من امستردام رجل يحمل جواز سفر باسم ريتشارد آرمسترونغ وقدم نفسه بصفة ممثل لشركة امريكية تدعى شركة الشرق الادنى للنقل الجوي (نيات) تسعى الى الحصول على عقد مع الحكومة العراقية لنقل اليهود العراقيين الى قبرص. وكانت الحكومة العراقية قد اقرت قبل ذلك بستة اسابيع قانون اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الراغبين بالهجرة والسماح لهم بمغادرة البلاد، وفي التاسع من شهر ايار 1950 وقعت (نيات) عقدا مع الحكومة العراقية ينظم تلك المغادرة.
لم يكن تهجير اقدم الجاليات اليهودية في الشرق الاوسط من العراق مجرد عملية تجارية بالنسبة لآرمسترونغ و (نيات)، انما كان رسالة، فآرمسترونغ لم يكن في الواقع سوى شلومو هيليل، رجل الموساد المولود في العراق، ونيات لم تكن سوى احدى الواجهات التي تمتلكها الوكالة اليهودية. اما الوجهة التي يقصدها اليهود المهاجرون فكانت اسرائيل وليست قبرص، وبحلول نهاية عام 1952 كانت غالبية اليهود العراقيين قد غادرت البلاد في هذه العملية التي اطلق عليها الموساد اسم عملية عزرا ونحميا.
هذه الواقعة التاريخية كانت موضوع كتابين صدرا في العاصمة البريطانية لكاتبين يهوديين من اصل عراقي. الاول حمل عنوان ذكريات من عدن: رحلة عبر بغداد اليهودية (2008) لمؤلفته فيوليت شماش المولودة في بغداد والتي هاجرت اسرتها الثرية الى الهند، انفقت شماش السنوات العشرين الاخيرة من عمرها في تسجيل ذكرياتها عن المدينة التي كانت تدعوها بغدادي، ارض موطني. اما الكتاب الثاني فهو كتاب بغداد الامس.. (2007) لمؤلفه ساسون صوميخ اليهودي العراقي الذي هاجر الى اسرائيل.
تبالغ الدعاية الموالية لاسرائيل في تضخيم بعض المتاعب التي تعرض لها اليهود في العالم العربي وتسعى الى تكذيب ما عرفه العالم عن التسامح الاسلامي مع اصحاب الديانات الاخرى، لكن مذكرات الكاتبين اليهوديين العراقيين تروي حكاية اخرى. فشماش المولودة عام،1912 تصف حياة اسرتها في بغداد قبل دخول القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الاولى بانها كانت جنة. عاشت شماش في قصر مطل على نهر دجلة تقاسم الاعمام وزوجاتهم اجنحته المتعددة، ودرجت في حدائقه الواسعة التي تفوح بروائح البرتقال والمشمش، واكلت الخبز طازجا من التنور المنزلي قبل ان تلتحق بمدرسة الاليانس البغدادية التي كانت واحدة من شبكة من المدارس اليهودية عبر الشرق الاوسط. تقول شماش كانت كل الطوائف تعيش بسلام، وتتبادل فيما بينها الدعابات حول ديانات بعضها البعض بحسن نية وبدون قيود لكنها تستدرك ان ذلك كله يبدو الان بعيدا عن التصديق اشعر كما لو انني اسرد حلما من الاحلام يصعب الربط بين اجزائه المتباينة.
عندما اعلن بلفور عن دعم بريطانيا اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كانت مغادرة العراق الى الكيبوتزات الصهيونية آخر ما يخطر في بال يهود بغداد. بعد لقائه مجموعة من وجهاء اليهود العراقيين، كتب ارنولد ويلسون، المندوب السامي البريطاني في بغداد الى وزارة الخارجية البريطانية ان اعلان بلفور لم يثر اي اهتمام في العراق. واضاف يقول ان اليهود الذين اجتمع بهم قالوا له ان فلسطين بلد فقير والقدس مدينة لا تصلح للمعيشة. وبالمقارنة مع فلسطين، فان العراق هي الجنة، كما قال له احدهم انها جنة عدن، وبالنسبة لنا فان العراق هو الوطن.
في البدء، لم يستجب اليهود العراقيون للخطاب الصهيوني. بل ان البعض منهم كان معاديا للصهيونية، وبغض النظر عما يمكن ان تثيره فكرة اقامة وطن قومي لليهود في نفوس البعض من نوازع، فان الغالبية كان تخشى من ان يعرض المشروع الصهيوني حياتهم في العراق الى الخطر.
في كتابه بغداد الامس يستذكر ساسون صوميخ المولود في بغداد عام 1933 سنوات الاربعينيات من القرن العشرين التي يصفها بانها العصر الذهبي للامن والتلاحم.
يقول صوميخ ان اليهود العراقيين في تلك السنوات كانوا يشيدون المساكن الجديدة ويفتحون المدارس والمستشفيات ولا تبدو عليهم مطلقا اية رغبة في الرحيل عن البلاد. وكانوا ينعمون بالرخاء العام الذي ساد العراق في السنوات ما بين 1941 و 1948 حيث كان اليهود الذين لا تزيد نسبتهم عن 2 بالمئة من مجموع السكان يديرون 75 بالمئة من تجارة الاستيراد. نشأ صوميخ في حي بغدادي مختلط يعرف باسم بستان الحسن وبدأ بكتابة الشعر العربي في سنوات مراهقته وهو يدين بالفضل لاساتذته الذين رعوا موهبته الادبية وكلهم من العرب المسلمين.
اختار صوميخ عنوانا ثانيا لكتابه بغداد الامس هو تكوين العربي اليهودي. والكتاب عبارة عن مرثية لتجربة التعايش التي عرفها في بغداد، يستذكر فيه الكاتب الايام التي كان الادباء العرب واليهود يلتقون معا في المقاهي المنتشرة في شارع الرشيد ببغداد، يقرأون الكتب نفسها، ويحلمون بدولة مستقلة وحديثة وعلمانية يستطيع فيها شاب مثل صوميخ ان يعتبر نفسه يهوديا وعربيا في الوقت نفسه.
كانت غالبية الكتاب الذين عرفهم صوميخ في العراق تدور في فلك الحزب الشيوعي، ويقول صوميخ ان الشيوعيين نجحوا حتى عام،1948 في توجيه الغضب الجماهيري ضد الامبريالية والصهيونية. في عام 1946 شكل عدد من الشيوعيين اليهود عصبة مكافحة الصهيونية التي واجهت التهديد من الحركة الصهيونية السرية آنذاك ومن الزعيم السياسي نوري السعيد الذي اسخطه انخراط اليهود في صفوف المعارضة الشيوعية.
لكن اندماج اليهود في المجتمع العراقي تزعزع بشدة اثر اندلاع الحرب في فلسطين عام.1948 كان الموساد قد ضاعف نشاطه في العراق بعد مجيء الملك غازي - المعروف بمعاداته للبريطانيين - الى الحكم وبعد ثورة مايس ايار 1941 التي قادها ضباط قوميون حصلوا على تأييد الالمان. وقد دخل عدد من ضباط الموساد الى العراق بصفة متطوعين في القوات البريطانية التي اخمدت تلك الثورة.
لم يكن هدف الموساد تحسين اوضاع اليهود في العراق انما العمل على ترحيلهم عنه. وقد ظهرت منشورات تدعو اليهود الى عدم الاختلاط بالعرب وتهدد من يتعامل معهم بان ذلك التعامل يقود الى المذابح.
في الوقت نفسه روجت الحكومة الاسرائيلية حديثة العهد روايات ملفقة عن مذابح ومعسكرات اعتقال لليهود في العراق واصدرت بيانا يدين قيام الحكومة العراقية باعدام سبعة يهود بتهمة الانتماء الى الحركة الصهيونية وهو ادعاء اعترف كبير عملاء الموساد في بغداد بانه عار عن الصحة. وحذرت اسرائيل من انها سوف تدعم المقاومة المسلحة ضد حكومة نوري السعيد في بغداد اذا لم يسمح لليهود العراقيين بالهجرة، كما بدأ الاسرائيليون في ذلك الوقت، بترويج فكرة مبادلة اليهود العراقيين باعداد مساوية لهم من اللاجئين الفلسطينيين وهي فكرة تحمست لها وزارة الخارجية البريطانية التي جاء في مذكرة لها ان التخلص من الاقليات غير المتجانسة يهدئ النيران بدلا من ان يذكيها.
من جانبها، اقنعت السفارة الامريكية في بغداد رئيس الوزراء العراقي انذاك توفيق السويدي بان تمرير قانون اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الراغبين بالهجرة من العراق لن يؤدي الى هجرة جماعية ما دامت اسرائيل تلتزم بسياسة معتدلة وتوافق على تسوية سلمية لا تبدو غير مقبولة جدا من قبل العرب.
لكن هدف اسرائيل كان تجميع المنفيين وليس التوصل الى تسوية سلمية. كانت اسرائيل قد استولت على اراض تزيد مساحتها بنسبة 20 بالمئة عن مساحة الارض التي منحت لها بموجب قرار التقسيم. وكانت بحاجة الى المزيد من اليهود ليستوطنوا في تلك الاراضي، وبحلول ايار عام 1950 كانت الصفقة قد ابرمت بين ريتشارد ارمسترونغ من الموساد الاسرائيلي وتوفيق السويدي رئيس وزراء العراق لترحيل اليهود العراقيين الى اسرائيل.
يتساءل ساسون خضوري، كبير حاخامي بغداد: لماذا لم يأت احد الينا بدل التفاوض مع اسرائيل حول ترحيل اليهود العراقيين? لماذا لم يشر احد الى ان زعامة اليهود العراقيين الراسخة والمسؤولة تعتقد بان العراق هو موطنهم، في اوقات الشدة والرخاء، وقد كنا واثقين من ان الشدة ستزول?
هنا، ظهرت الحاجة الى امر يحمل اليهود العراقيين، الميالين الى الصبر لحين زوال الشدة، على الرحيل، فكانت سلسلة التفجيرات التي استهدفت احياء يهودية في بغداد وابتدأت في نيسان 1950 ثم استؤنفت عام 1951 مع اقتراب انتهاء مهلة العام التي منحت لليهود العراقيين ليختاروا بين المكوث في البلاد او الهجرة منها. ويعتقد الكثير من اليهود العراقيين اليوم ان الذين نفذوا تلك التفجيرات كانوا عملاء اسرائيليين هدفهم دفع اليهود الى الهجرة.
يقول صوميخ انه طار الى اسرائيل يوم 21 اذار 1951 مع مئتي يهودي عراقي يفترض ان تكون تلك الرحلة نهاية شتاتهم لكني لم ار ايا منهم يقبل الارض التي نزلها.
فقبل مغادرتهم الطائرة استقبلوا بتحية ما كان لهم ان ينسوها ابدا. اذ صعد الى الطائرة رجل راح يرشهم بمادة دي. دي. تي المطهرة. وكان نزولهم في اللد التي طرد منها في يوم 13 تموز 1948 اكثر من ثلاثين الف فلسطيني على ايدي قوات اسرائيلية قادها اسحاق رابين.
يقول صوميخ انه احتجز مؤقتا في معسكر ساحلي بالقرب من حيفا ريثما يقرر ضباط الهجرة الوجهة التي سوف يرسل اليها. وكانت تلك الاجراءات تدعى الصدور بالعبرية او التصدير بالعربية. اعترضنا بغضب على تحويلنا بين يوم وليلة من اشخاص الى بضاعة تستورد وتصدر من قبل موظفين يتكلمون الييديش.
قبل صوميخ كان سمير نقاش الروائي اليهودي القادم من العراق قد كتب في روايته انس بغداد يقول كنا نعيش في قصور ها هم يضعوننا في خيام لكن ظروف المعسكر السيئة لم تكن السبب الرئيس وراء امتعاض اليهود العراقيين بقدر ما كان الازدراء الذي عوملت به حضارتهم في اسرائيل التي يسيطر عليها الاشكيناز.
تقول فيوليت شماش بلاد النهرين هي موطن ابينا ابراهيم وفيها كتب التلمود ووضعت الشريعة اليهودية.
لكن هذه الحقائق ما كانت لتعني شيئا لدى بن غوريون الذي قال لا نريد للاسرائيليين ان يتحولوا الى عرب وقد كان اليهود العراقيون قريبين جدا من ان يكونوا العرب في اسرائيل. وقد وجدوا انفسهم، وهم النخبة في البلاد التي جاءوا منها، يعاملون كأقوام بدائية في حاجة الى الترويض على يد الاشكيناز المصممين على محو اي معلم من معالم الشرق. يقول صوميخ ان العنصرية التي قوبل بها اليهود العراقيون جعلت من المستحيل عليهم التماهي مع الحركة التي جاءت بهم الى ما تسميه الوطن.
في مقالها الذي استعرضت فيه كتابي شماش وصوميخ، ذكرت مجلة لندن ريفيو اوف بوكس ان ساسون صوميخ قدم في مطلع تسعينيات القرن الماضي طلبا لانشاء جمعية للتضامن مع الشعب العراقي هدفها توثيق التعاون والجيرة الطيبة بين اليهود والعراقيين، بما يسمح للاجيال القادمة بالاطلاع على هذه الرابطة الرائعة التي ميزت الحياة اليهودية في العالم العربي على مدى 1500 عام، لكن طلبه رفض من قبل مسجل الجمعيات غير الربحية في القدس المحتلة الذي وجد ان من غير المناسب احياء مثل هذه الذكريات واعتبرها مصدرا للتخريب.*
*شكرا لسعادة السفير الاسبق الاستاذ فاروق زيادة الذي ارسل لي المقال عبر الايميل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق