عبد الرحمن القصاب الاول من اليسار
على مسؤولية كاتب المقال وللتاريخ للتاريخ فقط .............................................................................................
عبد الرحمن القصاب .. المناضل المنسي
بقلم : محمد السعدي*
كنتُ حديث العهد بالسياسة , وفي بداية خطوات
الطريق الأولى على تخوت مقاهي قرية الهويدر الخشبية العتيقة , وفي طور القراءات
الاولى عن تاريخ حزب الشيوعيين العراقيين والسجالات حولها في الموقف من أحداث مهمة
وقريبة . كانت ثورة 14 تموز 1958 أي الاقرب الى صورة الحدث وما عصف بها من تطورات
وتفاصيل وأحداث أدت في نهايتها الأخيرة الى ألاطاحة بالثورة ورموزها .
حركة عبد الوهاب الشواف 8 أذار 1959 … هي الأبرز
والأكثر سجالاً الى يومنا هذا , أرتباطاً بوضع العراق الذي مازال غير مستتب ويشهد
هزات سياسية متتالية .
العقيد الركن عبد الوهاب الشواف قائد حامية
الموصل وأمر جحفل اللواء الخامس . كان محسوب على قوى اليسار وأكثر قرباً للقوى
الديمقراطية وضمن تنظيمات الضباط الاحرار في تشكيلاتها الاولى , التي أطاحت
بالملكية والملك والوصي . روى لي شخصياً الدكتور خليل عبد العزيز الله يطول بعمره
لقد بلغ من العمر 85 عاماً , ومازال عطائه لا ينضب في خدمة العراق . وكان من
المساهمين اللامعين في أحداث الموصل . ذهب قبيل الاحداث على رأس وفد الى بغداد
وشكا من صعوبة الاوضاع في الموصل الى ( كامل الجادرجي ) وباتت ( قاب قوسين أو أدنى
) وعندما ذكر أسم عبد الوهاب الشواف . قال لهم الجادرجي أرجعوا الى الموصل
وتفاوضوا معه هذا محسوب علينا .و نقل أكثر من مصدر تاريخي حول محاولات عبد الوهاب
الشواف في تهدئة الزعيم عبد الكريم قاسم في إثناءه عن أقامة مهرجان ( أنصار السلام
) قبل ليلة من تفجر الاحداث حيث ألتقى الزعيم في بغداد حسب مذكرات جاسم كاظم العزاوي سكرتير الزعيم الذي تعاون مع
أنقلابي 8 شباط 1963 محاولة أثنائه عن عقد مؤتمر أنصار السلام نزولاً لمراعاة بما
تتمتع به مدينة الموصل من خصوصية عشائرية وقومية .
كان عبد الوهاب الشواف يعتبر تعيينه غبناً على
حامية الموصل بمثابة أبعاده عن المشهد السياسي العراقي المحتدم ونكران لدوره في
ثورة تموز , الذي كان يفترض وضمن ترتيبات التعينات والتوزيعات أن يكون العقيد
الشواف وزيراً للدفاع أو الحاكم العسكري . الصراع كان دموياً بين القوى الوطنية (
اليسارية ) والقوى القومية والاسلامية التي كانت تنادي بوحدة أو أتحاد بين
الجمهورية العربية المتحدة ( مصر وسوريا ) والجمهورية العراقية , بينما كانت القوى
الوطنية وفي مقدمتهم الشيوعيين ترفع شعار أتحاد فيدرالي وصداقة سوفيتية مع
الجمهورية العراقية . ولقد وقع الزعيم عبد الكريم قاسم بين نقيضين متصارعين راح
ضحية هذا الصراع الدموي , للأسف ظل موقفه متذبذباً بين نقيضي هذا الصراع مما أطيح
به بعد قرب خمسة سنوات من الصراعات والاحترابات .
في الجبل أستعدت الاحداث بما تخزنه ثنايا
الذاكرة حول شخصية عبد الرحمن القصاب وموقفه من أحداث الموصل وماروج له البعثيين
والقوميين حول شخصه بالذات بنصب محاكم وأعدام الناس وتسميته ب ( جزار الموصل ) أو
رئيس ( المحكمة القصابية ) مع رفاقه خليل عبد العزيز وأخرين , الذين كانوا يراقبون
الاحداث من مركز الشرطة العامة . وعدنان جليمران بالثانوية الشرقية .
تعتبر مدينة الموصل أحدى أكبر القلاع الحضارية
في تاريخ العراق , ودورها المهم في أحداث العراق على مر التاريخ الانساني . تبين
قبل تمرد العقيد الشواف الدعم الخارجي كان واضحاً والتحركات المشبوهة واللقاءات
عبر الحدود بين رجالات العواصم العربية ( القاهرة ودمشق ) , كانت جمهورية مصر (
جمال عبد الناصر ) لها اليد الطولى في الوقوف ضد الجمهورية الفتية التي أطاحت
بربقة الاستعمار البريطاني وتحالفاته . وكانت أذاعة صوت العرب من مصر وصوت أحمد
سعيد في تأليب الناس على الثورة ورجالها وتشويه الحقائق نقطة سوداء في الصراع
العربي العربي .
في ذروة تصاعد الاحداث دعا عبد الوهاب الشواف
الراحل عبد الرحمن القصاب وعدنان جليمران وخليل عبد العزيز وحسن الأفغاني الى
اللقاء من أجل المفاوضات , لكن تم حجزهم بعد أن صدر قرار بأعدامهم وكانوا ( قاب
قوسين أو أدنى ) لكن تصاعد الاحداث ونزول المقاومة الشعبية ( الشيوعيين ) الى
شوارع مدينة الموصل أنقذت رقابهم من حبل المشنقة . في تلك الاثناء لعب عبد الرحمن
القصاب العضو البارز في اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي دوره المشهود
والشجاع في التصدي للانقلابيين والوقوف مع أبناء شعبه وجماهير حزبه .
في نهائيات عام 1988كانت واحدة من تطلعاتي أن
ألتقي بهذا الرجل العصامي بما قرأته عنه وسمعت من معاصريه في الخلق والشجاعة
والثبات ونكران الذات . زرته في المرة الأولى مع طلال شاكر ( أبو ميلاد ) بعد أن
حددنا موعد مسبق من خلال رفيقه في النضال وأحداث الموصل (عادل سفر) أبو شاكر وسابقاً أبو علي , وهو ايضا عانى من ضنك العيش ومعاناة العوز , مات في دمشق
ودفن فيها. في عصرية دمشقية وفي حي شعبي بائس ورث بمنطقة ( الشاغور ) دلفنا الى
سلم مركب من ( البلوك ) متهالك ووسخ في بيت عتيق وسكن جماعي للمسحوقين من الناس
وممن تقطعت بهم السبل للعيش الأدمي أدى بنا الى غرفة ( بيتونة ) كئيبة ورثة
ومتهالكة ومغبرة يقبع بها مناضل شيوعي وشخصية وطنية , مازال الجدل حامياً حول
تاريخه وموقفه , مكان لايليق أن يعيش به أنسان أعطى من نفسه وحياته لشعبه ووطنه
وحزبة الكثير , ومازال التاريخ يذكر أسمه عندما نتحدث عنه . كما مر عليه مرات
الباحث حنا بطاطو في صفحات كتابه القيم والمهم من تاريخ العراق .
في الوهلة الأولى لم أتمكن أن ألزم نفسي , لقد
خنقتني العبرة على مصير تجربتنا وأنت تعانقه تجسدت أمامي لوحة تراجيدية سوداء على
جدران الغرفة المهترئة عن مصير الانسان , في يومها كان طلال شاكر ( أبو ميلاد )
يقود تكتلاً سياسياً معارضاً لسياسة الحزب الشيوعي الرسمية في الموقف من التنظيم
والحرب والوطن تحت عنوان ( التنسيق ) مجموعة كوادر وسطية في تراتيب السلم الحزبي .
عبد الرحمن القصاب لقد قيل عنه الكثير من
المبالغات في محكمته ( القصابية ) كما يحلو لاعدائه من بعثيين وقوميين بتسميتها في
محاكمة الناس وأعدامهم . وقد ملئوا صفحات مذكراتهم في تأويل تاريخي عن حقيقة هذه
المحكمة وترويج الاكاذيب حولها في أشارات لم تعد مخفية على الناس في الاساءات
المتعمدة لتاريخ الشيوعيين وعلاقتهم بثورة 14 تموز وموقفهم في الدفاع عن مكاسبها
وأحداث أنقلاب 8 شباط 1963 .
يقول الراحل عبد الرحمن القصاب لم أعدم أحداً ,
ليس خوفاً من أحد , ولكن أنصافاً للحقيقة , لكني دافعت بشرف وغيرة في شوارع الموصل
عن أنجازات ثورة تموز ضد البعثيين , الذين كانوا ينوون شراً على أنجازات الثورة
وأستهداف حزبنا حزب الشيوعيين العراقيين . ونزلت الى الشارع أجوب مع الجماهير ضد
بيان العقيد الشواف صباح الأحد الثامن من أذار 1959 الذي يدعوا صراحة في القضاء
على نجاحات ثورة تموز ودور الشيوعيين تزامناً مع بيانات وأناشيد أذاعة صوت العرب
من القاهرة
.
كان الراحل القصاب حتى يسد رمق العيش ودفع
أجارات غرفته البائسة ( البيتونه ) المركونة على سطح مكشوف ومخسوف ومهتريء . كان
يعمل في مخبز أهلي لا يقل بئساً عن ذلك الحي الدمشقي مقابل أجر شهري ثمنمائة ليرة
سورية يدفع أجر بيتونته والقسم الأخر يسد رمقه . ورغم الوضع البائس الذي يعيشه كان
يرفض أي مساعدات من رفاقه يتفرد بشموخ وكبرياء كبيرين وبعزة شيوعي ومناضل تاريخي .
كنت أنظر أليه متعجباً رغم البأس الذي يعيشه بهندامه المتداعي بنطلون ممزق ومركع
وقميص بدون أزرار كاملة , لكنه كان منسجماً وودوداً ومبتسماً , رجل مؤمن بقدره
ومعتزاً بتاريخه النضالي والشخصي . يتحدث بثقة عن حتمية التاريخ حول الصراع الطبقي
ودور الشيوعيين الريادي به .
في المرة الثانية زرته مطلع 1989 مع الراحل علي
الجبوري ( أبو أحمد ) الذي غيبه الموت في مستشفيات ( أستوكهولم ) في مطلع
التسعينات بمرض لم يمهله وقتاً . أقترح عليه الراحل أبو أحمد أن نتبضع بعض
الحاجيات الضرورية له , وعندما وصلنا له حاملين أكياس سوداء لاحظت عليه الارتباك
والانزعاج من هذه الخطوة وفي نهاية اللقاء لم يستطع أن يمضغها . قال في المرات
القادمة , أذا فكرتوا بزيارتي فأهلا وسهلاً , لكن بدون هذا التكلف لانه يزعجني ولو
لم تكونوا أعزاز عليه لحملتكم الاكياس .
بهذا العز الشيوعي كان الراحل عبد الرحمن القصاب
ينازع الحياة والموت. في 9 أيلول 2001 باغتته سكتة قلبية في شوارع دمشق ليودع
الحياة تاركاً بصمة لاتمحى من تاريخ مناضل ومدرسة وطنية في الشجاعة والاقدام
والموقف .
دفن في دمشق وبدون تشييع يليق به كمناضل ذوو تاريخ
مرموق أحتراماً له وأنصافاً للوطن . قرأت مقالاً للصديق علي عبد العال ( أبو نوار
) حول رحيل عبد الرحمن القصاب في ذكرى رحيله الثامن أعطى حقه للرجل كمناضل تاريخي
وشيوعي وطني . ومبادرته الطيبة وحرصه على حياة المناضل القصاب جمعه بالدكتور عبد
الحسين شعبان , الذي كان مسؤول العلاقات الخارجية في منظمة الحزب الشيوعي في
العاصمة دمشق . وشعبان معروف بقربه من حياة الشيوعيين اليومية ومعاناتهم وهو سباق
في تقديم يد العون والمساعدة ولم الشمل تحت راية حزب الشيوعيين العراقيين .
وبرعاية علي عبد العال تم اللقاء في مقهى الروضة . وتعهد شعبان له حالاً بسكن يليق
به وبتاريخه وبعض المميزات , لكن كان القصاب همه أكبر من سكن ومميزات يحمل لائحة
من شروط في ورقه مهترئة من ثمانية نقاط في أصلاح الوضع وردم الخلافات وجمع
الشيوعيين تحت سقيفة حزبهم .
*ارسلها لي الاخ الدكتور خليل عبد العزيز عبر الايميل ووجدتها منشورة في الموقع التاليhttps://www.beider-media.se/?p=9053: :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق