الاحتفال بالذكرى ال91 لدخول العراق عصبة الأمم1932 دولة مستقلة
ا.د .ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس -جامعة الموصل
تمر في اليوم الثالث من تشرين الأول –أكتوبر الذكرى 91 لدخول العراق عصبة الأمم League of Nations وهي المنظمة الدولية التي تأسست بعد انتهاء الحرب العالمية
وبعد انتهاء الحرب ودخول العراق تحت الاحتلال البريطاني، ثار العراقيون على المحتلين لعوامل عديدة ليس الآن مجال لشرحها ولكن قسما من هذه العوامل يتعلق بتوق العراقيين إلى الاستقلال والتخلص من الحكم الأجنبي. وقد تشكلت أحزاب سياسية تعاونت مع القوى الدينية والعشائرية والمثقفين للانتفاض على البريطانيين في ثورة عارمة امتدت من الشمال إلى الجنوب تلك هي ثورة 1920 الكبرى والتي كان من نتائجها تخلي البريطانيون عن أسلوبهم في حكم العراق المباشر ،وإفساح المجال لتشكيل حكومة عراقية ، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 21 آب-أغسطس سنة 1921 .
وبعد تأسيس الدولة بدأت الخطوات تتوالى لاستكمال الأسس الدستورية للدولة وذلك بالانضمام إلى عصبة الأمم، هذه المنظمة الدولية التي تأسست سنة 1919 بهدف حفظ السلام العالمي ، وحل النزاع بين القوى الإقليمية والدولية بالطرق السلمية .
لم تكن مسيرة العراق إلى عصبة الأمم سهلة، وإنما كان لابد من الحكومة العراقية التي تشكلت سنة 1921 أن تبذل من اجل تحقيق هذا الهدف ،جهودا مضنية ، وتنفذ التزامات كثيرة ، وتلبي شروطا قاسية .خاصة بعد قرار مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو في نيسان 1920 وضع العراق تحت الانتداب البريطاني ..ذلك القرار الذي فسره العراقيون على انه وصاية . ومما عزز هذا الفهم أن نظام الانتداب يقتضي أن يكون هناك مستشارون بريطانيون إلى جانب كل وزير ، وان يرتبط أولئك المستشارون بالمندوب السامي البريطاني .
ولقد حاول العراقيون من خلال حركة مقاومة منظمة سلمية ومسلحة التخلص من أغلال الانتداب ، وبذل الملك فيصل الأول رحمه الله 1921-1933 جهودا كبيرة لتقرير شؤون الدولة ، وتحديد الأطر الدستورية والإدارية ، والتنظيمية للدولة الجديدة وخاصة على صعيد بناء الجيش ، ونشر التعليم ، وتحديث الصحة ، ووضع الإدارة على المنهج الصحيح ، وتنظيم العلاقة مع الدولة المنتدبة بما لايضر بمصالح العراقيين وطموحاتهم في بناء دولتهم الحديثة الموحدة القوية ، وحل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يساعد على أن يكون للعراق دورا مؤثرا في محيطه العربي والإقليمي والدولي .وكانت المعاهدات بين العراق وبريطانيا واحدة من الأساليب التي نظمت العلاقة تلك ولعل أبرزها معاهدة 1922 ومعاهدة 1927 ومعاهدة 1930 التي مهدت لدخول العراق عصبة الأمم دولة مستقلة، وانتهاء عهد الانتداب البريطاني .
لقد شعر العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بضرورة أن تكون هناك منظمة دولية تعمل على تهيئة سبل التعاون والتفاهم بين الدول ، وتمنع اندلاع الحروب المدمرة ، وتسعى لإحلال فكرة السلام مكان فكرة الحرب .وكان من ابرز دعاة تشكيل العصبة الرئيس الأميركي وودرو ولسن الذي رأى أن سياسة التحالفات السابقة الداعية إلى تحقيق التوازن الأوربي هي التي سببت الحرب العالمية الأولى . وقد تقدم ولسن بمقترحه إنشاء منظمة دولية إلى الكونغرس الأميركي في الثامن من شباط سنة 1918 ثم إلى مجلس الحلفاء الأعلى ، وضمن المقترح نقاطه الأربعة حول تقرير المصير ، وإعطاء ضمانات للاستقلال السياسي للدول ، كبيرة كانت أم صغيرة .وقد أعد مشروع ميثاق للعصبة في 28 نيسان 1919 وعقد أول اجتماع لمجلس العصبة وتكونت العصبة من أعضاء أصليين وهم الدول التي وقعت على الميثاق ، ومن أعضاء غير أصليين يرومون دخول العصبة على أن تقبل اية دولة في العصبة اذا وافق على قبولها ثلثا اعضاء الجمعية العامة للعصبة بشرط أن تقدم ما يفيد على التزاماتها الدولية وخاصة في عدم اللجوء للحرب واحترام قواعد القانون الدولي والتعهدات الواردة في المعاهدات .وكان للعصبة جمعية عامة ، ومجلس، وأمانة عامة (سكرتارية ) ومؤسسات سياسية وقانونية مرتبطة بها من قبيل محكمة العدل الدولية واللجنة التحضيرية لمؤتمر نزع السلاح ولجنة الأقليات ولجنة الانتدابات ، ومنظمة العمل الدولية ، ولجنة التعاون الفكري ، ولجنة الرق والعبودية ،ولجنة اللاجئين ومنظمة الصحة العالمية .وقد تعاقب على أمانتها0 العامة كل من السير اريك دروموند 1920-1933 وجوزيف أفينول 1933-1940 وشون ليستر 1940-1946 .
الذي يهمنا في هذا المقال دخول العراق عصبة الأمم ..هذا الموضوع الذي شغل بال العراقيين والملك فيصل الأول بالذات والحكومات العراقية والقوى الوطنية اعتقادا منهم جميعا أن دخول عصبة الأمم يعد خطوة كبيرة نحو الاستقلال التام ، لذلك بذلت جهود كبيرة في هذا المضمار وتعهدت الوزارات العراقية المتعاقبة التي تشكلت إبان عهد الانتداب البريطاني 1920-1932 على أن من ابرز مهامها استكمال دخول العراق عضوا في عصبة الأمم وقد دخل هذا التعهد في مناهجها . ومن جهتها عملت السلطات البريطانية المنتدبة على الإيفاء بتعهداتها في مجال إدخال العراق العصبة ولكن بعد أن وضعت شروطا وقيودا كان على العراق أن يناضل من اجل تحقيقها .
في خطاب التتويج قال الملك فيصل الأول يوم 23 آب-أغسطس 1921 " أن غايته المنشودة ، هي استقلال المملكة العراقية " لذلك تم التفاهم مع السلطة البريطانية المنتدبة على أن العراق سيبني نظامه السياسي الدستوري ويقر القانون الأساسي أي الدستور ، ويجري الانتخابات لإنشاء برلمان (مجلس تأسيسي )، ويتفاهم مع بريطانيا من خلال التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الملحقة بها وإبرام الصلح مع تركيا بعد انتهاء مشكلة مطالبتها بولاية الموصل ، وتحديد حدود العراق ، وتقوية الجيش للحفاظ على أمن العراق وشعبه .وقد سعت الوزارات التي تشكلت في العراق بين 1921و1932 إلى العمل على تحقيق الاستقلال ، ومعاضدة الملك فيصل ، واتخذت الكثير من الخطوات التي أوصلت العراق إلى عضوية العصبة ومنها التوقيع على معاهدة 1922 مع بريطانيا والبروتوكول الملحق بها ومما تضمنته المعاهدة أن ملك بريطانيا يتعهد بأن "يبذل مساعيه لتأمين إدخال العراق في عضوية عصبة الأمم في أقرب وقت ممكن " .وقد حدد البرتوكول الملحق بالمعاهدة الوقت بأربع سنوات . وفي 1926 تحددت حدود العراق الشمالية مع تركيا . وفي الخامس والعشرين من آذار –مارس 1929 وصلت إلى المندوب السامي البريطاني في العراق السر هنري دوبس برقية من وزير المستعمرات البريطاني ليوبولد ايمري تعلن استعداد الحكومة البريطانية بتبليغ عصبة الأمم في أول فرصة ممكنة عزمها ترشيح العراق للانضمام الى العصبة في سنة 1932 . وعلى هذا الأساس قامت مفاوضات بين حكومة نوري السعيد الأولى 23 آذار –مارس 1930-19 تشرين الاول –نوفمبر 1931 من اجل عقد معاهدة جديدة تؤكد فيها بريطانيا تأييد ترشيح العراق عضوا مستقلا في عصبة الأمم سنة 1932 وكانت معاهدة 1930 والتي أتاحت لحكومة نوري السعيد الفرصة ،لتثبيت حدود العراق مع الأردن وإيران وسوريا والسعودية والكويت .كما سافر نوري السعيد إلى جنيف بسويسرا حيث مقر العصبة مرتين الأولى في 3 حزيران-يونيو 1931 والثانية في 4 كانون الأول –ديسمبر 1931.كما سافر للمرة الثالثة للتمهيد لدخول العصبة وحل بعض الإشكالات المتعلقة بالتعامل التجاري ، وبموضوع ضمان حقوق الأقليات العرقية والدينية ، وأكد أن القوانين العراقية تحتوي من النصوص ما يضمن تلك الحقوق رافضا مقترحا بتحديد أماكن معينة للأقليات الدينية .كما وافق الملك فيصل الأول على إيفاد 11 عضوا من مجلس الأمة يمثلون مختلف قوميات وطوائف العراق إلى جنيف ليحضروا احتفال عصبة الأمم بقبول العراق عضوا جديدا .
وعندما زالت جميع العقبات أمام دخول العراق العصبة ابرق نوري السعيد إلى بغداد مبشرا بصدور قرار مجلس عصبة الأمم قبول العراق عضوا مستقلا ، وتم الاحتفال برفع العلم العراقي فوق سارية مقر العصبة مع أعلام الدول الأخرى في اليوم الثالث من تشرين الأول –أكتوبر سنة 1932 وقد عين نوري السعيد نفسه ممثلا للعراق في عصبة الأمم وعد أول مندوب عربي يدخل العصبة . وبعد صدور القرار القي نوري السعيد خطابا شكر فيه كل الذين عملوا من اجل تحقيق هذا الهدف ، وعد إلغاء الانتداب البريطاني ودخول العراق عصبة الأمم كأول دولة عربية مستقلة مكسبا وطنيا وقوميا بارزا وحدثا مهما من الأحداث التي يحتفل بها العراقيون حتى يومنا هذا .
قال الملك فيصل الأول " أن العراق أصبح حرا طليقا ،لاسيد عليه غير إرادته ...نحن احرار ،مستقلون " وطلب من الصحفيين أن يكتبوا ذلك إلى الشعب بأحرف بارزة قائلا لهم : " اذهبوا بين إخوانكم وانشروا عليهم كلماتي هذه ...إنني وبلادي مستقلون ، لاشريك لنا في مصالحنا ولارقيب علينا بعد دخولنا عصبة الأمم إلا الله " سبحانه وتعالى .
وقد أرسل الملك فيصل الأول برقية إلى رئيس مجلس العصبة بول بونكور قال فيها أن قرار العصبة "جاء محققا للمبادئ السامية التي ...ترمي اليها عصبة الأمم في تمكين الشعوب من التمتع بحريتها واستقلالها ...إن شعبي ليقدر هذا القرار من قبل المجلس حق قدره ،ويعده اكبر مشجع له على السير في سبيل التقدم ،ودخول العراق سيكون مؤيدا كل التأييد للغايات السامية التي تسعى العصبة لتحقيقها من سلم عالمي دائم " .وعندما تسلم الملك فيصل الأول التهنئة من الملك جورج الخامس ملك بريطانيا رد بالشكر على ما قدمته بريطانيا من مساعدات للعراق في سبيل دخول العصبة . كما أعلن الملك بأنه تسلم آخر رسالة من وكيل المندوب السامي البريطاني والذي أصبح رئيسا للبعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق .كما تسلم الملك فيصل الأول برقيات التهنئة من ملوك ورؤساء الدول الجارة والصديقة ومن الشخصيات العالمية ومن قادة الأحزاب. وألقى الملك فيصل الأول في بهو أمانة العاصمة خطابا في 6 تشرين الأول –أكتوبر 1932 أي بعد ثلاثة أيام من دخول العراق عصبة الأمم قال فيه : " اشكر الله واهنيئ نفسي وشعبي على هذا اليوم الذي نفضنا فيه غبار الذل ،وفزنا بعد جدال سياسي دام ما ينوف عن 11 عاما بالأماني الكبرى التي كنا نصبو إليها وهي إلغاء الانتداب واعتراف الأمم بنا وبأننا امة حرة ذات سيادة تامة ... " كما أكد الملك بأن الاستقلال كان نتيجة لجهود مشتركة اعتمدت الصبر والحكمة ...وعلينا أن نثبت أنفسنا بأننا عند حسن ظن الأمم التي دخلنا في مصافها " وأشار إلى ضرورة أعمار العراق وتحديثه وتقدمه دون تردد ووجل .
وبعد دخول العراق عصبة الأمم بذل مندوبيه جهودا حثيثة في مجال الدفاع عن الحقوق العربية ومناقشة قضايا كثيرة منها القضية الفلسطينية ، وقضية الاسكندرونة ، وسعى العراق لمساعدة مصر في دخول العصبة ، وإدانة العدوان الايطالي على الحبشة وما شاكل .
وقد يكون من المناسب هنا التنويه إلى أنني أشرفت على رسالة ماجستير قدمها تلميذي الدكتور عامر سلطان قادر مصطفى الاسحاقي إلى مجلس كلية التربية بجامعة الموصل سنة 1999 بعنوان : " العراق وعصبة الأمم 1920-1939 دراسة تاريخية –سياسية " قلنا فيها أن دخول العراق عصبة الأمم كان فرصة لمنح العراق حق التمتع بالاستقلال من وجهة نظر القانون الدولي . وقد استطاع العراق من خلال ممثليه في جنيف أن يكون على اتصال ومتابعة كل التطورات الحاصلة في العالم .أما بالنسبة لعصبة الأمم فعلى الرغم من أنها فشلت في تحقيق أهدافها إلا أنها حاولت أن تنظم العلاقات الدولية وتخلق نوعا من التعاون الدولي ومهدت لنشوء منظمة أكثر فاعلية ، وأوسع أهدافا من العصبة، ونقصد هيئة الأمم المتحدة.
*صورة الملك فيصل الاول وهو يقف امام البلاط الملكي متأملا ومستذكرا الجهود التي بذلت للوصول الى هذا الانجاز التاريخي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق