السبت، 22 أغسطس 2015

فكرة المنطقة الأمنية العازلة على الحدود العراقية- التركية ومخاطرها على الأمن الوطني العراقي* ا.د.ابراهيم خليل العلاف



فكرة المنطقة الأمنية العازلة على الحدود العراقية- التركية ومخاطرها على الأمن الوطني العراقي*
ا.د.ابراهيم خليل العلاف 
استاذ متمرس -جامعة الموصل 

المقدمــة
ينبغي التذكير أولاً، بأن الحكومتين العراقية والتركية أبرمتا في تشرين الأول 1984، اتفاقاً أمنياً حدودياً لكل من البلدين بعد اخطار البلد الآخر، القيام بعمليات مطاردة حثيثة لما أُطلقَ في حينه على المتمردين من الأكراد وبعمق (10) كيلومترات داخل حدود البلد الآخر([i]).
وكما هو معروف، فإن تركيا استفادت من هذا الاتفاق ثلاث مرات، قبل أن تقوم بإلغائه من جانب واحد، أثناء العمليات العسكرية العراقية في الشمال بعد وقف الحرب مع إيران في الفترة من 27 آب- 5 أيلول 1988([ii]).
ومنذ آب 1991 شنت تركيا عمليات عسكرية في شمالي العراق جوية وبرية، وفي كثير من الأحيان على عمق (16) كيلومتراً. وقد بلغت التدخلات العسكرية التركية حتى آذار من السنة 1992 قرابة (95) تدخلاً عسكرياً، وكانت تركيا تبرر ذلك بالقول أنها تستهدف حماية أمنها الوطني من التسلل والتخريب([iii]).
وبين 2 آذار إلى 2 أيار 1995 قامت القوات العسكرية التركية بأوسع عملية داخل الأراضي العراقية، حيث اجتاز قرابة (35) ألف جندي تساندهم الطائرات والدبابات، الحدود الدولية بين العراق وتركيا وبعمق (40) كيلومتراً داخل الأراضي العراقية. وخلال هذه العمليات طرحت بعض الأوساط السياسية والعسكرية التركية، فكرة إقامة منطقة أمنية عازلة على طول حدودها مع العراق وطولها حوالي 33 كيلومتر، وكانت الأهداف المعلنة لهذا الاجتياح محاولة تعقب عناصر حزب العمال الكردستاني التركي (الانفصالي) وتدمير قواعده في شمالي العراق والعمل على استعراض القوة من جانبها، وتأكيد اختلال توازن القوى بينها وبين العراق لصالحها بعدما لحق بالقدرات العسكرية العراقية من تدمير بسبب حرب 1991 وقرارات مجلس الأمن بشأن شروط وقفها([iv]).
وطبيعي أن تركيا، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية المتحالفة معها كانت لاتهتم باحتجاجات العراق على مثل تلك العمليات التي تشكل في جوهرها انتهاكاً صارخاً لحرمة أراضي العراق وسلامته الإقليمية، خاصة في ظل ظروف إلغاء الاتفاق الأمني بين العراق وتركيا من الجانب التركي نفسه، كما سبق أن قدمنا([v]).
ولقد رافق تلك العمليات، حديث عن مايسمى بـ (حقوق وأوضاع) الأقلية التركمانية في العراق ومستقبلها، ويبدو أن مثل هذا الحديث، يجيء كمحاولة لتغطية التدخل السافر في شؤون العراق وبدافع من الولايات المتحدة بالذات، بقصد تمزيق وحدة العراق، وتهديد سلامة مواطنيه وتغيير الأوضاع وإسقاط النظام القائم آنذاك([vi]).
وفي أعقاب الحملة الثالثة للحرب يومي 3 و 4 أيلول 1996 ظهرت أوساط رسمية تركية لتثير مرة أخرى فكرة الحزام الأمني أو المنطقة الأمنية العازلة داخل الأراضي العراقية([vii]). ماالمقصود بالمنطقة الأمنية العازلة وما طبيعتها وما هي ردود الفعل العراقية والعربية والإقليمية والدولية عليها وأخيراً ماهي مخاطرها على الأمن الوطني القومي؟



الإعلان عن فكرة المنطقة الأمنية العازلة
في اليوم الثاني من أيلول 1996 دعت تانسو جيلر نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية التركية آنذاك، العراق إلى سحب قواته من شمالي العراق فـوراً، وأضافت أن ذلك يأتي حفاظاً على السلام في المنطقة([viii]). وقالت أنها على اتصال مباشر مع العراق وإيران والولايات المتحدة لبحث الأمور، ونفت أن تكون الولايات المتحدة قد تقدمت بطلب لاستخدام قاعدة (انجرليك) لضرب العراق.
وختمت تصريحها للصحفيين بقولها: "أن تركيا تسعى للحفاظ على ماأسمته سلامة (شعوب) العراق مع كرد وترك وعرب، ولكن هذا لايعني أنها تسمح بإقامة كيان كردي مستقل في شمالي العراق، ونوهت بأن الصراع بين الحزبين الكرديين سيكون في صالح عناصر حزب العمال الكردستاني الذي سوف يشدد هجماته على المصالح التركية انطلاقاً من قواعده التي أنشأها في شمالي العراق([ix]).
وفي الثالث من أيلول 1996، أجلت جيلر زيارة كان مقرراً أن تقوم بها إلى الأردن بسبب الأوضاع في كردستان العراق، ونقلت المصادر عن جيلر قولها أنها اتصلت بالرئيس الأميركي (بل كلنتون) مرتين وأن نجم الدين اربكان رئيس الوزراء التركي، عقد اجتماعاً موسعاً حضره القادة العسكريون وبعض المسؤولين لاقرار سياسة تركية خاصة تجاه الأحداث في كردستان العراق([x]). وفي الرابع من أيلول 1996، نقلت هيئة الأذاعة البريطانية باللغة العربية، أخباراً عن مسؤولين أتراك يدعون إلى إنشاء منطقة عازلة في شمالي العراق ويقولون أنه إجراء أمني، وليس ضرباً من ضروب الاحتلال([xi]). وأكدت الأذاعة أن جيلر قالت: "أن تركيا تستعد للدخول إلى العراق لمنع الانفصاليين من عناصر حزب العمال الكردستاني، بعد أن تبلغت بازدياد النشاطات الإرهابية". وأضافت جيلر: "أن تركيا لابد أن تحمي مواطنيها، وتضمن حدودها"([xii]).
وفي مساء اليوم ذاته، قالت إذاعة مونت كارلو: أن تركيا اقترحت إقامة منطقة عازلة في شمالي العراق لمنع عناصر حزب العمال الكردستاني من شن هجمات على المصالح والمؤسسات والأراضي التركية([xiii]). وبدأت الأنباء تتوالى عن تحشدات للقوات التركية على الحدود. وقالت الحكومة التركية أن هذا إجراء روتيني، الهدف منه منع تدفق لاجئين أكراد إليها كما حصل سنة 1991، والحيلولة دون تغلغل عناصر حزب العمال الكردستاني. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية (عمر إقبال) جواباً على سؤال أحد الصحفيين: لاتوجد عملية عسكرية تركية في العراق في الوقت الحاضر إلاّ أنه ماقالته جيلر يجب أن يعد بمثابة إنذار لكل من أسماهم بـ (أصحاب النوايا السيئة)([xiv]).
عادت جيلر لتصرح مساء يوم الأربعاء 4 أيلول، أنها التقت السفير الأمريكي في أنقرة (مارك غروسمان)، وأعربت له عن قلق بلادها من تطور الأحداث في كردستان العراق، وقالت: "أن تركيا تؤيد أن تضع 100 مائة ألف (تركماني) في العراق تحت الحماية الغربية، شأنهم في ذلك شأن الأكراد"([xv]). وفي يوم 8 أيلول أعلنت جيلر أنها أجرت اتصالاً هاتفياً مع وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر حول الوضع في شمالي العراق، وأوضحت أنها طلبت من كريستوفر أن يكون تركمان العراق من بين السكان الذين تشملهم عملية (بروفايد كومفورت) أي توفير الراحة. وطلبت وزيرة الخارجية يوم 18 أيلول من زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني السيد مسعود البارزاني (حماية التركمان العراقيين الموجودين في شمالي العراق). وقالت جيلر للصحفيين بعد اجتماعها في أنقرة أن العديد من التركمان أخذوا من أربيل أثناء الحماية وتقصد أثناء دخول الجيش العراقي في آب 1996([xvi]).
ثم نقلت وكالات الأنباء عن مصادر سميت في حينه (الحزب التركماني) في العراق، أن قرابة (2000) تركماني كانوا في اربيل وقد فقدوا بعد عملية اربيل، وأشارت جيلر إلى: "أن تركيا ستتخذ كل الإجراءات اللازمة وأن هذه الإجراءات أبلغت إلى الدول المعنية من دون أن تدلي بمزيد من الإيضاحات". وقالت: "أن تركيا لايمكنها أن تتجاهل تجمع الإرهابيين من عناصر حزب العمال الكردستاني ماوراء الحدود". ورداً على سؤال حول ماإذا كانت أنقرة تقيم منطقة عازلة في شمالي العراق لمنع تسلل المتمردين من عناصر حزب العمال الكردستاني أجابت جيلر بعبارة ملؤها الغموض والغرابة والمواربة بقولها: "هناك منطقة أمنية في الأراضي العراقية المجاورة لتركيا!!"([xvii]).
وسرعان مابدأت الأخبار تتسرب عن ماتم بين تانسو جيلر والسفير الأميركي في أنقرة من محادثات، فنقلت وكالة أنباء الأناضول عن مصدر في وزارة الخارجية التركية، أن الوزيرة جيلر أبلغت السفير الأميركي بأن "تركيا تنوي إقامة منطقة عازلة في شمالي العراق لمنع تسلل مقاتلي حزب العمال الكردستاني الانفصالي"، ونسبت الوكالة إلى المصدر نفسه:" إن إقامة منطقة عازلة كهذه لن تشكل عمل احتلال لكنها مجرد إجراء أمني"([xviii]).
وكالعادة، وفي محاولة من تركيا لتمرير (خطة المنطقة العازلة) أبلغت جيلر الصحفيين في أنقرة: "أن الحكومة التركية مصممة على حماية السكان التركمان في شمالي العراق، والذين، قالت بأنهم يتعرضون لهجمات!!". ونقلت وكالة أنباء الأناضول عن جيلر تأكيدها في حديث صحفي: "أن التركمان الذي يقدر عددهم في شمالي العراق بعدة مئات من الآلاف تعرضوا لخسائر بشرية ومادية في الأيام الأخيرة..". وأضافت: "أن مجموعات من التركمان تجمعت بالقرب من الحدود العراقية- التركية"([xix])، لكن جيلر لم تتهم بوضوح طرفاً أو أكثر من أطراف النزاع، لكن المعلومات التي حرصت الصحف التركية على ترديدها قالت: "أن مئات من التركمان في اربيل اعتقلوا وقتلوا ونهبت أملاكهم" واعتبرت جيلر أن عملية (توفير الراحة، ينبغي أن تضمن أمن التركمان)([xx]). وفي هذه الأثناء أطلقت تركيا فكرة جديدة تقوم على أساس إنشاء نظام متطور للمراقبة الألكترونية على حدودها مع العراق لمنع عمليات التسلل، وصرحت جيلر أن هذا المشروع مطروح منذ أكثر من عام في أنقرة، وشكل موضوع مفاوضات عدة مع الولايات المتحدة، لكنه لم يتحقق حتى الآن، وقالت جيلر في تصريح صحفي: "أن حدودنا مع العراق تمر في منطقة جبلية ويمكن عبورها بسهولة". وأضافت: "أن المهم أن نتمكن من حماية حدودنا. أما احتلال شمالي العراق بعملية عسكرية فليس وارداً". وقالت مصادر صحفية أن هذا النظام سيكون مشابهاً للنظام الذي أقيم على الحدود الأميركية- المكسيكية، ويمكن أن تبلغ كلفته الإجمالية (مليار دولار) حسبما ذكرت أوساط متخصصة، وسيتيح هذا النظام مراقبة دقيقة لنشاطات المتمردين الأكراد على الحدود مع العراق وبدون أن يتطلب الأمر عمليات واسعة النطاق للقوات التركية في شمالي العراق([xxi]).

طبيعة المنطقة العازلة ومواصفاتها
من خلال متابعة التقارير الصحفية عن المنطقة العازلة المقترحة بين العراق وتركيا، يمكن أن هذه المنطقة التي تريد تركيا إنشائها داخل الحدود العراقية تتميز بما يلي([xxii]):
1- أنها ستكون مؤقتة وليس لها تأثير سلبي على سيادة العراق ووحدة أراضيه.
2- أنها ستكون محدودة وبامتداد 200 ميل على الحدود الدولية المشتركة.
3- أنها ستكون ضئيلة وبعمق 5-20 كيلومتر.
4- لاتتضمن وجود قوات عسكرية.
5- ستكون على غـرار المنطقة العازلة التي أقامتها إسرائيل جنوبي لبنان.
6- هدفها القيام بحراسة الحدود ومنع تسلل المتمردين الأكراد الأتراك بعد انسحاب القوات التركية من المنطقة.
7- أنها تهدف، كما قالت، إلى التخفيف من آثار الفراغ في السلطة في شمالي العراق والذي تعاني منه المنطقة منذ عام 1991.

موقف العراق من فكرة المنطقة الأمنية العازلة
استدعى وزير الخارجية العراقي القائم بالأعمال التركي المؤقت في بغداد، منتصف ليلة الخميس 5 أيلول 1996 وحمّله نقاط حديث للحكومة التركية تتعلق بمواقف تركيا المعلنة تجاه التطورات الأخيرة في كردستان العراق، وأبلغ الوزير بالأعمال التركي رفض العراق الإجراءات العسكرية التركية على الحدود العراقية لأنها، بنظره، تصرف غير مبرر كلياً وانتهاك لسيادة العراق ووحدة أراضية([xxiii]).
كما صرّح ناطق بإسم وزارة الثقافة والإعلام بأن تركمان العراق يحظون بالرعاية الكاملة ويتمتعون بحقوقهم، ومما جاء في التصريح: "روّجت بعض وسائل الإعلام في تركيا، في عملية تبدو منسقة، إشاعات وأخبار مفادها أن شهود عيان أفادوا أن قوات الجيش العراقي التي شاركت في عملية مدينة أربيل قد شكلت فرقاً للتفتيش عن التركمان والقبض عليهم.. الخ، وتؤكد أن هذه الإشاعات والأخبار معدة من جهات لها أغراضها الشريرة ولا أساس لها من الصحة وهي نمط من الأكاذيب المفبركة التي يسعى صانعوها إلى الإساءة إلى وحدة العراق، وإلى خلق جو متوتر يساعد على مزيد من الأصطياد في الماء العكر، ولا سيما في العلاقات العراقية- التركية"([xxiv]).
وأكد البيان أن القوات المسلحة العراقية نفذت مهمة محددة في اربيل، كان هدفها حماية أرض العراق من التدخل الإيراني، وفور اكمالها مهمتها بدأت بالانسحاب، كما أن المعروف أنه ليس من واجبات هذه القوات ممارسة الأمن في هذه المدينة أو غيرها([xxv]).
وفي يوم السبت 7 أيلول 1996 اتصلت وكالة الصحافة الفرنسية بأوساط سياسية عراقية لتسألها عن موقفها من (عزم تركيا على إنشاء منطقة آمنة) على الحدود مع العراق فقالت هذه الأوساط: "أن هذا المشروع نوع من أنواع الضغط الذي تمارسه الإدارة الأميركية على بغداد عبر تركيا التي تستعد لإقامة منطقة أو عدة مناطق أمنية في شمالي العراق". وكانت واشنطن، حسب رأي هذه الأوساط، قد أعطت الخميس 5 أيلول 1996 الضوء الأخضر لتركيا لإنشاء مثل هذه المناطق على الحدود مع العراق من أجل منع المتمردين من حزب العمال الكردستاتي التركي الانفصالي من القيام بنشاط داخل الأراضي التركية انطلاقاً من الأراضي العراقية. وقد رفض العراق في اليوم ذاته المشروع التركي معتبراً "أنه يمس بسيادة العراق وسلامة أراضيه". وتساءلت الأوساط الدبلوماسية أنه إذا كانت تركيا قلقة على أمنها الوطني فلماذا لا تقيم مثل هذه المناطق داخل أراضيها، واستغربت هذه الأوساط إعلان هذا المشروع المعادي في وقت لم يكشف فيه عن أية عمليات عسكرية في جنوبي تركيا، ونددت هذه الأوساط بما وصفته مؤامرة ضد العراق وتدخلاً في شؤونه الداخلية بإيعاز من الولايات المتحدة، ورأت هذه الأوساط أن المشروع يدل أيضاً على مدى التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية التركية، وينسف جميع تصريحات المسؤولين الأتراك عن تطبيع العلاقات مع العراق([xxvi]).
وبعد يومين أكد نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي أن العراق سيقاوم سياسياً المشروع التركي القاضي بإقامة منطقة عازلة في شمالي أراضيه وقال في مقابلة أجرتها معه القناة الأولى في التلفزيون، حصلت وكالة الصحافة الفرنسية في بغداد على نصها: "موقفنا يقتصر على مقاومة هذا الإجراء غير المبرر سياسياً". وأوضح: "أنه أبلغ الحكومة التركية أن العراق لا يمكن أن يوافق على هذا الإجراء أو يسمح به... "وأضاف: "نتابع اتصالاتنا مع الحكومة التركية لإقناعها بعدم ارتكاب هذه الغلطة، نحن على اتصال بعواصم أخرى وأبلغنا الأمر إلى رئيس مجلس الأمن الدولي".. وتابع قائلاً: "إن رد فعلنا على المشروع سياسي إلى الآن"، وشدد على أن إقامة هذه المنطقة العازلة لن يحل المشكلة الكردية مذكراً بأن تركيا كانت قد لجأت إلى محاولات مماثلة في الماضي([xxvii]).
كما أدان أحمد بهاءالدين رئيس ماكان يعرف بـ المجلس التشريعي لمنطقة كردستان للحكم الذاتي المخطط التركي ووصفه بأنه يتنافى مع الأعراف والمواثيق الدولية وانتهاك صارخ لأراضي دولة ذات سيادة، وعضو في جامعة الـدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة. وقال في تصريح لوكالة الأنباء العراقية أن الهدف الرئيس من تدخل الولايات المتحدة ومن يساندها في شؤون العراق الداخلية زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة([xxviii]).
أعلنت وزارة الخارجية التركية أن وفداً عراقياً برئاسة حامد يوسف حمادي المستشار في ديوان رئاسة الجمهورية آنذاك، سيجري مباحثات في أنقرة مع (اونور اويمن) المسؤول الثاني في وزارة الخارجية. وأوضح بيان أصدرته الوزارة أن المحادثات تتناول تبادل وجهات النظر والمعلومات حول آخر التطورات الإقليمية والعلاقات الثنائية ([xxix]). وفي أيلول 1996 أعلنت وكالة الأنباء العراقية في بغداد أن الوفد وصل أنقرة، وأن مهمته ستكون إبلاغ (الحكومة التركية بموقف العراق الواضح والثابت من القرار الأخير الذي تحدثت عنه تركيا والمتعلق بإقامة ما يسمى بالمنطقة الأمنية على الأراضي العراقية)، ومما يلاحظ أن (اويمن) استقبل السفير الأميركي مارك غروسمان برفقة عدد من الضباط الأتراك والأميركيين قبيل الإعلان عن زيارة الوفد العراقي، وأعلن غروسمان أن اللقاء تناول مستقبل العراق والقوة المتعددة الجنسيات المتمركزة في قاعدة انجرليك التركية([xxx]).
لقد وصف حمادي بعد استقبال (اويمن) له الاجتماع بأنه مفيد وساده جو من الصراحة([xxxi]). وقال المتحدث التركي بقسم وزارة الخارجية عمر اقبال: "وجهنا الدعوة إلى هذا الوفد في إطار عزمنا على استشارة جميع الأطراف المعنية بتطور الأوضاع في العراق". وأضاف: "تمت الإشارة مرة أخرى أثناء المحادثات إلى الأهمية التي توليها تركيا للحفاظ على سيادة العراق وسلامة أراضيه" وتابع: "أبلغنا الجانب العراقي بمعلومات حول تكثيف النشاطات الإرهابية انطلاقاً من الجانب العراقي للحدود مع تركيا، ويقصد عمليات حزب العمال الكردستاني التركي"([xxxii]).
التقى حمادي مع تانسو جيلر نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية، وأكدت جيلر بعد الاجتماع: "أن تركيا مستمرة في مشروعها بإقامة منطقة أمنية في شمالي العراق"([xxxiii]). وقالت في تصريح للصحفيين: "نصر على مبادرتنا.. وتركيا ستضمن بحزم أمن حدودها". وأضافت: "هذا الاجتماع كان مفيداً، بات كل فريق يفهم الآخر بشكل أفضل"([xxxiv]).
أما حمادي فقد رفض أن يوضح ماإذا كان العراق لايزال يعارض المشروع التركي، وامتنع عن التعليق على سؤال فيما إذا كانت بغداد تدعم المشروع التركي([xxxv])، إلاّ أن نائب رئيس الجمهورية العراقي آنذاك وفي مقابلة أجرتها معه شبكة (أي تي في) التلفزيونية التركية، وحصلت وكالة الصحافة الفرنسية على نصها، واتهم (تركيا) بتنفيذ مؤامرة أميركية ضد العراق، ودعا تركيا إلى التخلي عن مشروعها الهادف إلى إقامة منطقة أمنية في شمالي العراق. واعتبر أن تركيا تراجعت عن شعارات توسيع علاقاتها التجارية مع العراق، وبدأت تعلن عن اقتطاع جزء من العراق، وأضاف: أن حل المشكلات الاقتصادية والأمنية لتركيا لايكون بقوات المطرقة في تركيا وهي قوات أجنبية بالسيناريو الجديد الذي يقول بشريط أمني على أرض العراق، وأكد أن هذا لايجلب الأمن ولا يحسن اقتصاد تركيا، بل على العكس، فإن مايحسن اقتصاد وأمن تركيا هو توسيع التعاون الاقتصادي مع العراق والاتفاق الثنائي بين حكومتي البلدين بشكل مباشر. وقد هاجم حكومة رئيس الوزراء التركي نجم الدين اربكان قائلاً: "أنها لم تف بوعودها الانتخابية لإنهاء التعاون التركي مع واشنطن، كما أنها لاتزال تواصل تقديم المساعدة الجوية الغربية فوق العراق([xxxvi]).
كما وجّه العراق رسمياً رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، للاحتجاج على المشروع التركي بإنشاء منطقة أمنية داخل أراضيه، وحذر من أنه قد يتخذ إجراءات في حال استمرار أنقرة في تنفيذ مشروعها. وفي رسالة قدمت يوم 11 أيلول في نيويورك اشتكى وزير الخارجية العراقي آنذاك محمد سعيد الصحاف من أن تركيا تعتزم احتلال أراضي عراقية حيث تريد إنشاء مناطق أمنية مزعومة أو أحزمة أمنية، ونشر عدد كبير من الجنود. وقال الصحاف أن هذه الأعمال ليست منعزلة بل على العكس فهي تحظى بدعم واضح من الولايات المتحدة التي أظهرت استهانتها الكاملة بالقوانين الدولية بسيادة الدول واستقلاليتها، وأضافت الرسالة: أن العراق يحمل الحكومة الأميركية كل المسؤولية لما ينتج من عواقب عن الموقف العدائي والمخالف للقوانين الذي اتخذته تجاه العراق وسلامة أراضيه واختتمت الرسالة: "أن الحكومة العراقية تحتفظ بحقها في اتخاذ جميع الإجراءات التي تراها مناسبة للدفاع عن سلامة العراق وأراضيه وسيادته"([xxxvii]).
وفي أنقرة، أكد سفير العراق لدى تركيا لوكالة أنباء الأناضول، رفض العراق رفضاً قاطعاً لما تحدثت عنه تركيا بإقامة مايسمى بالمنطقة الأمنية في الأراضي العراقية وأوضح: "أن أية خطوة في هذا ستؤدي إلى خرق لسيادة العراق"، مؤكداً أن إيجاد الحل للمشاكل الأمنية يتم من خلال الحوار والمحادثات بين الحكومتين العراقية والتركية". وشدد على أنه لم تحصل أية مشاكل أمنية على الحدود التركية عندما كانت القوات العراقية على الحدود مع تركيا قبل سنة 1991 موضحاً أن عودة سيادة العراق على شماله ستنهي المشاكل الأمنية في المنطقة وأكد ضرورة إجراء مباحثات سياسية وحوار عميق على مستوى رفيع بين البلدين لتطوير العلاقات وحل المشاكل([xxxviii]).


ردود الفعل العربية والدولية
واجهت فكرة المنطقة العازلة ردود أفعال عنيفة من لدن الأقطار العربية والدولية، فعلى الصعيد العربي استنكر وزير الخارجية المصري عمرو موسى يوم 6 أيلول المشروع التركي قائلاًً: "بأنه إذا طبق فيشكل سابقة خطيرة"، وقال موسى: "إن على الدول كلها بما فيها تركيا أن تحترم سلامة أراضي العراق"... وأضاف قائلاً: "وإذا كان مجلس الأمن يناقش تحركات عراقية داخل أراضي العراق فمن الأولى أن يناقش تحركات أخرى داخل أراضي العراق". وأكد الوزير المصري: " أنه لايصح أن يكون شمالي العراق سياجاً لأية قوة.. هذا يعتبر انتهاكاً لسلامة أراضي العراق وسيادته عليها وهذه مسألة خطيرة للغاية"([xxxix]).
وبعد يوم واحد، عاد عمرو موسى ليقول للصحفيين: "نحن قلقون جداً بل أكثر من قلقين تجاه هذا الموضوع"، وأضاف: "لو سمحنا بوجود منطقة عازلة أو تواجد قوات أجنبية على الأراضي العراقية فإن هذا سوف يتناقض ماكنا نقوله عن سيادة العراق واحترام استقلاليته السياسية". وأعرب موسى عن قناعته بأنه إذا اخترقت أية دولة في المنطقة الأراضي العراقية فإن أي بلد لن يؤيد هذا([xl]). وذهب محمد فتحي الشاذلي مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوربية المذهب نفسه حيث قال للصحفيين: "أن المساس بوحدة الأراضي العراقية وحق العراق في ممارسة سيادته على مجمل أراضيه قد يؤدي إلى فتح نافذة جديدة تنطلق منها أعاصير تعصف بالاستقرار الإقليمي بأكمله". وأضاف: "إنا ماتردد عن إنشاء مناطق آمنة في شمالي العراق أمر خطير يثير القلق "، مشيراً إلى أن مصر طالبت بتوضيحات حول الموضوع". وقال الشاذلي: " أن العلاقات التي تربط مصر بتركيا لايمكن أن تبرر أية محاولة تركية لاختراق الحدود العراقية والتدخل في شؤونه وانتهاك سيادته، وأشاد الشاذلي بالموقف الأوربي حيال التطورات الأخيرة في العراق([xli]). وقد أكد الرئيس المصري حسني مبارك موقف مصر هذا في مكالمة هاتفية أجراها مع الرئيس التركي سليمان ديميريل للتعرف على حقيقة مايتردد عن وجود قوات تركية على الأراضي العراقية وذكر متحدث رسمي مصري: "أن مصر أبلغت تركيا بضرورة احترام سيادة العراق ووحدة أراضيه". وأضاف المتحدث: "أن الرئيس التركي أكد للرئيس المصري خلال المكالمة الهاتفية أن تركيا ليس لديها أي نوايا لتواجد عسكري على أرض عراقية، وأن القوات التركية تمارس مهامها الآن داخل أراضيها"([xlii]).
وفي تونس أصدرت وزارة الخارجية بياناً أشارت إلى دعمها وحدة العراق، واستنكرت المشروع التركي ووجهت نداءً إلى تركيا دعتها فيه إلى عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية وذلك بعد إقرار الحكومة التركية إقامة منطقة أمنية في شمالي العراق. وجاء في بيان الخارجية التونسية: "أن الحكومة التونسية تتابع بقلق قرار الحكومة التركية إقامة مناطق أمنية في شمالي العراق وتدعوها إلى الإمتناع عن القيام بكل مامن شأنه أن يؤثر على سلامة ووحدة أراضي العراق وسيادته([xliii]).
وأدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية ماوصفه بـ (تدخل دول الجوار في شؤون العراق) مما يدخل المنطقة في دوامة جديدة من التوتر قد تكون أقسى وأمّر([xliv]). ونددت قطر بخطط تركيا لإقامة منطقة عازلة في شمالي العراق واعتبرت ذلك تحركاً سلبياً يهدد الأمن والاستقرار ويجر إلى تقسيم العراق. وقد ذكر مصدر مقرّب من اجتماع مجلس التعاون أن وزراء خارجية دول هذا المجلس يعتبرون أن الأحداث في المناطق الكردية هو شأن عراقي داخلي، ويرفضون إقامة حزام أمني تركي في شمالي العراق ويؤيدون وحدة الأراضي العراقية ويدعون دول الجوار إلى عدم التدخل في شؤون العراق([xlv]).
وأعربت الحكومة اليمنية عن قلقها من إقامة المنطقة العازلة وصرّح مصدر مسؤول في الخارجية اليمنية قائلاً: "بضرورة احترام سيادة العراق وحدوده الإقليمية"([xlvi]). وأكد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح: "أن الحكومة التركية إذا ماأصرت على إقامة المنطقة الأمنية داخل الأراضي العراقية فإن ذلك سيكون له انعكاسات سلبية على العلاقات العربية- التركية". وأضاف في حديث صحفي لتلفزيون الشرق الأوسط (ام بي سي) نشرته صحيفة الثورة اليمنية في صنعاء: "إننا نأسف لإعلان تركيا إقامة حزام أمني في الأراضي العراقية والذي يُعد تدخلاً سافراً من دولة إسلامية في شؤون دولة إسلامية أخرى"([xlvii]).
وأبلغت الحكومة المغربية، الحكومة التركية اعتراضها على المشروع التركي، واستدعت وزير الخارجية بالأعمال التركي، وأبلغته أن هذا المشروع يتسم بالخطورة ويمس سيادة العراق وتكامل أراضيه اللذان تتمسك بهما المملكة المغربية تمسكاً كلياً([xlviii]).
وأعربت موريتانيا عن اعتراضها كذلك، وأصدرت الخارجية بياناً أشارت فيه إلى أن موريتانيا تعارض أي خطوة تمس وحدة الأراضي العراقية([xlix]).
وأعرض مصدر رسمي في دمشق معارضة سوريا للمشروع التركي، وأفاد المصدر أن وزارة الخارجية السورية استدعت السفير التركي لدى سوريا (اوغور زيال) وأعربت له: "أن الموقف التركي الجديد هذا أزاء وحدة العراق أرضاً وشعباً يتناقض جذرياً مع القوانين الدولية وقرارات الشرعية الدولية"([l]). وأعلنت سوريا تمسكها بوحدة الأراضي العراقية. وفي الأسكندرية أكد وزير الخارجية السوري فاروق الشرع آنذاك أثر لقائه بالرئيس المصري أن هناك قلقاً عربياً عاماً حول مايجري في شمالي العراق، وقال: "أن سوريا أكدت مراراً أن أي محاولة لتقسيم العراق ستكون مرفوضة في سوريا التي تعتبر أي إجراءات تتخذ على الأرض كما تفكر تركيا مثلاً مقدمات لتقسيم العراق". وقد امتدح وزير الخارجية العراقية محمد سعيد الصحاف موقف سوريا، وقال: "انه كان واضحاً جداً، ويتطابق مع موقف العراق ازاء المخاطر التركية بإنتهاك سيادة العراق"([li]).
وأدان الدكتور عصمت عبد المجيد الأمين العام لجامعة الدول العربية المخطط التركي لإقامة مايسمى بالمنطقة الأمنية قائلاً: "أن التحرك التركي أزاء شمالي العراق يثير الدهشة والتساؤل. وطالب الحكومة التركية أن توضح حقيقة الموقف لأن الجامعة لم تطلع رسمياً على أي شيء وما جاءت به وكالات الأنباء من تحركات تركية لاترتاح له ويقلقنا"([lii]). وجدد الدكتور عبدالمجيد بعد يوم واحد رفض الجامعة للمشروع التركي وقال: "إن احتلال تركيا لأراضي العراق والاعتداء على سيادته لانقبله إطلاقاً"([liii]).
وأكد أحمد العطاف وزير خارجية الجزائر موقف الجزائر من دعمه للعراق.
وأجمع وزراء الخارجية العرب، لدى حضورهم اجتماعات الدورة العادية السادسة بعد المائة لمجلس الجامعة التي بدأت في القاهرة يوم 14 أيلول على رفض انتقاص سيادة العراق وخصص المجلس جلسة كاملة لمناقشة الوضع في العراق مؤكداً في بيان أصدره بسيادة العراق ووحدة أراضيه شاجباً التدخلات الأجنبية التي تهدد سلامة ووحدة العراق([liv]). وندد المجلس بشدة الانتهاكات في شمالي العراق حيث تعتزم تركيا إقامة منطقة أمنية عازلة([lv]).
وعلى الصعيد الدولي، انتقدت الحكومة الفرنسية مشروع تركيا إقامة منطقة أمنية على الحدود مع العراق، وقال متحدث بإسم الخارجية الفرنسية (جاك روملهارت): "موقفنا يعتمد على احترام القرار (688) الذي يؤكد حرص المنظمة الدولية على سيادة العراق وسلامة أراضيه". وأضاف المتحدث: "أن هذا الأمر يسري فيما يسري في الوضع الراهن وفي أي ظرف"([lvi]). وختم المتحدث تصريحه بالقول: "أن فرنسا ترفض المشروع التركي وتؤكد حرص فرنسا على وحدة جمهورية العراق وسلامة أراضيها"، وقد جدد الرئيس الفرنسي جاك شيراك في وارشو أثناء مؤتمر صحفي عقده مع نظيره البولندي الكسندر كوازييبسكي حرص فرنسا على وحدة أراضي العراق([lvii]).
واعتبرت روسيا أن المشروع التركي يخرق سيادة العراق ويساهم في زعزعة الوضع الإقليمي في المنطقة. ونقلت وكالة انترفاكس بياناً لوزارة الخارجية الروسية جاء فيه: "مهما يكن هدف هذا المشروع فإنه يمثل انتهاكاً خطيراً لسلامة أراضي دولة تتمتع بالسيادة"، وأكد البيان أن السبيل الوحيد لعودة الأمور إلى نصابها في شمالي العراق هو الحوار السياسي بين الأطراف الكردية والسلطة المركزية([lviii]). ودعت وزارة الخارجية الروسية، الحكومة التركية إلى الامتناع عن هذه الإجراءات التي من شأنها أن تشكل خطراً ليس على وحدة وسلامة الأراضي العراقية حسب، وإنما على بلدان المنطقة الأخرى([lix]).
وأعلنت إيطاليا عن رفضها للمشروع التركي وقال (امبرتو ديني) رئيس الوزراء الايطالي أمام جلسة البرلمان أن ايطاليا ترى في أن المشروع التركي يتعارض مع سياسة الحفاظ على حدود العراق وسيادته الإقليمية([lx]).
واستنكرت اليونان الإجراء التركي أنه مخالف للقوانين الدولية، وصرّح المتحدث باسم الحكومة (ديمتريس كونستاس) أن تدخل تركيا في الأراضي العراقية يشكل انتهاكاً لوحدة أراضي بلد ثالث يساهم في زعزعة الاستقرار في المنطقة([lxi]). وانتقد وزير الخارجية اليوناني (ثيدوروس بانغالوس) تساهل الولايات المتحدة التي تؤكد أنها هاجمت العراق لاضطهاده الأكراد، في حين لاتحرك ساكناً أمام المجازر التي ترتكبها تركيا، وأكد أن تركيا استفادت في الأزمة الحالية لتطبيق خططها في شمالي العراق([lxii]).
أما المجموعة الأوربية فقد أكدت تمسكها بوحدة وسلامة الأراضي العراقية، وقال الناطق الرسمي بإسم وزارة الخارجية الفرنسي (جاك رميلار) في تصريح خاص لمراسل وكالة الأنباء العراقية في باريس:
"أن فرنسا ومثلها دول المجموعة الأوربية وبموجب ميثاق الأمم المتحدة متمسكة بوحدة وسلامة واستقلال الأراضي العراقية"([lxiii]). وقال
(ايف جازو) رئيس بعثة المجموعة الأوربية في عمان: "أن الإتحاد الأوربي يرفض التدخل في شؤون العراق"([lxiv]). وأعلن وزير الخارجية الايرلندي
(ديك سبرينغ) بإسم الاتحاد الأوربي مجتمعاً تمسك الاتحاد بوحدة الأراضي العراقية. وقال: "سنشعر بقلق أكيد في حال تدخل تركيا في شمالي العراق"([lxv]).
ويظل الموقف الأميركي والموقف البريطاني والموقف الإيراني، فبالنسبة للموقف الأميركي فإن الدلائل قد أشارت آنذاك إلى أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لتركيا لإقامة أمنية على الحدود مع العراق بعد أن تلقت تأكيدات من أنقرة بأن هذا الإجراء سيكون مؤقتاً([lxvi]). وأكد وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر ذلك حين قال في محاضرة ألقاها في لندن: "أن الولايات المتحدة الأميركية ستدرس اقتراحاً تركياً لإنشاء منطقة أمنية في شمال العراق"، وأضاف: "أنه يتفهم الأسباب التي تدفع تركيا لذلك". وقال: "أنه حصل على ضمان بأن المنطقة ستكون مؤقتة، وان القوات التركية لا ترابط فيها"([lxvii]). وقد أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن السفير الأميركي في تركيا (مارك غروسمان) سيلتقي مسؤولين حكوميين أتراك بعد الطلب الذي قدمته وزير الخارجية جيلر لوزير الخارجية الأميركي كريستوفر. وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية (غلين ديفيـز) أن الوفـد الأميركي سوف يتطرق إلى مسألة المنطقة الأمنية التي تعتزم أنقرة إقامتها على الحدود مع العراق لتفادي حصول هجمات من قبل المتمردين الأكراد([lxviii]). كما أعلن البيت الأبيض تأييده للمشروع التركي في إقامة منطقة أمنية في شمالي العراق شريطة أن تكون العملية محدودة في حجمها ومدتها، وقال المتحدث باسم البيت الأبيض (مايكل ماكاري): "اننا نعترف بأنهم (الأتراك) يواجهون خطر نشاطات إرهابيين متمركزين في العراق (في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني)". وأضاف: "قلنا لهم أن كل التدابير التي يمكن أن يتخذوها يجب أن تكون محدودة في حجمها ومدتها". ورداًٍ على سؤال حول ماإذا كانت واشنطن تلقت أي معلومات حول المدة التي قد تستغرق عملية تركية محتملة في الأراضي العراقية، اكتفى (ماكاري) بالقول: "أن الولايات المتحدة أجرت نقاشات مع الحكومة التركية في هذا الشأن من دون أن يعطي أية ايضاحات"([lxix]).
أما بريطانيا، فقد طلبت من تركيا إيضاحات حول المشروع، ويبدو أن هناك تباين بين موقف الحكومة البريطانية وموقف المعارضة([lxx]). وفي اجتماع وزراء خارجية دول الإتحاد الأوربي في تيرالي بايرلندا، أظهر الاجتماع الاختلافات في وجهات النظر بين الدول الأعضاء بشأن قرار تركيا. إذ بدت بريطانيا أكثر تفهماً من شركائها حيال أنقرة. وقال وزير الخارجية البريطاني آنذاك (مالكوم ريفكند): "لاحكومة حقيقية في شمالي العراق، ونحن نفهم تالياً لماذا قد تقلق تركيا، إذا كان ثمة خطر تسلل عدد كبير من الأشخاص عبر هذه الحدود. وأضاف يقول: نعترف بأن الوضع في شمالي العراق هو إلى حد بعيد غير ثابت"([lxxi]).
أدانت إيران المشروع التركي لإقامة منطقة عازلة، وقال علي أكبر ولاياتي وزير الخارجية التركية آنذاك لمراسل هيئة الإذاعة البريطانية في طهران أنه أبلغ الزعماء الأتراك أن إيران تعارض أي تدخل في العراق.. وان إنشاء المنطقة الأمنية لايساعدها على حل مشاكلها مع الأكراد([lxxii]). إلاّ أن وزارة الخارجية الإيرانية قالت في بيان لها: "أن الحل الوحيد لمشكلة شمال العراق والفراغ الأمني يتم من خلال احياء اجتماعات اللجنة الثلاثية التي تضم إيران وتركيا وسوريا"([lxxiii]). وأصدر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بياناً جاء فيه أن المشروع التركي يتعارض مع القرارات التي صدرت عن اجتماع الدول الثلاث: إيران، وسوريا، وتركيا حول سيادة العراق ووحدة سلامته الإقليمية. وختم البيان بالإشارة إلى أن إيران (تميز بين سيادة النظام وسيادة العراق)([lxxiv]). أما هاشمي رفسنجاني رئيس الجمهورية الإيرانية الإسلامية فقال: "أن إيران تعارض إقامة كيان كردي مستقل في شمالي العراق"، وقال: "أن الولايات المتحدة تريد من وراء مشاريعها إيذاء العراق"([lxxv]).
ومع أن الأردن لم يعلق رسمياً حتى يوم 7 أيلول 1996 على خطة تركيا بإقامة منطقة أمنية عازلة شمالي العراق، إلاّ أن عبدالكريم الكباريتي رئيس الوزراء الأردني آنذاك أكد حرص بلاده على استمرار التشاور مع تركيا في كل ماله علاقة بالاستقلال في المنطقة وشعوبها([lxxvi]). وقد امتنعت الأردن عن إعلان موقفها بشكل واضح تجاه المخطط التركي. ولكن نواب المعارضة الذين يهيمنون على ربع المجلس النيابي طالبوا الكباريتي باتخاذ موقف واضح إلى جانب العراق، وشجب المشروع التركي.

الموقف الشعبي العربي
عقد مؤتمر صحفي حضره معظم نواب المعارضة الإسلامية واليسارية في الأردن (23 من 80 عضواً في المجلس)، قال النائب المستقل طلال عبيدات: "نطالب الحكومة بموقف واضح في بيان شجب التدخل الأميركي والمشروع التركي". وشنت جريدة (الدستور) الأردنية هجوماً عنيفاً على المشروع، ورأت فيه امعاناً في انتهاك سيادة العراق ووحدة أراضيه. وقال حمزة منصور الناطق باسم كتلة نواب جبهة العمل الإسلامي (16 نائباً): "أن المعارضة اقترحت على مجلس الأمة، تشكيل وفد نيابي لزيارة تركيا من أجل تبصير البرلمان هناك بخطورة التحركات التركية الرامية إلى إقامة الحزام الأمني المقترح([lxxvii]).
وفي يوم السبت 7 أيلول 1996 شنت صحيفة (الدستور) الأردنية هجوماً على المشروع التركي وقالت في افتتاحيتها أنه لايمكن تبرير الخطة التركية المعلنة لاحتلال جزء من الأراضي العراقية في الشمال لإقامة منطقة أمنية. وبعد أن ربطت الصحيفة بين المشروع التركي والمنطقة التي تحتلها إسرائيل جنوبي لبنان رأت: "أن أخطر ماتمثله الخطة التركية هو انخراطها العملي في مخطط تقسيم العراق وتقطيع أجزائه تحت ذرائع شتى ومبررات الحفاظ على الأمن". وتابعت: "إن أمن تركيا لايتحقق مع بقاء حالة الصراع...، بل وجود عراق موحد". وحذرت (الدستور) من أنه محاولة لاحتلال أي جزء من الأراضي العراقية أو العربية يشكل انتهاكاً للأمـن القومي العربي وإسـاءة لعلاقات حسن الجوار"([lxxviii]).
ونددت صحيفة (البيان) التي تصدر في دبي بالامارات العربية المتحدة: "بموافقة واشنطن على خطة تركية تقضي باقتطاع أجزاء من الأراضي العراقية لإقامة منطقة عازلة تزعم أنقرة أنها ستكون آمنة هي بحاجة إليها"([lxxix]).
وفي قطر أدانت صحيفة (الراية) بشدة مشروع تركيا إقامة منطقة عازلة شمالي العراق بمباركة واشنطن في إطار خطة تهدف إلى تجزئة العراق. وأكدت الصحيفة في مقال افتتاحي: "لايمكننا أن نقبل هذا المشروع أو نلتزم الصمت إزاء هذه المؤامرة التي تشكل انتهاكاً لسيادة دولة عربية"([lxxx]). وشجبت صحيفة (الوطن) القطرية غياب استراتيجية عربية مشتركة حيال التطورات على الساحة العربية([lxxxi]).
أما صحيفة (الاتحاد) الإماراتية فقد حذرت من محاولات تقسيم العراق ونددت في افتتاحيتها بالمشروع التركي([lxxxii]).
واستنكرت الصحف السورية المشروع التركي، وقال: "أنه من غير المستبعد أبداً أن يفتح الموقف التركي الجديد شهية آخرين على اتخاذ إجراءات مماثلة للموقف التركي، هذا الذي يعتبر بدون أي جدال تدخلاً سافراً في شؤون العراق الداخلية إن لم نقل أنه اعتداء يستحيل تبريره تحت أية ذريعة". وأضافت: "أن تركيا باحتلالها لجزء من أراضي العراق تكون قد فعلت مافعلته إسرائيل عندما احتلت ماتسميه بالمنطقة العازلة في جنوبي لبنان. وأكدت أن إصرار تركيا على هذا الموقف ستكون له، لاشك، آثار سلبية جداً على العلاقات التركية- العربية، وسيضطر العرب إلى اتخاذ الموقف المفترض للحفاظ على حقوقهم"([lxxxiii]). وأجمعت الصحف السورية في تعليقاتها يوم 13 أيلول على أن تركيا تستغل السياسة الأميركية في المنطقة لإقامة (منطقة معزولة) داخل الأراضي العراقية، وحثت العرب إلى اتخاذ موقف يحمي مصالحهم المشروعة([lxxxiv]).
واستنكر (نورالدين بو شكوج) الأمين العام للإتحاد البرلماني كل المحاولات التي تستهدف سيادة العراق ووحدته وسلامته الإقليمية([lxxxv]). وأعربت الدول المشاركة في المؤتمر الخامس لوزراء الإعلام والثقافة في منظمة عدم الانحياز المنعقد في أبوجا عن دعمها للشعب العراقي([lxxxvi]).
وفي داخل تركيا، أعلنت الأحزاب المعارضة وحزب الرفاه ونوابه في المجلس الوطني الكبير (البرلمان) رفضها لفكرة إنشاء مايسمى بـ
(الشريط الحدودي الآمن داخل الأراضي العراقية) وشككت هذه الأحزاب بأن يكون لهذا الشريط تأثير على الأمن الحدودي لتركيا([lxxxvii]). ونقلت صحيفة (توركش ديلي نيوز) عن نائب رئيس البرلمان التركي ياسين خطيب اوغلو: "أنه يجب دراسة الموضوع قبل أن تتخذ تركيا أية خطوة بشأنه، لأن ذلك قد يؤدي إلى تدمير العلاقات مع العراق، وأنه من الأفضل حل ذلك بالحوار بين البلدين"([lxxxviii]).
وقال النائب البرلماني عن حزب الرفاه (إبراهيم خليل جليك) أنه ضد إنشاء مثل هذا الشريط الأمني لأنه سيكون تدخلاً في الشؤون الداخلية لدولة جارة، ويجب أن لانخضع للولايات المتحدة، لأننا نتمكن من تأمين حدودنا داخل أراضينا، وسيكون من الصعب تأمين هذه الحدود. وذكر عضو المجلس المركزي لحزب الوطن الأم (وهبي دنجر) أنه قلق من السيناريو الذي يطرح الآن، لأن مثل هذا سبق له أن طرح خلال حرب الخليج الثانية سنة 1991([lxxxix]).


ردود الفعل التركية الرسمية
عندما شعرت الحكومة التركية أن قرارها بإنشاء منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي العراقية قد أثار موجة احتجاج واسعة النطاق، أخذت تبذل جهوداً كبيرة من أجل التهدئة وتلطيف الأجواء. فقد قال الرئيس التركي سليمان ديميريل للرئيس المصري حسني مبارك في مكالمة هاتفية: "ان تركيا لاتنوي نشر قوات داخل العراق"، وقال:
"ان تحركات هذه القوات داخل أراضيها ولتأمين حدودها"([xc]). وأكدت جيلر لوزير الخارجية المصري في مكالمة هاتفية: "إن إرسال قوات تركية ليست ذات أولوية، فالأولوية هي منع تسلل عناصر حزب العمال". ونف
ى سليمان ديميريل أن تكون القوات التركية قد احتلت أراضٍ عراقية. كما نفت جيلر الأنباء عن عزم بلادها احتلال أجزاء من العراق، وقالت: "ان بلادها متمسكة بوحدة أراضي العراق". وقالت: "يجب أن لايصدق أن تركيا تستعد لاحتلال شمال العراق"، وأضافت: "ان تركيا هي الدولة التي تعلق أهمية كبرى على وحدة الأراضي العراقية". وتابعت:
"لكننا نواجه حقيقة أخرى وهي أن المواجهات
(بين الأكراد) في شمالي العراق أسهمت في تنشيط (حزب العمال)... هناك فراغ في السلطة في المنطقة، ونحن عازمون على اتخـاذ جميع الإجراءات اللازمة لمنع
(حزب العمال) من قتل مواطنينا الأبرياء". وأوضحت جيلر: " أن قرار تركيا إقامة منطقة أمنية في شمالي العراق يجب أن لايعتبر بأي شكل من الأشكال عدواناً على العراق. وأكدت بأن تركيا تجري اتصالات دائمة مع العراق والدول العربية والولايات المتحدة و (السلطات المحلية في شمالي العراق)، وقالت جيلر: "أنه سيتم في الأيام المقبلة دعوة ممثلي الدول العربية المعتمدين في أنقرة إلى وزارة الخارجية لتوضيح الأسباب التي تدفع بتركيا إلى إقامة هذه المنطقة الأمنية"([xci]).
وفي يوم 23 أيلول، جددت جيلر: تأكيد نية أنقرة في إقامة المنطقة الأمنية في المنطقة الكردية القريبة من الحدود الدولية([xcii]). وقالت جيلر، قبل اجتماعها مع وارن كريستوفر وزير الخارجية الأميركي، في نيويورك "لسنا مستعدين لإلغاء المنطقة الأمنية لأننا نخشى تدفق النازحين و (الناشطين المسلحين) من حزب العمال الكردستاني بالقرب من
حدودنا"([xciii]). وذكر مصدر جدير بالثقة في ديار بكر أن الجيش التركي أنهى تحضيراته لإنشاء المنطقة الأمنية، وأضاف: " أن أي تحرك
مهم للقوات التركية لم يُلحظ حتى الآن، وأن أي تحليق للطيران التركي لم يشاهد حتى الظهر من يوم الأحد الثاني من أيلول، من قاعدة ديار بكر باتجاه العراق. وقد أكد الهدوء في المنطقة مصور وكالة الصحافة الفرنسية الموجود في قصبة زاخو"([xciv]).
أما وكالة الأنباء الأردنية (بترا) فنقلت خبراً يقول أن عبدالكريم الكباريتي رئيس الوزراء الأردني تلقى الخميس 12 أيلول رسالة من الحكومة التركية تؤكد أن هدف المنطقة الأمنية التي تخطط أنقرة لإقامتها في شمالي العراق هو الحفاظ على أمن تركيا. وقالت أن السفير التركي في عمان (أحمد عمر) سلّم الرسالة للكباريتي وجاء في الرسالة: "أن الإجراءات الأمنية التركية تستهدف الحفاظ على أمن تركيا، ولن تكون بأي حال من الأحوال انتهاكاً لسيادة العراق". وأضافت الرسالة بحسب الوكالة: "لن يكون هناك أي احتلال عسكري أو وجود لقواعد عسكرية تركية داخل الأراضي العراقية، وأن الهدف من إقامة المنطقة هو التنسيق من أجل أن لاتستخدم الأراضي العراقية منطلقاً للهجمات ضد تركيا وذلك إشارة إلى عمليات متمردي حزب العمال"([xcv]). 

خلاصات ونتائج
عقد الوفد العراقي برئاسة حامد يوسف حمادي المستشار الأسبق في رئاسة الجمهورية محادثات مع المسؤولين الأتراك، وصفت بأنها جادة ومطولة استغرقت الجولة الأولى فقط أربعة ساعات، وذلك في وزارة الخارجية وحضرت الجلسة جيلر نائبة رئيس الوزراء ووزير الخارجية. كما توجه الوفد لمقابلة  نجم الدين اربكان رئيس الوزراء. وقد صرحت جيلر بعد المباحثات: "أن تركيا شرحت السبب الذي حدا بها إلى طرح مشروعها، وأنها تريد فرصة أكبر لشرحه. وقد علّق مراسل راديو لندن في أنقرة: أن الوضع في الأرض مائع، وقد تساعد الأحداث في إعادة التكامل التدريجي بين الشمال والمركز، بما يُنهي فراغ السلطة التي تقول تركيا أنه السبب الذي يدفعها إلى إقامة الحزام الأمني"([xcvi]).
وقد أنهى الوفد العراقي زيارته لتركيا التي استغرقت ثلاثة أيام أكد أثناءها للسلطات التركية، رفض العراق القاطع لخطة تركيا، وقال حامد يوسف حمادي خلال مؤتمر صحفي عقده في مطار أنقرة: "أكدنا للسلطات رفضنا الكامل لخطة المنطقة الأمنية لأن هذه المنطقة هي خرق لسيادة العراق، فضلاً عن أنها لن تستطيع إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني هناك". وسئل حمادي عما ستفعله بغداد في حالة إقدام تركيا على إقامة المنطقة الأمنية اكتفى بالقول: "سنتخذ الإجراءات اللازمة". ورداً على سؤال عن قيام تعاون محتمل بين العراق وتركيا لطرد حزب العمال من المنطقة، أجاب: "لاأستطيع إعطاء أي ضمان، لكننا نناقش بعض الصيغ". وقال أن المشروع التركي لقي تنديداً من الأقطار العربية والصين وروسيا وفرنسا والكثير من الدول الأخرى.. وحدهما إسرائيل والولايات المتحدة قد أيدتاه وتابع: لقد تفهمتنا تركيا ونحن نتفهمها في بعض المواضيع" ولم يعطِ إيضاحات في هذا الخصوص([xcvii]). كما أدلى حامد يوسف حمادي بتصريح للتلفزيون العراقي جاء فيه: "نأمل الوصول إلى صيغة مقبولة للطرفين قريباً، لاتؤدي إطلاقاً إلى خرق سيادة العراق على أراضيه". وشكك في جدوى عملية (بروفايد كومفورت) الأميركية في تركيا، ودعا تركيا إلى إنهائها فوراً وأضاف: "أكدنا أن الأكراد في شمال العراق تحميهم حكومتهم الشرعية في بغداد ولا يرغبون بحماية أحد غير جمهورية العراق". وتابع حمادي يقول: "أن الجانب التركي أكد خلال المحادثات، أنه يعمل بنشاط للحصول على موافقة الأمم المتحدة تنشيط التجارة مع العراق" مشدداً على أن تركيا تخسر خمسة مليارات دولار سنوياً بسبب الحظر على العراق([xcviii]).
أعرب وزير الخارجية العراقي محمد سعيد الصحاف الأحد الخامس عشر من أيلول عن ارتياحه لموقف الأقطار العربية التي أكدت إدانتها للخطة التركية، وقال في القاهرة حيث كان يحضر اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية: "أن الدول العربية عبّرت عن فهم مشترك للأمن القومي العربي، وبأن مايهدد العراق من مخاطر يمكن أن ينعكس على كل الوطن العربي"([xcix]).
بدأ الموقف التركي يتغير من مشروع المنطقة الأمنية، فأكدت جيلر أن المشروع لايشكل أولوية، وقالت: "لقد أرسلنا وفداً إلى بغداد لنقول أننا موافقـون إذا كان ممكناً فرض السلطة المركزية هناك أي في شمالي العراق. وأضافت أننا نؤيد سيادة أراضي العراق ووحدتها"([c]). أما
نجم الدين اربكان فقال أن تسمية المشروع غير مهمة، فالمهم هو وجود
(إرهابيين) في شمالي العراق يوقعون ثلاثة قتلى يومياً في المتوسط في صفوف الجيش خلال هجمات في المنطقة([ci]).
وأكد السيد مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الجمعة 20 أيلول: "أن تركيا تخلت عن مشروعها إقامة منطقة أمنية في شمالي العراق. وقال في مؤتمر صحفي عقده في صلاح الدين بمحافظة أربيل بعد عودته من أنقرة أن وزيرة الخارجية تانسو جيلر التي التقاها أثناء زيارته إلى أنقرة أبلغته تخلي تركيا عن مشروع المنطقة الأمنية الذي أثار ردود فعل حادة في العراق والوطن العربي([cii]). ونقلت إذاعة مونت كارلو عن مسؤولين قولهم: "أن تراجع تركيا عن إقامة منطقة عازلة لايعني الغاؤه، وإنما تأجيله نتيجة الضغط الدولي والإقليمي على تركيا"([ciii]). وأذاع راديو صوت العرب (المصري) تعليقاً صباح يوم الرابع عشر من أيلول جاء فيه: "أن جهود مصر كان لها دور كبير في تجميد تركيا لمشروعها وتأجيله في الوقت الحاضر"([civ]). وفي صنعاء أكد الرئيس اليمني الفريق علي عبدالله صالح أنه: "تابع مواقف الحكومة التركية واطلع على تصريحات رئيس الوزراء نجم الدين اربكان ووزيرة الخارجية تانسو جيلر الخاصة بتراجعهما عن إقامة المنطقة الأمنية، وأنا اعتبر ذلكم موقفاً جيداً، أما إذا استمرا فسنعتبره تدخلاً في شؤون العراق وستتأثر العلاقات العربية- التركية وموقف كهذا لم نكن ننتظره أن يأتي من دولة إسلامية كبرى"([cv]).
وهكذا نرى أن فكرة إقامة منطقة أمنية تركية في الأراضي العراقية قد تعثرت، مما دفع بتركيا إلى البحث عن صيغة جديدة لحماية حدودها مع العراق منعاً لتسلل المتمردين الأكراد من عناصر حزب العمال الكردستاني. وبات معظم المراقبين في أنقرة يستبعدون إقامة منطقة من هذا النوع من خلال نشر قوات تركية بصورة دائمة في شمالي العراق([cvi]).
وقال دبلوماسي غربي: "أعتقد أنهم، أي الأتراك، ما لبثوا إزاء ردود الفعل السلبية على الفكرة أن تراجعوا عنها"، وتابع يقول: "أضف إلى ذلك أن الأحداث تسارعت منذ ذلك الحين وأن بغداد استعادت الآن عملياً السيطرة على الشمال عن طريق حليفها الحزب الديمقراطي الكردستاني وبات ينبغي الآن أخذه في الحسبان"، وختم الدبلوماسي الغربي تحليله بالقول: "أن الأتراك أصبحوا الآن مقتنعون بأنه لايمكنهم نشر عناصر في شكل دائم في الأراضي العراقية من دون إثارة عداء العراق. وهذه هي النقطة الرئيسة، إذ أن من مصلحتهم التفاهم مع هذا الجار خصوصاً من وجهة النظر الاقتصادية مستقبلاً" ([cvii]).
وعدّ مراقبون عديدون أن أنقرة يمكن أن تكتفي بالوضع القائم حالياً مع قيام جيشها بعملية توغل بين الحين والآخر إلى شمالي العراق بضرب متمردي حزب العمال. وذهب أحد المعلقين في (صحيفة ميليت التركية) إلى أن الجيش التركي ربما شن عملية تطهير ضد قواعد حزب العمال في شمالي العراق قبيل الشتاء من دون أن يتمركز فيه لفترة طويلة. لكن بات على أنقرة الآن قبل التفكير في عملية من هذا النوع أن تحصل على الضوء الأخضر من بغداد، وختم المعلق تحليله بالقول: ومن المحتمل أن يكون توقيع اتفاق جديد مماثل للاتفاق الأمني الحدودي بين العراق وتركيا والذي ظلّ سارياً بين 1984 و 1988، هو الحل المقبول الذي تحدث عنه حامد يوسف حمادي أحد مستشاري رئيس جمهورية العراق في أعقاب زيارته إلى تركيا([cviii]).
أشار أحد المراقبين أن فكرة المنطقة الأمنية العازلة التي أرادت تركيا إقامتها داخل الحدود العراقية، جاءت بعد زيارات قام بها عدد من الخبراء العسكريين ورجال من المخابرات الإسرائيلية (الموساد) لتركيا، وقد نصح هؤلاء الأتراك بضرورة الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في إقامة حاجز أمني مشابه للحاجز الأمني الذي أقاموه في جنوبي لبنان.. وقد رحبت الولايات المتحدة الأميركية بالفكرة بعد الاطلاع عليها، وقد عارض العراق الفكرة معارضة شديدة ووضح موقفهُ الصريح منها حين رفضها رفضاً تاماً، وذلك باعتبارها تشكل انتهاكاً لسيادة العراق، وتدخلاً سافراً في شؤونه الداخلية، وهذا يتعارض مع القوانين والأعراف الدولية، فضلاً عن أنه يترك آثاراً سلبية على مستقبل العلاقات العراقية- التركية([cix]).
ولقد أدركت الأقطار العربية خطورة مثل هذه الفكرة على الأمن القومي العربي، لذلك أعربت عن مقاومتها لهذه الفكرة لما لها من انعكاسات سلبية على العلاقات العربية- التركية: ولئن أصبحت تركيا متأثرة السلطة في شمالي العراق، فإن تلك الحالة كانت نتيجة مافرض على العراق وبضغط أميركي- بريطاني في حينه([cx]).
أكـد العراق رفضه للتدخلات التركية والإيرانية في الجزء الشمالي وأعرب عن استعداده لفتح الحوار مع التيارات الكردية تمهيداً للصول إلى حل لكل المشاكل المعلقة، لكن الأهم من ذلك هو امتناع تركيا وإيران عن التدخل في المنطقة، والعمل على إنهاء الوجود العسكري الأجنبي والمتمثل بعملية بروفايد كومفورت المعروفة بـ (توفير الراحة) للأكراد، والطلب من الأميركان والبريطانيين حزم حقائبهم في انجرليك ومغادرتها.. وفوق ذلك يمكن القول أن الوصول إلى صيغة مقبولة مشابهة للاتفاقية الأمنية التي عقدت بين العراق وتركيا في سنة 1984، هو الحل الذي يمكن أن يرضي الطرفين وبما لايترك آثاراً سلبية على الأمن الوطني والأمن القومي للعراق وتركيا([cxi]).
ويبدو أن تركيا، وبعد أن شعرت بحجم المقاومة التي أبداها العراق ومن ورائه الأقطار العربية لفكرة المنطقة الأمنية، وتوصلت إلى نتيجة مهمة وهي إعلان تانسو جيلر في قولها: "أن تركيا لاتمانع من قيام العراق ببسط نفوذه في المنطقة الشمالية شريطة ضمان عدم انطلاق
(عمليات إرهابية) من داخل حدوده باتجاه الأراضي التركية"([cxii]). وجيلر وان تراجعت عن هذا التصريح، إلاّ أن المؤشرات كافة دلت على أن ظروف الحكومة الجديدة في تركيا والتي هي عبارة عن ائتلاف بين حزبي الرفاه والطريق المستقيم لم تكن تسمح بإثارة الأقطار العربية والأقطار الإسلامية، خاصة وأنها قد وضعت في منهاجها الوزاري آنذاك هدفاً يقول بضرورة توطيد العلاقات مع الأقطار العربية والإسلامية لعوامل اقتصادية بالدرجة الأولى وفكرية- نفسية بالدرجة الثانية، لذلك أقدمت الحكومة التركية على تجميد فكرة المنطقة الأمنية العازلة وفتحت الباب أمام إعادة تفعيل علاقاتها الاقتصادية مع العراق وتشجيعه بشكل أو بآخر على إعادة السلطة المركزبة على كردستان وجاءت العمليات العسكرية، وقد جاءت عملية المتوكل على الله في آب 1996 لتفرض، كما يقول، الفرد هوليداي الخبير المتخصص بشؤون الشرق الأوسط والخليج العربي، واقعاً جديداً في المنطقة الشمالية ليس من السهولة تغييره([cxiii]) فأكراد العراق جربوا (دول الجوار) و (القوى الكبرى) فتأكدوا أن خيرهم وأمنهم وحقوقهم القومية ورفاههم الاجتماعي لن يتحقق إلاّ ضمن عراق واحد قوي وديمقراطي، وإذا كانت تركيا تريد التخلص من بؤر الاضطراب والتسلل في كردستان العراق، فإن ذلك لايتحقق بالتدخل العسكري المستمر، وإنما بالتعاون مع حكومة مركزية قوية في بغداد لإيجاد حلول واقعية للمشاكل القائمة، وثمة اتفاقات أمنية كانت سارية بين العراق وتركيا كان لها دورها الفاعل في تحقيق أمن واستقرار كلا البلدين وبالامكان الآن وفي المستقبل التوصل إلى صيغة جديدة تؤمن الحل السياسي والأمني المطلوب تحقيقه والذي فيه فائدة لمستقبل العلاقات العراقية- التركية([cxiv]).



التوصيات والمقترحات
يقترح الباحث مايلي:
1- دعوى تركيا لإحياء الاتفاقية الأمنية التي سبق لها أن عقدتها مع
العراق.
2- أن الحوار هو السبيل الأوحد للوصول إلى صيغ تحافظ على بقاء العراق حراً وموحداً .
3- دعوة تركيا لحل مشاكلها مع مواطنيها الأكراد والنظر في إمكانية منحهم حكماً ذاتياً كما فعل العراق.
4- دعوة تركيا إلى الكف عن التدخل في شؤون العراق بدعوى حماية التركمان.. فالتركمان هو مواطنون عراقيون لهم حقوقهم وامتيازاتهم التي ضمنها القانون العراقي.
5- دعوة تركيا إلى كبح النزعات الشوفينية والعنصرية التي تأخذ
بالظهور أحياناً، وتترك آثاراً سلبية على علاقات تركيا بالعراق
والعرب عموماً. 
6- وأخيراً دعوة تركيا إلى أن تنظر لمصالحها وتبتعد عن كل مايهدد أمن جيرانها وفي مقدمتهم العراق.


* منشور في دورية (أوراق تركية معاصرة) يصدرها مركز الدراسات التركية، جامعة الموصل، العدد (13)، شتاء 2000.كما انه نشر في كتاب :ابراهيم خليل العلاف ،نحن وتركيا ..بحوث ودراسات ،دار ابن الاثير للطباعة والنشر ، جامعة الموصل ، (الموصل ،2008 ) 



([i

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...