الحاج توفيق الفخري وقصره في الموصل
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس -جامعة الموصل
ومن .. من الموصليين من لايعرف قصر الحاج توفيق افندي الواقع على ربوة قرب بناية المستشفى العام يراه الذاهب يسارا بإتجاه حي النجار .وقصر الحاج توفيق افندي لايزال قائما بالرغم مما تعرض له خلال سيطرة عناصر داعش على الموصل 2014-2017 وحرب تحرير الموصل وكلنا كنا نتابع ما تعرضت له مكتبة صديقنا الاستاذ جنيد الفخري الذي كان يتخذه سكنا له .
وقصر الحاج توفيق افندي كما كتبت مرة وتحدثت عن قصور الموصل قلت انه من قصور الموصل المشهورة الموصل التي زخرت بالقصور ومنها قصر المنقوشة وقصر المطران وقصر الدكتور كريكور استارجيان وقصر يحيى باشا الجليلي وقصر ناظم العمري وقصر الصيرمون وقصر الصابونجي وقصر الضيافة .
وهنا اود ان انوه بالبحث القيم الذي قام به الاخ الاستاذ الدكتور ذنون الطائي بعنوان ( من تاريخ وآثار قصور مدينة الموصل :قصر توفيق الفخري إنموذجا ) .
ومما قلته مرة وانا اتحدث لكم في حلقة سابقة عن ( قصور الموصل ) بأن الموصليين اهتموا بمدينتهم فشيدوا الأبنية الفخمة ، وزينوها بزخارف جميلة ، وغرسوا في دورهم وقصورهم الرياحين والأزهار والأشجار المثمرة . ووصف شاعر الموصل السري الرفاء المتوفى سنة 971 ميلادية مدينته بقصائد جميلة صورت لنا ما كانت عليه الموصل من جمال التنسيق..ودقة الفن .هذه هي الموصل كما أدركتها أنا على الأقل ومجايليي من أبناء ما بعد الحرب العالمية الثانية . واستطيع أن أقول أنها كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أجمل وأرقى مما هي عليه الآن بالرغم من مرور أكثر من 50 سنة على تلك الفترة .
أريد اليوم ان اقدم لكم شيئا عن الحاج توفيق افندي الفخري وقصره . وكما قلت فإن الموصليين وخاصة كبار السن منهم يعرفون القصر الذي بني في الطرف الشمالي في الموصل والقريب اليوم من المستشفى العام في ايمن الموصل ويدعى (قصر الحاج توفيق افندي ) والقصر ابتدأ البناء به سنة 1913 مساحته 1157 متر مربع شيد على الارض المرقمة 48 مقاطعة 39 في منطقة حاوي الكنيسة الجنوبية في الربض الاعلى لمدينة الموصل وعلى شكل قلعة اشورية وبابه ذو سفاقتين مصنوع من الخشب وتعتليه رخامة ومن الباب ندخل الى رواق ثم الى الحوش المستطيل وفي وسطه بستان . وكان يسكنه قبل 2017 حفيد بانيه الصديق الاستاذ جنيد الفخري والقصر على طراز القلاع في شكله الخارجي وعلى الطراز المعماري العثماني في هندسته من الداخل حيث الفناء الكبير والاواوين و( اليازلغات ) والغرف الكبيرة (الاودات جمع اوده ) ويبدو ان القصر بني ليس للسكن فيه حيث بيت الحاج توفيق الفخري كان في حضيرة السادة بل للاصطياف وخاصة في الربيع والصيف وباني القصر هو توفيق بن يونس افندي الفخري وقد تعرض القصر للترميم فيما بعد وخاصة في سنة 1928 واشرف المهندس حقي المفتي على بناء قسم جديد يتألف من سرداب تعلوه غرفتان بينهما ايوان يسمى اليازلغ . وثمة معلومات دقيقة عن القصر تشير الى ان القسم الشرقي كان مطلا على نهر دجلة مخصص للضيوف يسمى سلامللك مبني من الجص والحجر وهناك حرملك والغرف مزينة بمشكاوات غائرة في الجدران واشترك عدد من المعماريين والنقارين الموصليين في بناءه منهم المعماريين داؤد ونعوم وبني ويعقوب .والقصر بعد وفاة الحاج توفيق الفخري اهمل بعد ذلك اهمالا شديدا وتم تأجيره لشركة نمساوية سنة 1918 ولمديرية شرطة الموصل سنة 1936 ولدائرة الصحة 1939 وللقوة السيارة سنة 1950 وفي 1954 عاد نعمان توفيق الفخري للسكن فيه ثم ترك واهمل ثم جعله جنيد الفخري منتدى ثقافيا سنة 1967 وسكنه . ويبدو اليوم للناظر وكأنه أطلال عفا عليها الزمن ، وقد آل القصر بعد وفاة الحاج توفيق الفخري سنة 1917 الى ورثته وخاصة ولده نعمان وشقيقاته (زينت) و( زهرية ) و( مرضية) و( نعيمة) و( رشدية) والى زوجته ( خديجة بنت مصطفى الدملوجي ) .
والان اريد ان اقف قليلا عن باني القصر وهو الحاج توفيق افندي الفخري واقول مع استاذي الدكتور عمر الطالب في موسوعته (موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين ) وهو يترجم لتوفيق افندي الفخري انه أي توفيق افندي بن يونس بن سليم بك الفخري من مواليد سنة 1862 ميلادية وهو من ال الفخري الكرام الاسرة الدينية التي انجبت الكثيرين ممن اسهوا في بناء العراق الحديث في مجالات الحياة كافة وخاصة في حقلي التعليم والقضاء .
كان والده من خبراء قوانين الاراضي والاملاك وقد شغل وظيفة ( مدير اراضي كربلاء ) . كما اختير ليكون رئيسا لبلدية الموصل سنة 1872 . تعلم في الكتاتيب القراءة والكتابة والنحو والصرف والعلوم الدينية واتقن اللغة العربية والتركية والكردية وجزءَ من الفارسية وتعلم آداب المجالس حيث كان يجتمع افاضل اهل وقته في مجلس والده، ومجلس حسن افندي النقيب والحاج امين بك الجليلي وغيرها من المجالس.
امتلكت اسرة ال الفخري اراض وقرى وكان توفيق افندي الفخري هو من كان يساعد والده في ادارتها وبعد وفاة والده تفرغ كلياً لادارتها في سنة 1904 قصد الحاج توفيق افندي الفخري بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج فسلك طريق الموصل الشام بيروت براً وركب الباخرة (الوابور) الى جدة وادى مناسك الحج وعاد بنفس طريق الذهاب والرسائل والبرقيات المتبادلة مع شقيقه تشرح اوضاع السفر في تلك الايام وظروفها ومدة السفرة 1910-1913
في 1912 م انتمى الى حزب (الحرية والائتلاف) في حين انتمى عدد من شخصيات الموصل في ذلك الوقت الى جمعية الاتحاد والترقي منخدعين بالشعارات التي رفعتها الجمعية المذكورة .وكانت له مكتبة عامرة بكتب التفسير والفقه والمخطوطات النادرة في شتى المجالات وقد اودعت اسرته المخطوطات في مكتبة اوقاف الموصل سنة 1972 .
سجلاته الحسابية تشير الى انه اجرى رواتب شهرية الى بعض قراء القرآن الكريم في الجوامع ولمن يعمل في سبيلخانات الماء في دور العبادة اضافة الى ان سجلاته مليئة بالقيود التي تشير الى تسليفه الغلال الزراعية في سنوات الجدب الى المحتاجين وخاصة من الاهل والاقارب والمعارف.
والحاج توفيق البكري يعتبر اول من ادخل المكائن الحديثة في الزراعة الى الموصل . فقد استورد هو ثلاثة مكائن حصاد تسحبها الحيوانات من بلدة ادنة بتركيا 1907 ـ واستعان (بابن تبوني) في تنصيبها واصلاحها واشترى هو وشريكه في الاراضي ظاهر الباب العمادي ، سعدالله اغا التوحلة ماكنة لطحن الحبوب نصبت في الارض المشتركة بينها سنة 1916 . وجرى الاستيراد بدلالة التاجر المعروف شريف جلبي الدباغ والذي كان يعمل في التجارة في بغداد منذ سنة 1909
كما كان المرحوم الحاج توفيق يدخل في فض المنازعات التي تحدث بين الاشخاص وقد وجدت الكثير من الرسائل يطلب اصحابها تدخله فقد وجدت رسالة من فرحان باشا من كبار شيوخ شمر يطلب فيها مشورته في موضوع النزاع الذي حصل بينه وبين اخيه حميدي بن الفرحان باشا وهناك رسائل اخرى تشير الى انه دخل في شراكات مع العديد من التجار وخاصة في مجال تجارة الاخشاب والعفص والحنطة والشعير والصوف كما كانت له تعاملاته الواسعة مع (البنك الزراعي العثماني) وبعض الصيارفة مثل عبدالله اليحيى وداؤد شلومو وعزرا طويك وخاصة في تحويل الليرات من كربلاء الى الموصل . وقد حصل الحاج توفيق افندي من الحكومة العثمانية على التزام جمع اعشار قرى عديدة ففي 1909 التزم كافة محلات قصبة تلعفر وبعض قراها ..
وفي السجلات المحفوظة لدى ولده صديقنا الاستاذ محمد نستطيع معرفة اسماء ارباب العوائل في كل محلة من محلات تلعفر والقرى التابعة لها كما نستطيع تقييم الموسم الزراعي لتلك السنة.
على الرغم من مشاغل الحاج توفيق فقد اهتم بتعليم بناته الثلاث الكبريات لكي يضمن قيامهن بأدارة املاكه في حالة وفاته في حالة عدم ولادة من يرثه من الذكور حيث تأخر ولادة ذكر لحين ولادة ابنه الوحيد نعمان سنة 1906 م فقام بتعليمهن القراءة والكتابة والحساب في حين اُوكل تدريسهن القرآن الكريم الى نساء من بيت الشيخ علي وطيلة حياتهن كن على ثقافة تختلف عن مثيلاتهن في العمر فكن يحفظن اجزاء من القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة بل ان الكبيرة منهن كانت تقرأ الصحف اليومية الى آخر ايام حياتها وبعد ولادة ابنه الموما اليه اهتم بتدريسه شخصياً ثم ادخله (الكتاتيب) في مسجد المكاوي ثم نقل الى المدرسة النظامية التي كانت تعرف بـ (رهبر ترقي) ثم في مدرسة (شمس المعارف).
كان المرحوم الحاج توفيق افندي متمسكاً باداء الواجبات الدينية وذهب الى بامرني لأخذ الطريقة النقشبندية الخالدية على شيوخها . كان الحاج توفيق افندي عضوا في لجنة الاوقاف ( اوقاف قومسيوني) في مدينة الموصل وقد اوكلت له مسؤولية تنفيذ التعميرات في مرقدي الامام يحيى بن القاسم والجامع المجاهدي او جامع الخضر عليه السلام .
عندما دخل الانكليز الموصل في العاشر من شرين الثاني 1918 كان الحاج توفيق افندي الفخري يريد ان يغادر الموصل حيث كان لايطيق رؤية المحتلين.وقد جمع اهله وقام بدفن بعض الاموال باماكن متفرقة من بيته (قصر الحاج توفيق) الا ان المنية قد عاجلته قبل الرحيل الذي اعد له الركائب والمستلزمات .توفي في شتاء سنة 1918 وبوفاته افتقدت اسر السادة الاشراف رجلاً مهماً من رجالاتها فقد كانت له مواقف مشهودة مع الجميع واياد بيضاء مع المحتاجين منهم كما كان لرأيه وزن في المواضيع المهمة وخاصة في اختيار نقيب الاشراف. ففي سنة هجرية 1320-1903 ميلادية ـ كان له موقف وجمع الاراء لاختيار وترجيح كفة (السيد عبد الغني بن السيد حسن افندي النقيب) في النقابة وفعلاً فاز المذكور بالنقابة وبقي بالمنصب لحين وفاته رحمة الله عليه سنة 1942 .
*2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق