السبت، 23 يونيو 2012

الفيلسوف العراقي مدني صالح يجيب عن سؤال ماجدوى الفلسفة ؟





  الفيلسوف العراقي مدني صالح يجيب عن سؤال ماجدوى الفلسفة ؟
بقلم : الاستاذ محمد فلحي
غادر هذه الدنيا الفانية، بصمت وكبرياء ، الأستاذ الجليل والفيلسوف والكاتب المبدع مدني صالح، بعد مكابدة طويلة، وحياة صعبة ، وبعد معاناة مع المرض، وبعد مرارة الشعور بالإهمال وقلة الوفاء، فضلاً عن بشاعة الموت، وسط غياب العقل والمنطق، واغتيال الحقيقة والحق، في زمن اللامعقول.
   فيلسوف الزمن المر، طوى الورقة الأخيرة، وكسر الأقلام، ونثر المحابر في وجوهنا، وأطلق ضحكته الساخرة الخافتة، ولم يقل كلمته الأخيرة، بعد أن وجد أن الكتابة قد فقدت معناها، وأن القراءة لم تعد من بين ملذات الموت المجاني على الطرقات!
     ليس عجيباً أن يموت الفيلسوف والناقد مدني صالح، بل من العجيب أن يظل مبدع مثله حياً طوال هذه السنين، وأن يتحمل كل ألوان العذاب والقهر والحرمان.. كيف يعيش ذلك القلب الرقيق، والعقل الحساس، وماذا يكتب قلمه المرهف، وسط طوفان الدم، حيث السيف يغتال القلم، في كل لحظة، وقد كان قلم مدني صالح أشد بأساً من السيف، في مواجهة الأدعياء والأغبياء، وما أكثرهم في هذا الزمن الرديء!؟
    تعود علاقتي بالفيلسوف والكاتب المبدع والناقد البارع مدني صالح، إلى نهاية السبعينيات، من القرن الماضي، وقد كنت من بين جيل من الشباب، يعيشون بدايات التفتح العقلي، وعنفوان تدفق الوعي، وشغف القراءة، وحب الأدب، كنا نقرأ كتابات مدني صالح في مجلة : (آفاق عربية) التي كان يرأس تحريرها الشاعر شفيق الكمالي، وبخاصة تلك المقالات  النقدية المتسلسلة التي كتبها مدني صالح بعنوان(هذا هو السياب) و(هذا هو البياتي)، ونطالع كتاباته الفلسفية العميقة عن ابن طفيل والغزالي وابن رشد وغيرهم، وقد كان ما يثير ذائقتنا الأدبية الغضة، في مقالات مدني صالح، تلك اللغة المتميزة، والمفردات المنحوتة بالمعاناة الصادقة، والملونة بالدهشة، وتلك الصور الطريفة، والانتقادات اللاذعة، والسخرية المريرة!
   لا أبالغ إن قلت إن من يقرأ كتابات مدني صالح، لابد أن يصاب بنوع من الإدمان الذي يجعله متشوقاً لقراءة المزيد منها، ولا بد أن يتعرف على أسلوبه المتميز، وطريقته الخاصة في تركيب الجمل، والمزج الفريد بين النقد الأدبي والمضمون الفلسفي والحس الصحفي، الذي يلتقط بذكاء شديد صوت الناس ويحوله إلى كلمات نابضة بالحياة، من بين الكثير من كتابات الآخرين السائدة الهزيلة، وقد استطاع بعبقريته الفذة أن يخاطب أجيال متعددة من المثقفين، ويفرض عليهم سطوة الشعور بالعشق والإعجاب، عبر الكلمة المبدعة الصادقة، وسط كم هائل من كتابات مناظريه أو حاسديه، التي تفوح من بينها روائح النفاق والتلفيق والكذب والدجل، حيث تتسابق الكثير من  الأقلام لمسح أحذية السلاطين والطغاة!
    تعرفت على مدني صالح من خلال القراءة الواعية، وقد جاءت الفرصة الثانية، التي جعلتني قريباً جداً منه، عندما كنت طالباً في قسم الإعلام في كلية الآداب،عام 1980 وكان من بين مواد المنهج الدراسي المقرر، موضوع مباديء الفلسفة، ومن حسن الحظ أن رئيس القسم(حينذاك) الدكتور سنان سعيد رحمه الله  قد اختار مدني صالح لتدريس هذه المادة، وفي نهاية أول محاضرة، وبعد أن سيطر علينا الأستاذ بلباقته الساحرة وأفكاره المدهشة، وقعت مشاكسة  من جانبي لاستفزازه بسؤال مثير: ما جدوى الفلسفة يا أستاذنا الجليل وسط عالم لا يحكمه العقل، ومجتمع لا يعمل وفق المنطق؟!
   التقط مغزى السؤال بعبقريته المعروفة، وراح يحدق في وجهي قليلاً، ثم قال: يأتيك الجواب في المحاضرة المقبلة.. وغادر القاعة، ليتركني وزملائي في حالة من الذهول والتعجب والانتظار!
  بعد مرور أسبوع طويل، وكانت الحرب العراقية- الإيرانية قد اندلعت، لتدمر، طوال عقد من الزمن، أحلام جيلنا وتطلعاته ومواهبه، كنا نجلس، بلا رغبة، في قاعة الدرس، نترقب وصول أستاذنا الفيلسوف، لعله يجيب عن بعض تساؤلاتنا الأكثر مرارة، وسرعان ما أقبل علينا بهيئته المتواضعة، حيث كان يرتدي دائما سترة من قماش القطيفة الخضراء، وسروال بني اللون وقميص بدون ربطة عنق، ويتمايل في مشيته مثل مالك الحزين،مكسور الجناح!
    دخل القاعة، وأقبل نحوي مباشرة، وأمسك بيدي برقّة، وسحبني خارج القاعة، بعد أن استأذن من بقية الطلبة، وراح يتقدمني قليلاً في الممر الضيق، ثم خرجنا معاً إلى الرواق الخارجي، متجهين بصمت نحو بوابة الكلية، وعبرنا البوابة إلى الشارع الفرعي، ثم وصلنا إلى مرآب السيارت القريب، وكانت هناك سيارة مرسيدس خضراء اللون متوقفة عند الباب، يقف وراءها طابور طويل من السيارات، وسط ضجيج الأبواق وتذمر السائقين، طلب مني الركوب إلى جانبه، في تلك السيارة، التي تحركت إلى داخل موقف السيارات، وتوقفت في المكان المناسب، وعندما غادرنا الموقف، راجعين إلى الكلية، كانت الضجة قد انتهت وتلاشى الازدحام المروري!
    لم يتحدث معي في رحلة الذهاب والإياب، وعندما وصلنا إلى القاعة الدراسية، كان الزملاء يترقبون تفسيراً، فطلب مني أن أروي لهم ما شاهدت، عند المرآب، وعندما انتهيت من الحديث، راح يعلق على الحكاية بقوله: عندما أوقفت سيارتي في المكان غير المناسب، فقد خالفت إحدى قواعد النظام المروري، وهذه المخالفة البسيطة أدت إلى الضجيج والازدحام والفوضى، وهذا مثال فقط، لإن حياة البشر تنظمها العديد من القواعد والأنظمة والأخلاقيات والقوانين، ومن يخالفها لابد أن يصطدم مع مصالح وحريات الآخرين..ومن ثم لا يمكن للحياة أن تستمر من دون نظام دقيق.. وأضاف: إن الفلسفة تُعنى باستخدام المنطق العقلي في تفسير نظام الحياة واستنباط غاياته وأهدافه، ومحاولة وضع القواعد المناسبة لاستمرار الحياة وتطورها.. وهذا هو الجواب على سؤالك حول جدوى الفلسفة!
    لم يتجرأ أحد من الطلبة على الغياب من محاضرات الفلسفة، في ذلك الفصل الدراسي، وقد ربطتنا، بعد ذلك، مع أستاذنا مدني صالح علاقات صداقة، وكان يتابع ما ننشر من قصص وقصائد ومقالات، وينقدها ويقومها، وكنا نحرص على قراءة ما يكتب، في صحيفة الجمهورية ومجلة الف باء...لم يحصل على شهادة الدكتوراه، من بريطانيا، رغم تقديمه لإطروحته الفلسفية، بسبب احتجاجه على عنصرية لجنة المناقشة، ورفضه للمنهج الغربي المنحاز ضد العرب والمسلمين.. وظل مكتفيا بشهادة الماجستير، حيث ترقى لمرتبة الأستاذية، بعد أن نشر الكثير من الكتب والبحوث، وأشرف على عشرات الأطروحات والرسائل الجامعية، ولم يغادر العراق، للعمل أو الهجرة، رغم قسوة الظروف، وصعوبة العيش، وأضطر في أواخر أيام شيخوخته، إلى بيع بيته وأثاثه وسيارته وكتبه، لـوفير لقمة الخبز لعائلته، ولكي يتجنب مذلة السؤال أو الوقوف مستجدياً في أبواب الحكام، فظل شامخاً زاهداً طاهراً!
    يستحق أن يوصف المرحوم الفيلسوف والناقد مدني صالح بالمبدع العراقي الوطني الشريف ... كان مدني يرفض أن يلقب ب(الهيتي) ويأنف من هذه التسميات والألقاب، التي تكرس سياسة التمييز وتزيد الفرقة وتثير الضغينة، وكان يسخر من الذين يتعكزون على ألقابهم ومناطقهم،... لم يكن مدني شرقياً ولا غربياً، ولم يكن سنياً ولا شيعياً، ولم يكن قومياً ولا شيوعياً، ولم يكن ملحداً ولا دينياً، كان فقط إنساناً مفكراً، ملتزماً بالدفاع عن كرامة الإنسان وحريته، وقد رسم بقلمه المبدع وسلوكه الراقي، خارطة العراق الكبير، وكان عقله الفلسفي يجعل من نظرته للحياة ذات أبعاد إنسانية واسعة، وكانت ثقافته الرصينة تجعله منحازاً للمبدعين والشرفاء، وكان يرعى الموهوبين من طلبته، ويحترم الأذكياء.. فسلام عليك يا مدني، يوم ولدت ويوم أبدعت ويوم رفضت الظلم، ويوم غادرت، غاضباً أسفاً، ويوم تُبعث حيّأً.
 سلام لك من تلميذ، تشرف باغتراف بعض فيض مواهبك، ونهل من عذب أفكارك، وقد هزته مشاعر الحزن  والوفاء، في يوم فراقك.. ألف سلام عليك يا أستاذي الجليل، أيها الإنسان النبيل!
·      *مقتبسة  عن  مركز النور الالكتروني-بتصرف  -


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...