البانق العثماني في الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
عندما تحدثت في حلقة سابقة عن المصارف
والبنوك في الموصل قلت ان البانق العثماني كان واحدا من ابرز البنوك في الموصل في
القرن التاسع عشر وان اوضاع الموصل الاقتصادية وكانت مركزا لولاية تضم فضلا عن
لواء الموصل لواءي كركوك والسليمانية تطلبت ان تكون هناك بنوك ومصارف خاصة وان
حركة الاستيراد والتصدير اتسعت وصار للموصل تجارة
مزدهرة مع اوربا وخاصة مع بريطانيا التي امتلكت الكثير من رؤوس اموال
البنوك والمصارف التي تأسست في الموصل ومنها البنك الامبراطوري الهمايوني .
في ما يتعلق بالبانق العثماني او البنك
العثماني فكثيرا ما كنت وانا طفل في المدرسة الابتدائية اشاهد لوحته المرمرية من
المرمر الموصلي الازرق تنتصب على بنايته في باب الطوب الى جوار قريب من علوة سوق الحنطة الجديد حيث
كان هناك خانا لجدي احمد الحامد العلاف بجوار البانق العثماني ولازلت اتذكر دكان
دحام القاسم العلاف ابو عدنان وماكينة الحاج عبد ابا وجيه للطحين .
وعندما كبرت رحت اعرف ما هو البانق العثماني
ومتى تأسس وماهي وظائفه وكنت ارى اعلاناته في دليل العراق الرسمي لسنة 1936 الذي
حرره الياهو دنكور ومحمود فهمي درويش . البانق العثماني هو البنك الامبراطوري
العثماني الهمايوني وقد تأسس في لندن برؤوس اموال بريطانية بلغت قرابة مليوني باون استرليني في 24 مايس ايار سنة 1856 وافتتح له فرعا في مدينة الموصل سنة 1894 ويذكر الاستاذ معن عبد
القادر ال زكريا في كتابه الموسوم ( الوجيز الموسوعي في تاريخ اهل الموصل ) والذي
صدر سنة 2011 ان البانق العثماني هو اول مصرف فتح في الدولة العثمانية وان
الهدف الرئيسي من انشائه هو تشجيع التجارة
البريطانية مع الشرق الادنى وقد اعتبر البانق العثماني بعد تأسيسه وفتح فرع له في
العاصمة العثمانية استنبول اول مصرف مركزي للدولة العثماني حيث اعطي له الحق بإصدار
العملات النقدية الورقية والمعدنية بعدصدور فرمان اي مرسوم سلطاني عثماني بذلك
وصار يعرف بالبانق العثماني الهمايوني (بانق عثماني شاهانه) . وعندما اعتبر مصرفا
مركزيا كان رأس ماله قرابة عشرة ملايين باون استرليني وكانت العاصمة البريطانية
لندن تعد المركز الرئيسي له وكانت له فروع في اكثر من ثمانين بلدا في العالم منها
استنبول وباريس وازمير ويافا والقدس وحلب وبيروت وبغداد والموصل والبصرة ودمشق .ويذكر
القنصل الروسي آداموف ان البنك العثماني هذا كان يمتلك فروعا اكثر من فروع المصارف
الاوربية .
ترأس البنك في الموصل عدد كبير من المصرفيين
منهم يوسف عزوز وقسطنطين بيو .
تمتع البانق العثماني في الموصل كما في بقية
فروعه ومركزه الرئيسي بمصداقية كبيرة عند التجار . وكان يفتح الاعتمادات التي
يحتاجونها للاستيراد والتصدير واصبح يحافظ على الاستقرار المالي من خلال ضخ كميات
كبيرة من المسكوكات النقدية في السوق بقصد تحريك النشاط التجاري وعلى مدى السنوات
التالية وحتى الاحتلال البريطاني استمر البنك في تعاملاته التي ازدادت بعد
الاحتلال البريطاني للموصل سنة 1918 حيث اسهم في تمويل الكثير من النشاطات
الاقتصادية والفعاليات التجارية بين الموصل وبعض المدن التجارية في العالم وخاصة
المدن البريطانية .
يقول الدكتور صلاح عريبي العبيدي في اطروحته
للدكتوراه عن ( الدور الاقتصادي للبرجوازيين الوطنيين في المشرق العربي ) والتي أشرفت عليها في جامعة الموصل وتحولت الى كتاب صدر مؤخرا
:" ان البانق العثماني ابتدأ نشاطه برأسمال بريطاني وكان مركزه في
لندن ثم اضيف اليه رأسمال فرنسي وكانت
قروضه للمواطنين تقتصر على القروض اللازمة لتمويل زراعة المحاصيل او لتمويل
التصدير لكنها كانت ترفض تمويل المشاريع الصناعية " . والسبب في ذلك حتى تبقى
المدن العثمانية ومنها الموصل سوقا للمصنوعات البريطانية .
في رسالته للماجستير الموسومة ( النظام
المالي العثماني في العراق 1839 – 1914) التي قدمها الى جامعة الموصل سنة 1989
المرحوم الاستاذ غانم محمد علي الحسيني وكان لي شرف رئاسة لجنة مناقشتها قال عن
البنانق العثماني ان هذا البنك افتتح رسميا في الال من حزيران سنة 1863 وكان
امتدادا للبنك العثماني الاسبق الذي تأسس سنة 1856 برؤوس اموال انكليزية صرف وان
نشاطه اقتصر على القيام بجميع عمليات البنك التجاري دون ان يكون له حق اصدار
العملة النقدية في البداية لذلك لايمكن اعتباره بمثابة بنك مركزي عثماني خلال هذه
الفترة ولكن الحاجة الماسة للحكومة العثمانية الى وسيط يتمتع بثقة المقرضين
الاوربيين ورغبتها في التخلص من جشع صرافي منطقة غلطه سراي وهو مركز تجار العملة
في استانبول دفعت بها الى اصدار نظام البنك العثماني وامتيازاته في 9 ذي الحجة سنة
1279 هجرية 1863 ميلادية وبموجب ذلك تم تحويل البنك العثماني الى بنك مركزي للدولة
بعد دخول رؤوس الاموال الفرنسية واليهودية اليه لتصبح مساوية للحصة الانكليزية في
رأس المال وكان من نتيجة هذا المسعى ان افتتح البنك اعماله برأسمال مفداره عشرة
ملايين جنيه استرليني تحت اسم ( البنك الامبراطوري العثماني ) وما لبث ان تنامى
بعد اندماج مؤسسات مالية نمساوية وفرنسية اخرى فيه فبلغ رأسماله (250) مليون فرنك
سنة 1875 .
منح البنك امتيازات واسعة داخل الدولة
العثمانية فصار له الحق في اصدار الاوراق النقدية العثمانية واوكلت اليه مسؤولية
اصدار النقود المعدنية كما اصبح بمثابة الخزينة الحكومية للدولة العثمانية لقاء
عمولة محددة مقدارها نصف في المائة عن المبالغ الحكومية الداخلة والخارجة منه .
وهكذا رفع مقدار الحساب الجاري للدولة العثمانية من 2مليون ونصف مليون فرنك الى 67
مليون فرنك ونصف مليون فرنك واصبح وسيطها الرسمي الوحيد في معظم القروض الاجنبية
واعفي البنك وجميع فروعه ومنها فرع الموصل من اي شكل من اشكال الضرائب فضلا عن حقه
في اختيار قطعة ارض مجانا لاقامة منشآته عليها واتسع نشاطه ليصبح المفاوض الوحيد
لسندات الدين على الحكومة كما ان اي من
مشاريعها لايمكن ان يتم الا بمشاركته لذلك ادى البنك العثماني دورا اساسيا في
انشاء ادارة الدين والريجي وغيرها من المؤسسات والمشاريع وتأتي في مقدمتها مشاريع
سكك الحديد .
كان فرع البانق العثماني في الموصل يجري جميع
انواع المعاملات المصرية بما في ذلك خصم الاوراق وشراء وبيع الحوالات والتحويلات
البرقية وخطابات الاعتماد الدورية والاوراق المالية الى جميع بلدان العالم وقبض
اوراق التحاويل والاسهم وتنظيم الاعتمادات المالية وفتح الحسابات الجارية واخذ
الامانات بفائدة سنوية وفتح حسابات التوفير وغير ذلك .
كان للبانق العثماني في الموصل دور في الحد
من جشع الصيارفة الذين كانوا يقرضون المال بفوائد عالية لاتقل عن 24% سنويا .
استمر فرع البنك العثماني في الموصل يعمل حتى
قيام الحرب العظمى 1914 حيث اغلق ابوابه مؤقتا وبعد الاحتلال البريطاني 1918
للموصل عاد لمزاولة اعماله بموجب قرارات جديدة اصدرها الحاكم السياسي في الموصل
ليجمن وذكرت جريدة (الموصل ) في عددها الصادر في 9 نيسان سنة 1919 ان على البنك
العثماني معاودة نشاطه بعد الاحتلال بشرط ايقاف النظر في جميع الاعمال التي جرت
قبل الاحتلال لحين استكمال شروط الهدنة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق