أهمية
الوسطية ومنهج الاستقرار في عالم متغير
أ.د.
إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - مركز الدراسات الإقليمية –جامعة
الموصل
مستخلص البحث:
الوسطية
التي نقصد في البحث، ليست تسليما بالواقع، وإنما هي القدرة على التعامل مع الواقع
لتغييره وليست القدرة على التكيف مع الواقع دون تغييره. ومما يعطي الوسطية،
والدعوة إلى منهج الاستقرار أهمية، أن الوسطية ترفض الخضوع للأجنبي. كما أنها ترفض
واقع التخلف، والتجزئة لان ذلك تضييع للحقوق وتفريطا بها. كما أن الوسطية تؤمن بالتدرج، واقتراح البدائل، وعدم الاكتفاء
بالنوايا الصادقة في الإصلاح، وإنما العمل المتواصل على تقديم النماذج الصالحة.
إنها حالة من التوازن بين التشدد والشذوذ من جهة، والتهاون والتقصير من جهة ثانية.
وهي منهج في الحياة، وفي العمل السياسي وفي التعامل مع الآخرين، والوسطية كتيار،
ممتد عبر التاريخ، ليس وليد حالة تاريخية واجتماعية راهنة، وإنما هو نتاج لحركة
التجديد. والوسطية بهكذا مفهوم لاتلجأ إلى طريق العنف في التغيير الداخلي، لكنها
تبرر المقاومة لقوى الاحتلال والهيمنة الخارجية.
ويقينا
إن الوسطية، إذا ما انتهجت، فأنها ستؤدي إلى الاستقرار السياسي، والاجتماعي، فلا
تنمية بدون استقرار، ولا استقرار بدون وسطية. وكما هو معروف فأن من معايير
الاستقرار السياسي والاجتماعي ازدياد فرص الانفتاح السياسي، والديموقراطية
المقترنين بالاعتدال في المواقف والسلوكيات، فالفكر الوسطي يؤمن بالآخر ولا يرفضه
ويسعى من اجل تأمين نقاط التقاء مع الآخرين. ومن ثمار الوسطية زرع الثقة بين أبناء
البلد الواحد وهذا مما يشيع حالة من المودة، وبناء علاقات اجتماعية ايجابية،
والابتعاد عن التعصب والحقد وهذه تساعد في بناء المجتمع وتحقيق حالة من الاستقرار
التي تهيئ المجال للتفاعل الاجتماعي الصحيح وإحراز اكبر قدر من المنجزات المفيدة.
ويتساءل
البحث عن، من هم المؤهلين في مجتمعنا لقيادة منهج الوسطية، والسعي باتجاه تحقيق
الاستقرار، والسلم الاجتماعي، والتنمية المستدامة؟ ونقول– وبكل صراحة–
إنهم أبناء الطبقة الوسطى.. هذه الطبقة التي باتت تواجه في عالمنا العربي الذوبان،
والانهيار، والتفكك نتيجة استقطاب المجتمع إلى(قلة يملكون كل شيء)، و(كثرة لاتملك
شيئا).
مقدمة:
لم يكن الأستاذ
نبيه أمين فارس، المؤرخ والأستاذ في الجامعة الأميركية في كتابه الشهير "من
الزاوية العربية"، والمنشور في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، مبالغا،
عندما قال أن النصف الأول من القرن العشرين، كان سخيا جدا بالنسبة إلى العرب، أو
قل سخيا أكثر مما يستحقون إذا ما نظرنا إلى جهادهم القومي طوال هذه الفترة من
الزمن، وإذا كان العرب قد قاسوا بعض الويلات، فان النعم التي أتمت عليهم الأكثر
والأعظم، فما من محنة إلا وكان في طيها منحة، فما عبس في وجههم يوم إلا وابتسم لهم
أخر، فنالوا استقلالهم السياسي في أكثر أقطارهم على أهون سبب، وعلى حساب حرب
عالمية أنهكت العالم بأسره تقريبا إلا هم،
وواكبت ظروف أخرى مؤاتية لا تأتي في حياة الشعوب إلا مرة في كل ألف سنة(1).
واليوم، يقف العرب اليوم على عتبة النصف الأول من القرن الحادي والعشرين،
وقفة جديدة ليست كالوقفة السابقة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، حينما نال
بعضهم استقلالهم، إنها وقفة الحيرة، والارتباك، والعجز، في مواجهة التحديات
الجديدة، وان (الدولة العربية الحديثة) وحتى (الجهاز الاتحادي) المتمثل بجامعة
الدول العربية، عانت وتعاني من ضعف في بنيتها الأساسية، وقد انتقلت من تجربة
سياسية إلى تجربة سياسية أخرى اتسم الكثير منها بالحروب والنكسات والمحن..
فما الذي جرى؟ والى أي حد يمكن لهم ولنظامهم السياسي والإقليمي الصمود؟ وهل تتيسر للعطار فرصة إصلاح ما أفسده الدهر،
وبمعنى آخر هل يستطيع نظامهم السياسي والإقليمي التكيف مع متغيرات العالم الهائلة
وعلى كل المستويات؟ يقينا أنها أسئلة مشروعة وللإجابة عليها لابد من معرفة أمرين
مهمين: أولهما يتعلق بطبيعة المتغيرات التي يشهدها العالم اليوم وخاصة على صعيد
المعلومات والاقتصاد والإدارة. وثانيهما مدى انعكاس هذه المتغيرات على مستقبلهم.
وأخيرا ما الذي يحتاجونه من مناهج لإصلاح أحوالهم، وخاصة بنيتهم التي تعاني من
اختلالات في كل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية(2).
لقد تأسس النظام العربي والإقليمي في
سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى في أجواء الاحتلال الأجنبي، فأصبح لايعبر عن
إرادة شعبية حقيقية
فضلا انه صار يوما بعد آخر، فاقدا
للشرعية. كما أن السلطة، في معظم الدول العربية، لم تشهد تداولا سلميا ديمقراطيا
طبيعيا بل اعتراها الكثير من التخبط فمن توريث إلى قتل إلى عزل إلى انقلاب تلو
انقلاب(3). وحتى الجهاز الاتحادي المتمثل بجامعة الدول العربية – ولمّا
يمض على أيام تأسيسها الأول- سوى نصف قرن من الزمان، عانت ما عانت، وانتقلت من
تجربة سياسية إلى تجربة سياسية أخرى، وان الانتقال تم في أوضاع ليست طبيعية، ففي
ظل القوى الاستعمارية، نمت هذه الدول، وفي ظروف تحدي إسرائيل، انتعشت حروب،
ومواجهات، ونكسات، ومحن، وهزائم، وقليل من الانتصارات لم تسمن ولم تغن من جوع.
وللأسف فان دعوات الإصلاح، واغلبها جاءت من الخارج، لم تعد تجد لها صدى، وحتى
النخب المثقفة العربية أصبحت تعاني إما من مرض السكوت أو العزلة والسلبية أو من
التدجين والسير في ركاب السلطة، والسعي باستمرار لتلميع صورتها، مع المعرفة التامة
بما تعانيه من ترهل، وضعف، وتفكك، وفساد، أخذت رائحته تزكم الأنوف(4).
أما النظام الإقليمي العربي، فقد وصل
إلى نهايته، ودخل العمل العربي المشترك في نفق مسدود، فجهازه المؤسسي مشلول،
وقاعدته الأيدلوجية منهارة، وقدراته التعبوية ضعيفة، خاصة بعد أن فشل في مواجهة
وحل الأزمات الإقليمية التي تعصف اليوم بالساحة العربية(5).
مفاهيم جديدة:
في الستينات والسبعينات من القرن
الماضي، كنا نتلمس بسهولة حالات من الاستقطاب الحاد الذي عرفها (النظام العربي)
بجناحيه المحافظ، والثوري كما كانت تسمى، والتي عكست إلى حد ما الصراع الأيدلوجي
بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ويجب أن نتذكر جميعا كيف ان الأمة خسرت لعقود
عديدة الكثير بسبب الصدع الكبير بيت التيارين القومي من جهة واليساري من جهة ثانية
وبين القومي واليساري من جهة والإسلامي من جهة أخرى ويقينا أن السبب هو النظرة
الحدية الأحادية للأحزاب التي شهدتها الساحة العربية.. لكن بعد انهيار الاتحاد
السوفيتي السابق وتفككه، بدأت الصراعات والأزمات تتزايد بسرعة وشدة إلى أن أصبحت
المنطقة اليوم، تغلي بالصراعات المحلية والقومية والإقليمية. ومما زاد في حدة هذه
الصراعات، سيادة مفاهيم جديدة تختلف عن المفاهيم الدولية التي استقرت منذ عشرات
السنين، ومن هذه المفاهيم مفهوم السيادة(6).
وكما هو معروف، فان سعي الولايات
المتحدة الأميركية، بعد استقرت قطبا أوحدا لإعادة تشكيل العالم- وفق منظورها
البراغماتي- كان وراء ذلك كله والولايات المتحدة الأميركية، لم تعد تخفي أنها
تحاول خلق شرق أوسط جديد وكبير يتسم بالاستقرار والسلام والرخاء، ذلك أن افتقارها
لأي عنصر من هذه العناصر يخلق- من وجهة نظرها -تهديدا لمصالحها وأمنها القومي.
وأول هذه التهديدات هي التي اصطلح عليها بـ "مشكلة الإرهاب". هذا فضلا
عن أن اضطراب أسعار النفط في المنطقة، يشكل تهديدا كبيرا للمصالح الحيوية
الأميركية، حيث أن الشرق الأوسط يسهم بالشريحة الكبرى من الإنتاج العالمي من
النفط، بامتلاكه غالبية احتياطات العالم(7).
ومما يؤسف له أن مشكلة الإرهاب، ارتبطت
بتنامي التوجهات (الأصولية الإسلامية)، التي ازدهرت بعد الاحتلال السوفيتي
لأفغانستان، والسعي لانتهاج طريق المقاومة والجهاد، وتشجيع الشباب على الذهاب إلى
أفغانستان بحجة محاربة الكفار. ولا ننسى الحملات الواسعة النطاق لجمع الشباب،
وتوفير الأموال في مناطق مختلفة من العالم العربي وخاصة في دول الخليج والمملكة
العربية السعودية لهذا الغرض. ومما نجم عن ذلك من عودة أولئك الشباب، بعد انسحاب
السوفييت، وانتشار مشاعر الغضب، واليأس، وتفاقم البطالة، وسوء التعليم، بسبب ضعف
الأنظمة الحاكمة، واستبدادها، وافتقارها للشرعية(8).
لقد فتحت الحرب في أفغانستان، والثورة
الإسلامية في إيران 1979،
والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988،
وانهيار الاتحاد السوفيتي، الباب أمام سيادة نوع من الأطروحات السياسية والفكرية
في الغرب وأبرزها: (أطروحة نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما)(9)،
و(أطروحة صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون(10). وتتلخص الأطروحة الأولى
في أن الغرب، بانهيار المنظومة الشيوعية أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كسب
المعركة، وان السبيل الوحيد لمستقبل البشرية هو اختيار الأنموذج الليبرالي
الديمقراطي الغربي باعتباره الشكل النهائي لأي حكم أنساني. أما الأطروحة الثانية
فتذهب إلى أن العامل الديني والثقافي أصبح هو المحرك الرئيسي للصراع بين الحضارات.
وكلتا الأطروحتين تؤكدان تفوق الحضارة الغربية على الحضارة الإسلامية، وان
المسلمين يكرهون الغرب بسبب ديمقراطيتهم، وانفتاحهم. وكان من نتائج شيوع هاتين
الأطروحتين في الفكر السياسي العالمي، أن الولايات المتحدة الأميركية راحت تركز
جهودها على وضع حركة التفاعلات الدولية تحت هيمنتها، فبشرت بنظام دولي جديد، وشرق
أوسط موسع وكبير. ومما زاد من قيمة هاتين الأطروحتين ما حدث في 11
أيلول – سبتمبر 2001،
والاتهامات التي وجهت للأصوليين الإسلاميين المتمثلين بتنظيم القاعدة وزعيمهم
أسامة بن لادن وأبرزها- كما قال الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش- أن من
سماهم الإرهابيين يأملون في إنشاء إمبراطورية إسلامية توتاليتارية يسمونها الخلافة
يحكم فيها الجميع وفقا لعقيدة الكراهية. وشدد بان الإدارة الأميركية تحمل كلام أولئك
محمل الجد وعلى الولايات المتحدة الأميركية أن تعمل بتصميم لمنعهم من التوصل إلى
أهدافهم(11).
الحاجة إلى الإصلاح والتغيير
في العاشر من تموز سنة 2002
وضع لوران مورافيتش(12). المحلل الاستراتيجي في مؤسسة راند للدراسات
تقريرا قدمه إلى هيئة السياسات الدفاعية في البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)،
يتكون من (24) نقطة تلخص ما وصفه
التقرير بأنه "الإستراتيجية الكبرى للشرق
الأوسط". ويقول التقرير بالحرف مايلي: أن العراق يجب أن يكون المحطة الأولى
التي ينبغي أن يحدث فيها التغيير، ومن بعد ذلك تأتي السعودية ومصر وهكذا بالنسبة
لبقية البلدان.. وقد رسم التقرير صورة قاتمة للأوضاع في العالم العربي تدل، بما لا
يدع مجالاً للشك، على أن الولايات المتحدة عازمة على إجراء تغييرات جوهرية في هذه
البلدان. ويضم التقرير وهو بعنوان: "ماذا أنتج العالم العربي؟!" مجموعة
من النقاط أبرزها:
1.
أن هناك مشكلات اقتصادية وديموغرافية باتت مستعصية على الحل بسبب
الفشل في تأسيس سياسات تضع الازدهار والرفاء هدفاً لها.. وفي كانون الثاني 2003 أطلق كولن باول وزير
خارجية الولايات المتحدة الأميركية – آنذاك - أمام مؤسسة التراث (هيرتيج فاونديشن Heritage Foundition) مبادرة أسماها (مبادرة الشراكة الأميركية مع الشرق الأوسط" Us – Middle East Partnership Initiative، وتتضمن المبادرة إعلان قيام الولايات
المتحدة الأميركية بالمساعدة على إقرار إصلاحات سياسية، واقتصادية، واجتماعية،
وثقافية في بلدان الشرق الأوسط. وتتركز المبادرة على ثلاثة أسس وهي:
- الإصلاحات
الاقتصادية
- الانفتاح
السياسي والاجتماعي
- التربية
والتعليم
وفي السابع من آب 2003 تحدثت كونداليزا رايس
وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، وكانت في وقتها مستشارة للأمن القومي، عن
المشروع الأميركي الخاص بالتغيير في الشرق الأوسط وذلك عبر مقالها المنشور في
صحيفة واشنطن بوست بعنوان: "تأملات في التحول المنتظر بالشرق الأوسط"
وأكدت بأن المنطقة العربية المكونة من 22 بلداً مع سكان يبلغ عددهم 300 مليون نسمة، متخلفة،
وتفتقر إلى الحرية السياسية والاقتصادية، والناس فيها يعانون من الإحباط واليأس
والوضع أصبح يشكل "تهديداً متواصلاً لأمن الولايات المتحدة الأميركية"
نفسها.
المهم، ودون الدخول في
التفاصيل وردود الأفعال، فان الولايات المتحدة عرضت المشروع على قمة الدول ألثمان
الصناعية الذي انعقد في سي آيلاند بالولايات المتحدة في حزيران 2004، وجاء في نص مشروع الشرق
الأوسط الكبير والذي سمي لاحقاً بـ "مشروع الشرق الأوسط الموسع" ما يشير
إلى أن الشرق الأوسط الكبير "يمثل تحدياً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي،
فالمنطقة تعاني من نواقص ثلاثة حددها المثقفون والكتاب والخبراء العرب أنفسهم في
(تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية للسنتين 2002 و2003 والنواقص هي (الحرية
و(المعرفة) و(تمكين النساء) والنواقص هذه تخلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية
لكل أعضاء مجموعة الدول الصناعية الثمان، و"طالما تزايد عدد الأفراد
المحرومين من حقوقهم السياسية، والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف،
والإرهاب، والجريمة الدولية، والهجرة غير الشرعية" على حد قول واضعي المشروع.
ويصف
المشروع صورة الشرق الأوسط الموسع، بوضعه الحالي، ويؤكد بأنها قاتمة
و"مروعة" وتتضح القتامة في الظواهر التالية:
*
إن مجموع إجمالي الدخل
المحلي لبلدان جامعة الدول العربية الـ (22) هو أقل من نظيره في
إسبانيا.
*
حوالي 40% من العرب البالغين 65 مليون شخص اميّون، وتشكل النساء ثلثي هذا
العدد.
*
هناك حاجة لخلق مالايقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص الشباب.
*
يعيش ثلث المنطقة على أقل من دولارين في اليوم.
*
لاتشغل النساء سوى 3.5% فقط من المقاعد البرلمانية العربية.
*
في امكان 1.6% فقط من السكان استخدام (الانترنيت).
*
يرغب 51% من الشبان العرب الهجرة إلى بلدان أخرى.
*
هناك أقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي،
بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل ألف شخص في البلدان المتقدمة.
*
إن ما تنتجه كل البلدان العربية من الكتب لا يمثل سوى 1.1% من الإجمالي
العالمي.
*
التعليم الأساسي في المنطقة يعاني من نواقص وتراجع.
* إن العالم
العربي يترجم سنويا 330 كتابا
أجنبيا أي ما يعادل خمس ما تترجمه دولة مثل اليونان.
* وان هناك 70 مليونا لايحسنون
القراءة والكتابة.
*
وان الإنسان العربي لايقرأ في المعدل سوى نصف ساعة في السنة.
*
وان البطالة بلغت مستويات عالية تصل إلى 60%.
*
وان حصة الدول العربية كلها من الصادرات العالمية- إذا ما استثنينا النفط لاتمثل
حاليا سوى واحد بالمائة من حجم التجارة الخارجية .
*
وان نسبة طالب إلى مدرس، ونسبة مريض إلى
طبيب، ونسبة ما يستهلكه الإنسان العربي من الورق والصابون ومساحيق التنظيف متدنية
جدا بل ومخجلة . هذا فضلا عن سيادة استبداد الحكام، وتعسفهم، وتنوع وسائل القسوة
والعنف تجاه سجناء الفكر والرأي، واستخدام التعذيب في السجون (13).
لاننكر أن ثمة استجابات متعددة للإصلاح،
ظهرت داخل العالم العربي على المستوين الرسمي والشعبي، وكلها تؤكد أهمية الإصلاح
والتغيير، خاصة بعد أن شاع التشدد، وانشر العنف، وتعاظم الفساد، واختلفت أنماطه.
وقد اقر الجميع بحقيقة تاريخية وهي أن الغرب، مع انه يرفع دعوات الإصلاح والتغيير
منذ القرن التاسع عشر، لكنه سرعان ما يقف ضد كل حركة نهضة وإصلاح يشهدها العالم
العربي. وتقف دعوات الإصلاح الغربية للدولة العثمانية في القرن التاسع عشر،
ونتائجها، وأبرزها انهيار الدولة العثمانية، وخروجها من ساحة التاريخ، مثالا بارزا
على أن الإصلاح لابد وان يبدأ من الداخل: "لنحلق رؤوسنا قبل أن يحلقها لنا
الآخرون"، إن هذا هو الشعار السائد في عالمنا العربي اليوم(14).
الوسطية التي نريد:
ولكن ما هو نوع الإصلاح الذي نريد؟ وما هو
المنهج الذي ينبغي أن يتبع؟ وهل نحن بحاجة لان تكون لنا رؤانا الخاصة إزاء
الإصلاح؟ وأية تجارب يجب أن نحتذي؟.
إن أية مراجعة لما قدمه المفكرون،
والمثقفون، والأكاديميون، وغير الأكاديميين في عالمنا العربي، حول دعوات التغيير
والإصلاح- سواء كانوا من ذوي السياسة أو الاجتماع أو التاريخ أو الاقتصاد أو
الإعلام أو القانون - تثبت أنهم يقرون بان دعوات الإصلاح والتغيير الجديدة، ببعدها
العولمي، أخذت طابعا سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا واستندت إلى سلسلة من تقارير
التنمية البشرية حول الشرق الأوسط. كما أن الإصلاح والتغيير بات ضروريا في ضوء
التحديات التي نواجهها، وان أي مشروع للنهضة والتغيير بحاجة إلى دراسة تجارب
التحديث الناجحة في العالم شرقا وغربا ومنها
مثلا التجربة الماليزية.
إن الأهم من ذلك كله، أن لدينا في
تراثنا العربي والإسلامي، الكثير من مقومات النهضة، فالوسطية، ومنهج الاستقرار،
والاعتراف بالآخر، والحكم الراشد، مفاهيم ليست جديدة، وإنما هي مفاهيم عرفتها
حضارتنا، وان لم نفعل شيئا في هذا الإطار أي إننا إذا لم نبدأ بالتغيير والنهضة
والإصلاح، فلنأذن بقرب خروجنا من التاريخ، والله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم.
والآن ما الوسطية ؟وما الاعتدال؟ وما
منهج الاستقرار الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه من أي وقت مضى؟
إن مما يسود عالمنا العربي اليوم، من
سلبيات وإشكالات وعقد واحباطات، ينبغي أن لايفقدنا القدرة على رؤية الهدف، وتعلم
الوسائل، وصولا إلى النتائج المتوخاة، ولعل من أبرز ما يجب أن نعمل من اجله هو:
(توفر الهمة) و(قوة العزم) (وصدق الإرادة) فالغلو، والتطرف، وعدم الاعتراف بالآخر
والتشدد بالغلظة، والخشونة، وسوء الظن، والسقوط في هاوية التكفير، ورفض الرأي
الآخر ليس من المفاهيم التي عرفها العرب والمسلمون خاصة في عصور الازدهار والنهوض
.فالفكر العربي والإسلامي، خاصة في جانبه السياسي، فكر منفتح، متوازن، عملي،
معتدل، متسامح، عقلاني، وعملي وواقعي(15)،
والإسلام كدين وثقافة، ثورة على الظلم، والاستبداد، ودعوة إلى العدل، والمساواة،
والصراط المستقيم في كل ميادين الحياة، والتوازن والاعتدال يتجسد ليس في جانب
العقيدة، وحسب بل وحتى في جوانب العبادات، والمعاملات، والتشريعات. وعلى هذا
الأساس فالوسطية، ليست أسلوبا في الحياة، بل طريق ومنهج للتغيير والاستقرار. إنها
تعني التوسط أو التعادل
بين
طرفين
متقابلين
أو
متضادين؛
بحيث
لا
ينفرد
أحدهما
بالتأثير،
ويطرد
الطرف
المقابل،
وبحيث
لا
يأخذ
أحد
الطرفين
أكثر
من
حقه،
ويطغى
على
مقابله
ويحيف عليه(16). وفي هذا الصدد يمكن
القول بان الوسطية كمنهج في الحياة، تمثل اتجاها يفضي إلى النهضة، والتغيير،
ومراعاة الواقع، والزمن، فإذا كان التطرف الذي يميل إلى الانعزال عن الواقع أو
المواجهة العنيفة معه، ليس طريقا للنهضة، وإذا كان التفريط هو نوع من التكيف مع
الواقع والخنوع له، والالتحاق بالقوى المهيمنة، والتسليم بالهزيمة، فان الوسطية هي
التي تحمل مشروعا للتغيير بهدف تحقيق النهوض الحضاري(17).
والوسطية هنا ليست تسليما بالواقع،
وإنما هي القدرة على التعامل مع الواقع لتغييره وليست القدرة على التكيف مع الواقع
دون تغييره. ومما يعطي الوسطية، والدعوة إلى منهج الاستقرار أهمية، أن الوسطية
ترفض الخضوع للأجنبي. كما أنها ترفض واقع التخلف، والتجزئة لان ذلك تضييع للحقوق وتفريطا بها. كما أن الوسطية تؤمن بالتدرج، واقتراح البدائل، وعدم الاكتفاء
بالنوايا الصادقة في الإصلاح، وإنما العمل المتواصل على تقديم النماذج الصالحة.
إنها حالة من التوازن بين التشدد والشذوذ من جهة، والتهاون والتقصير من جهة ثانية. وهي منهج في الحياة، وفي العمل السياسي
وفي التعامل مع الآخرين، والوسطية كتيار، ممتد عبر التاريخ، ليس وليد حالة تاريخية
واجتماعية راهنة، وإنما هو نتاج لحركة التجديد والوسطية بهكذا مفهوم لاتلجأ إلى
طريق العنف في التغيير الداخلي، لكنها تبرر المقاومة لقوى الاحتلال والهيمنة
الخارجية. ويقينا إن الوسطية، إذا ما انتهجت، فأنها ستؤدي إلى الاستقرار السياسي،
والاجتماعي، فلا تنمية بدون استقرار، ولا استقرار بدون وسطية. وكما هو معروف فأن
من معايير الاستقرار السياسي والاجتماعي ازدياد فرص الانفتاح السياسي،
والديموقراطية المقترنين بالاعتدال في المواقف والسلوكيات، فالفكر الوسطي يؤمن
بالآخر ولا يرفضه ويسعى من اجل تأمين نقاط التقاء مع الآخرين. ومن ثمار الوسطية
زرع الثقة بين أبناء البلد الواحد وهذا مما يشيع حالة من المودة، وبناء علاقات
اجتماعية ايجابية، والابتعاد عن التعصب والحقد وهذه تساعد في بناء المجتمع وتحقيق
حالة من الاستقرار التي تهيئ المجال للتفاعل الاجتماعي الصحيح وإحراز اكبر قدر من
المنجزات المفيدة(18).
الطبقة الوسطى والتغيير:
لنتساءل هنا، من هم المؤهلين في مجتمعنا
لقيادة منهج الوسطية، والسعي باتجاه تحقيق الاستقرار، والسلم الاجتماعي، والتنمية
المستدامة؟ ونقول – وبكل صراحة – إنهم أبناء الطبقة الوسطى ..هذه الطبقة التي باتت
تواجه في عالمنا العربي الذوبان، والانهيار، والتفكك نتيجة استقطاب المجتمع إلى(
قلة يملكون كل شيئ)، و(كثرة لاتملك شيئا)(19).
لقد تعرضت الطبقة الوسطى العربية إلى
الكثير من التحديات، وانحسر دورها مع أنها قامت بدور مهم في تبني الدعوة إلى
الاستقلال، والعمل من اجله.لم تكن الطبقة الوسطى العربية طبقة رأسمالية بالمفهوم
الغربي، وإنما كانت طبقة اجتماعية احتل فيها المثقفون جزءا ديناميكيا، وخاصة في
دعوتها إلى التحرر السياسي، والتحرر الاجتماعي، ونشاطها في إقامة قاعدة صناعية
وطنية بعيدا عن قيود الحكومات وتدخلاتها(20). وإذا ما أردنا لمنهج
الوسطية، ولدعوة الاستقرار النجاح لابد من توسيع قاعدة الطبقة الوسطى في المجتمع،
وإفساح المجال لها في أداء دورها في إحداث الإصلاحات الاقتصادية، وزيادة حجم
مشاركتها في التجارة العالمية الحرة .وإذا ما تحقق لها ذلك فإنها سوف تكون ليس محركا
للتغيير في العالم العربي والشرق الأوسط، وحسب، بل ومؤثرا على الاستقرار كذلك(21).
Moderation
And Stability Approach
In A changing World
Prof. Dr. Ibrahim Khalil Al – Alaff
Professor of Modern History,
Abstract
Moderation
does not mean to be with reality, but it is the capability in dealing with
reality to change it and not accommodate with reality without changing it. This
gives moderation, the call for stability method an importance. It refuses to be
Subject to foreigner, and rejects backwardness, secession for this means losing
rights.
Moderation
belives in gradualism, suggesting alternatives and not to keep only by faithful
intentions in reform.
There
should be a continous work in providing good examples. It is the state of
balance between extremism and upnormality from one side, negligence and default
from another. Moderation is a method in life, politics and dealing with others.
Moderation as a trend, extends a cross history, not being a historical and
social state, but it is the product of a renewal movement. Moderation does not
take the road of Violence to change things, but it justifies resistance against
powers of occupation and foreign dominance.
Really,
moderation, if it is being applied, it will lead to political and social
stability, There is no development without stability and no stability without
moderation. It is well – Known that standards of political and social stability
may increase the chances of political openness and democracy linked with
moderation in attitudes and behaviours.
Moderation
in thought recognizes the other and doesnot refuse it trying to secure points
of understanding with others. One of these fruits of moderation is to plant
confidence among People of the country and this will spread the state of mercy,
building Positive social relations and to be far from extremism and dislike and
this helps in building society and a achieving a state of stability which
prepares the scope of right social
interaction.
The
paper asks: who are qualified in our society to lead the approach of moderation
to achieve stability, social safety, sustainable development?
We
say, frankly, that they are the people of the Middle class. This class in our
Arab world is facing deterioration and disjoining due to society attracting the
few (Who holds every thing) and the majority (who have nothing).
الهوامش والمصادر:
(1) نشر ببيروت سنة
1953.
(2) انظر: إبراهيم
خليل العلاف، "النظام السياسي العربي والإقليمي من التاريخ الى المستقبل
"في: إبراهيم خليل العلاف (تحرير)، النظام السياسي العربي والإقليمي: التغيير
والاستمرارية، أصدره مركز الدراسات الإقليمية، جامعة الموصل، دار ابن الأثير
للطباعة والنشر، (الموصل، 2009)، ص7.
(3) انظر: عبدالرحمن
خيزران، "النظام السياسي العربي والمعالجات المطلوبة"، مقال منشور على
الشبكة العالمية للمعلومات، موقع الكاتب نفسه.
(4) انظر: السيد ولد أباه، "هل انتهى
النظام الإقليمي العربي"، جريدة الشرق الأوسط (اللندنية)، العدد 10285 في 25
كانون الثاني –يناير 2007.
(5) وابرز تلك
الأزمات ما يسمى بعملية السلام في فلسطين، والصراعات الداخلية في اليمن والصومال ..
(6) خطاب الرئيس
المصري حسني مبارك في الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشورى، 16 تشرين الثاني –نوفمبر
2002 في موقع الهيئة العامة للاستعلامات (الالكتروني).
http://www2.sis.gov.eg/Ar/Politics/PInstitution/President/Speeshes/00
0001/0401010200000000000471.htm وانظر كذلك: مروان الفاعوري، "المدرسة الوسطية.. مدرسة
الابتكار والبدائل"، مجلة الوسطية، عمان، السنة1، العدد4، تشرين الثاني – نوفمبر
2008، ص ص 3-4.
(7) احمد جلال محمود،
"العوامل الجيوإستراتيجية للصراعات الإقليمية في الشرق الاوسط"، موقع
كتاب من اجل الحرية (الالكتروني)، 14 آذار – مارس 2010.
(8) انظر: إبراهيم
خليل العلاف، نحن وتركيا: دراسات وبحوث، أصدره مركز الدراسات الإقليمية، جامعة
الموصل، دار ابن الأثير للطباعة والنشر، (الموصل، 2008)،
ص 429.
(9) انظر : فرنسيس
فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين احمد أمين، مركز الأهرام للترجمة
والنشر، (القاهرة، 1993).
(10) انظر: صموئيل
هنتنغتون، صراع الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، (بيروت،
1998 ).
(11) حول تنظيم
القاعدة وأسامة بن لادن انظر: ستيفن بليتير "الأصولية الإسلامية في الشرق
الأوسط.. النشأة، التطور، المستقبل. في كتاب: مستقبل الإسلام السياسي.. وجهات نظر
أميركية، المركز الثقافي العربي، (الدار البيضاء، 2001 ). وكذلك :
Abdel
(12) انظر:
فاروق البربير، "عن أزمة العالم العربي وتقرير راند كوربوريشن"،
مجلة تاريخ العرب والعالم، السنة (22)، تشرين الثاني – نوفمبر، كانون الأول – ديسمبر
2002، ص ص 3-5 وكذلك: إبراهيم خليل العلاف، "الإصلاح والتغيير.. الحاجة
والحل، في حنا عزو بهنان (الإصلاح والتغيير في العراق ودول الجوار، أصدره مركز
الدراسات الإقليمية، جامعة الموصل، دار ابن الأثير للطباعة والنشر، (الموصل،
2009)،
ص ص 5-6 وكذلك انظر: إبراهيم خليل العلاف، "الشرق الأوسط.. الشرق الأوسط
الجديد.. والشرق الأوسط الكبير: رؤية تاريخية – سياسية، مجلة (دراسات إقليمية)، التي يصدرها مركز الدراسات
الإقليمية بجامعة الموصل، السنة 1، العدد2، كانون الأول – ديسمبر 2004 ص ص 13-37.
(13) للتفاصيل انظر:
جلال احمد أمين، المشرق العربي والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت، 1988
).
(14) انظر : إبراهيم
خليل العلاف، "الإصلاح والغرب.. تجارب من التاريخ العربي الحديث" في حنا
عزو بهنان، المصدر السابق، ص ص 9-12.
(15) للتفاصيل انظر:
فاضل زكي محمد، الفكر العربي في ماضيه وحاضره، دار الحرية للطباعة، (بغداد، 1978
)، ص ص 23-33.
(16) انظر: رفيق
حبيب، "الوسطية والتغيير وتعديل مفهوم الاعتدال، موقع إسلام اون لاين
(الالكتروني )18 أيار – مايو، 2008. ومما ينبغي الإشارة إليه إن الوسطية- كطريق
ومنهج- حظيت بالاهتمام من لدن المثقفين والمفكرين العرب. وقد صدرت في عمان
بالمملكة الأردنية الهاشمية مجلة بأسم: "الوسطية" يصدرها المنتدى
العالمي للوسطية ولها موقع على شبكة المعلومات العالمية رابطه التالي: www.wasatyea.org
كما أنجزت أطروحات حول الوسطية منها أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها
الدكتور أبو أمامة نوار بن الشلي إلى جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة في جمادى
الثاني 1426 هجرية (2005 )، وأجيزت وكانت بعنوان : "نظرية الوسطية وتطبيقاتها
في الفقه الإسلامي".
(17) المصدر نفسه .
(18) للتفاصيل
انظر:يوسف القرضاوي، "الوسطية والاعتدال "، في الموقع التالي:
http://ascooor.maktoobblog.com / وكذلك :يوسف القرضاوي، "مفهوم الوسطية في الإسلام"
موقع القرضاوي (الالكتروني)، 8 آب- أغسطس 2007 والرابط هو:
http://www.qaradawi.net، وانظر لتفاصيل أخرى :محمد عمارة، "سنة التدرج في
الاصلاح"، مجلة الوسطية مارة الذكر، ص ص 5-8، سعد الدين العثماني، "دور
الوسطية في الاستقرار السياسي "، مجلة الوسطية مارة الذكر، ص ص 67-72.
(19) رامون شاك، حوار
مع الخبير في الشؤون الإيرانية والي نصر، ترجمة رائد الباش، موقع قنطرة (
الالكتروني )، 2010
(20) انظر: إبراهيم
خليل العلاف، تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني، دار ابن الأثير للطباعة
والنشر، (الموصل، 1982 ) .
(21) شاك، المصدر
السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق