تقديم الدكتور ابراهيم خليل العلاف لكتاب ( تاريخ التصوير الفوتوغرافي في نينوى 1892-1980) لمؤلفه الاستاذ موفق الطائي والكتاب من منشورات الجمعية العراقية للتصوير الفوتوغرافي -فرع نينوى 2023 وطبع في دار نون للطباعة والنشر في الموصل - مطبعة نركال :
موفق الطائي الفنان، والكاتب، والباحث، والانسان أخي وصديقي لا أعرف احدا مثله في اهتماماته بجوانب الابداع الموصلي في المسرح، والتشكيل، والتصوير الفوتوغرافي. كاتب، وباحث دؤوب يحرص على اعطاء ما يكتب عنه حقه. وهاجسه أن يقدم شيئا لأهله وبنو مدينته الموصل هذه المدينة العريقة الموغلة في القدم. فلقد ألف كتابا جميلا عن المسرح في الموصل بين سنتي 1970 – 2003)، وصدر عن دار الجيل العربي في الموصل سنة 2009. كما أصدر كتابا رائعا بعنوان: (أضواء على الحركة التشكيلية في نينوى) صدر عن دار الاديب بعمان – الاردن سنة 2019، وها هو اليوم يصدر كتابا عن (تاريخ التصوير الفوتوغرافي في نينوى) وهكذا هو يكمل التوثيق للمسيرة الموصلية الابداعية في نينوى في جوانب المسرح، والتشكيل، والتصوير الفوتوغرافي.
ولا اكتمكم سرا اذا قلت انني سعيد ، وفرح بما قدمه ويقدمه الاخ الاستاذ موفق يونس الطائي من ابداعات توثيقية ، لاسيما وانني من كنت وراء اصداره الكتاب الثالث هذا ؛ فلقد اقترحت عليه ذات يوم ان يكتب عن التصوير الفوتوغرافي ، واذا به يتصل بي ، ويعلمني انه قد باشر بجمع المعلومات واخذ يقارنها بعضها بالبعض الاخر ليخرج من بين يديه هذا الكتاب .وقد سعدت حقا مرتين الاولى انني اخبرته بأن لدي مقال عن (نشأة التصوير الفوتوغرافي في الموصل ) .كما انني كتبت عن عدد من رواد التصوير الفوتوغرافي في الموصل منهم نعوم الصائغ والياس سنبل ومراد الداغستاني وكاكا محمد امين ونور الدين حسين ووجيه حامد وصبحي اسماعيل ابو محمد وغيرهم ، وقد طلب مني ما كتبته وانا سعيد بتلبية طلبه وقد اسعدني ثانية انه طلب مني كتابة تقديم الكتاب الجميل كثيرا ما قلت، واقول إن الموصل هذه المدينة التي ولدتُ فيها، والمدينة التي أحبها لابل اعشقها مدينة تزخر بالمبدعين والمبدعات؛ فهي من المدن العراقية الاولى التي شهدت بواكير الطباعة، وبواكير الصحافة، وبواكير المسرح، وبواكير التشكيل، وبواكير التصوير الفوتوغرافي وكان القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هو الزمان الذي أظهرت فيه الموصل ابداعاتها التي جعلت المؤرخين والكتاب يقفون طويلا لكي يستذكروا ما أبدعه اجدادهم في ميادين الطباعة، والصحافة، والمسرح، والتشكيل، والتصوير الفوتوغرافي.
مع انني كتبت في مقالي عن ( نشأة التصوير الفوتوغرافي في الموصل ) انه ليس ثمة من يستطيع ان يحدد تاريخا واضحا لنشأة التصوير الفوتوغرافي في العراق ؛ الا ان مما لا يمكننا تجاهله ان مؤرخي هذا اللون من الوان الفن والثقافة ، يؤكدون بان البواكير الاولى لدخول التصوير الفوتوغرافي في العراق ترجع الى اواخر القرن التاسع عشر ، وفي الموصل تحديدا .وقد ورد في الدليل الرسمي العراقي لسنة 1936 الذي وضعه الياهو دنكور ومحمود فهمي درويش وطبع ببغداد سنة 1937 ، ما يفيد ان " صناعة التصوير اقتصرت في العهد العثماني على جماعة في بغداد ، وفي زمن الاحتلال البريطاني 1914 ـ1918 ، امتدت صناعته الى المدن العراقية المهمة كالبصرة والعمارة وكربلاء وكركوك والموصل، وقد ظهر فيه غواة ، ولكنهم غير بارزين حتى اتيح لبعض المصورين العراقيين العودة الى وطنهم بعد جولة طويلة في تركيا وروسيا واوربا .. يتمرنون على هذا الفن فتقدمت صناعة التصوير على ايديهم تقدما امتد أثرها الى تلامذة المدارس فشاع بينهم هذا الفن،وقد اورد الدليل بعض الحقائق عمن كان وراء استيراد (الافلام الخام) المستعملة في التصوير الفوتوغرافي، او التصوير السينمائي فقال ان (التاجر العراقي المعروف حافظ القاضي) منذ العشرينات من القرن الماضي استطاع ان يخطو خطوة مهمة بهذا الاتجاه لذلك نال عطف صاحب الجلالة الملك غازي ملك العراق (1933 ـ1939)،وممن برع بالتصوير الفوتوغرافي، وكان يسمى آنذاك (التصوير الشمسي في بغداد) وبلغ فيه الدرجة الممتازة المصور عبوش ... فهو يحمل من الاوسمة والشهادات الناطقة من الامم المختلفة شيئا كثيرا.. وقد امتهن فن التصوير في روسيا والاستانة (إستانبول) مدة ثمان سنوات وزار اهم معاهد التصوير في اوربا والولايات المتحدة الامريكية. وقد اكتسبت تصاويره في المعرض الدولي في روما سنة 1935 الدرجة الممتازة، ونال عليها شهادة الديبلوما والاستحقاق، وقد دفع هذا الملك غازي لان يجعله يحمل لقب كمصور الشخصي له.إن مما اكدته منذ سنوات ان البدايات الاولى لنشأة فن التصوير الفوتوغرافي تجعلنا نقف على روايتين اولاهما تقول ان (نعوم الصائغ الموصلي)، هو اول من ادخل فن التصوير الفوتوغرافي الى العراق.وثانيهما تقول ان يوسف الياس سنبل الموصلي وهو جد والدة الفنان الفوتوغرافي الراحل الاستاذ حازم باك هو الذي ادخل التصوير الفوتوغرافي الى العراق. المهم ان كلا القولين يؤكد ان الموصل هي منشأ هذا الفن، وقد شهدت بداياته الاولى.. ومع انني اشرفت على رسالة السيد حيدر جاسم عبد عبيس الرويعي التي قدمها بعنوان : ((الدومنيكان في الموصل : دراسة في نشاطاتهم الطبية والثقافية والاجتماعية 1750 ـ1974 وحصل بموجبها على شهادة الماجستير من كلية التربية بجامعة الموصل بتقدير امتياز سنة 2001 ، الا انني والطالب لم نعثر على الكثير من المعلومات حول زمن وكيفية واسلوب دخول التصوير الفوتوغرافي الى الموصل ، مع انني كنت اسمع ان دخول هذا اللون من الفن يد الاباء الدومنيكان ، الذين جاؤوا الى الموصل سنة 1750م بقصد التبشير ، وتقديم خدمات تعليمية وطبية ، وبعد البحث وجدنا ان هناك معلومات تقول ان من الاباء الدومنيكان من قام بتدريب بعض الشبان على التصوير الفوتوغرافي وقد اطلعت في كنيسة اللاتين بمنطقة الساعة في الموصل على ( البومات ) عديدة تضم صورا التقطت لجوانب من حياة الموصل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية . ومنها على سبيل المثال صورة لحفلة زواج عائلة توفيق داؤد قندلا كان نعوم داؤد الصائغ قد التقطها بكاميرته. وقد اعتبرت نعوم الصائغ في مقال نشرته في جريدة الحدباء (الموصلية) يوم 30 نيسان 2002 من أبرز رواد التصوير الفوتوغرافي ليس في الموصل فحسب بل وفي العراق كله.
بدأ نعوم الصائغ عمله (مصورا) اواخر القرن التاسع عشر، ومن صوره المهمة صورة التقطها لنفسه. ونعوم هو والد الاديب والكاتب والشاعر الراحل يوسف الصائغ.. وقد أخبرني الاستاذ بهنام حبابة، الكاتب والباحث الموصلي المعروف ان نعوم تزوج مرتين وزوجته الثانية هي اخت يوسف نمرود رسام وقد عمل نعوم الصائغ فترة من الزمن مصححا لمجلة (النجم) الموصلية التي كان يصدرها (المطران ـ المؤرخ سليمان صائغ) صاحب كتاب (تاريخ الموصل) ويقع في ثلاثة اجزاء، في بداية الثلاثينات من القرن الماضي. وقد تدرب نعوم على التصوير عند الدومنيكان، وهو من بيت دلال، وكان شماسا في الكنيسة وانه كان مثقفا، وله ابن من زوجته الاولى اسمه (سام) وابنة اسمها(جانيت) وقد سجل بعدسته الكثير من الصور المهمة عن الموصل وتوفي سنة 1948. وحرين بنا وبالباحثين والمصورين الفوتوغرافيين العمل على جمع صوره ونشرها والاحتفاء بصاحبها واستذكار جميله وفضله وريادته،وفيما يتعلق بريادة يوسف الياس سنبل، فان الفنان الفوتوغرافي حازم باك كان قد استجاب لطلب من الحاج إمري سليم، وهو من المصورين الفوتوغرافيين العراقيين الرواد المعروفين فكتب بضعة صفحات عن نشأة التصوير الفوتوغرافي في العراق، اعاد الاستاذ فؤاد شاكر نشر ملخصها في جريدة الصباح البغدادية (العدد 1929 في 28 كانون الثاني 2007) ويبدو ان الحاج امري كلفه بذلك اوائل الخمسينات من القرن الماضي وبعد مجيء حازم باك الى بغداد من مدينة الموصل مباشرة. ومما قاله حازم باك " ان جده لوالدته المرحوم يوسف الياس سنبل كان في ظني اول من احترف التصوير في العراق.. وعلى التأكيد في الموصل قبل بداية القرن الماضي بفترة " أي قبل بداية القرن العشرين وبالتحديد اواخر القرن التاسع عشر. وقد احترف سنبل التصوير وخلد في صوره الاحداث المهمة والاجتماعات العامة والافراد البارزين ومعالم العمران، بالإضافة الى تشجيعه المطرد للرواد الآخرين بتيسير المواد والادوات والمكائن اللازمة لهم عن طريق تعاطيه التجارة واستيراد المعدات من مصادرها البعيدة.
كان يوسف ابن الخوري الياس بن ججو سنبل ، وعقيلته السيدة فريدة ابنة الشماس جرجس بن حجو خياط قد ولد في عائلة عريقة متمرسة بالتجارة والعلم والدين في الموصل بدار أسلافه ( آل سنبل ) في سوق الشعارين شارع النبي جرجيس وفي محلة القليعات في الربع الثالث من القرن التاسع عشر وتلقى تعليما بيتيا ومحليا ، وبعد ان شب على الطوق بدأ يقرأ عن علوم الكيمياء والطب والصيدلة وقد مارس التجارة على غرار ما فعل والده وقد عقد النية على اكمال دراسته والذهاب الى استانبول ، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك بهدف الحصول على شهادة عالية في الصيدلة ، لكن والده لم يوافق على ذلك لأنه كان الولد الوحيد له فاضطر الى العدول عن السفر وانصرف للعمل التجاري والزراعي ، لكن ذلك لم يمنعه من التركيز على اهتماماته الاساسية في الكيمياء والصيدلة والطب . ويقول حازم باك انه اخذ يغتني من مكتبة الاسرة العامرة بالكتب والمصادر والتي كانت تضم مصادر مهمة عن التصوير الفوتوغرافي باللغة الفرنسية. ويضيف حازم باك انه يحتفظ بأدلة تشير الى ان يوسف سنبل قد احتفظ من (دار لوميرفي باريس) بسوالب(نيكتيف) زجاجية ذات طبقة جيلاتينية من الفضة بعد عام 1889 ان لم يكن قبل ذلك وورقا فوتوغرافيا من (دار ماريون) التي اندثرت فيما بعد وفي الحقبة نفسها. ولم يطل الامر حتى ذاعت شهرة سنبل حتى أصبح يسمى (يوسف سنبل فوطوغرافجي الشمسي بالموصل) أي المصور الفوتوغرافي الشمسي، وقد أصبح مصور الطبقة الاجتماعية الاولى فضلا عن كونه مصور الدوائر الحكومية المحيطة بالوالي وحاشية ولاية الموصل آنذاك.. وهناك بعض الصور التي لابد انها كانت تلتقط بقصد توثيق الحدث كزيارة ضيف او عقاب مجرم او تخليد اثر ما. وقد كان يوسف سنبل يجيد الطباعة بالألوان المتباينة غير الاسود والابيض كالأزرق والبني والرمادي، ويستخدم في عمله مركبات الذهب وغيره من المواد. كما استعمل سنبل المناظر الخلفية المختلفة من لوحات ورسوم وآيات وحكم وامثال وملصقات جدارية ومفروشات وستائر خاصة مستوردة لأغراض التصوير الشخصي والجماعي فضلا عن دمجه بؤطر مزوقة مع الصور المطبوعة او من الورق المنقوش المحفور والمخرم وكل هذه الانواع تجعل منه رائدا من الرواد الاوائل الذين ادخلوا التصوير الفوتوغرافي الى العراق.. ولم تقتصر استفادة سنبل من ضوء الشمس في التصوير او الطباعة، يقول حازم باك، بل انه استفاد ايضا من ضوء شعلة المغنسيوم في انتاج اعماله فهو اول من استخدم تلك المواد والادوات البدائية حتى قبل تطوير التصوير ومن الطريف الاشارة الى ان الياس سنبل اخذ يعمل في مجال تسويق الافلام مع اوراق الطباعة التصويرية منذ سنة 1922 ونجد اليوم من بين ارشيفه صورة تذكارية للملك فيصل الاول (1921 ـ1933) مطبوعة بثماني نسخ مكبرة، وقد تسلم عنها مكافأة نقدية مقدارها مئة روبية (الروبية انذاك 75 فلسا).. كما ان من بين ارشيفه صورا لكثيرين من ابناء الموصل. وقد بلغت واردات سنبل من ريع بيع الصور في سنة 1922 على سبيل المثال (4/ عانة و2801روبية) وازداد ريعه في سنة 1924 ليصل الى (2 عانة، و3574روبية).وعندما اتسعت حلقة المصورين الفوتوغرافيين في الموصل، تخلى الياس سنبل عن المهنة سنة 1928. ويذكر حازم باك ان صور سنبل الوثائقية وصلت الى الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا وايطاليا وتركيا وسوريا ولبنان والهند وبعض بلاد ا لمشرق العربي الاخرى. ان الارشيف التاريخي العراقي يكشف في ضوء ريادة نعوم الصائغ والياس سنبل لفن التصوير الفوتوغرافي في العراق، ان هذا الفن سرعان ما وجد طريقه للتطور فظهر مصورون فوتوغرافيون مشهورون في العشرينات من القرن الماضي وما بعدها.
كتاب الاخ الاستاذ موفق الطائي هذا – وكعادته التي انتهجها في كتابيه ماري الذكر عن المسرح وعن التشكيل يقدم فذلكة تاريخية اولا ثم يقف عند رواد هذا الفن ثانيا فلقد كتب في الفصل الاول عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي في محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل ثم تابع في الفصل الثاني سير (70) مصورا فوتوغرافيا منهم نعوم الصائغ والياس سنبل وكاكا محمد امين ويحيى المختار واكوب ومراد الداغستاني ومحمد بهاء الدين ووجيه حامد وابراهيم الدرويش وحازم باك وكوفاديس وعلي الدرويش وزهير توفيق ونور الدين حسين وصلاح شكر وحمدية الراشدي وامري سليم وبهجت درسون ومحمد زكي اسماعيل وانور الدرويش وعبد الستار الدرويش والدكتور مصيب محمد جاسم وعبد الله جار الله وافرام عطا الله وتوران ادهم وطارق الشبلي وتوما يعقوب وطه احمد حسين وغيرهم وكل اولئك يذكرهم التاريخ بكل احترام تقديرا واعتزازا بما قدموه لبلدهم من خدمة كبيرة تمثلت في انهم كانوا بمثابة المرآة التي عكست الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العراقية المعاصرة بكل دقة ووضوح.
تهنئة صادقة لأخي وصديقي الاستاذ موفق الطائي وهو يصدر هذا الكتاب القيم والثمين والمفيد والذي سيأخذ مكانه الذي يستحقه في المكتبة العربية، وتمنياتي له بالتقدم والنجاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق