ذكريات (36)
زهيريات
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
كنت في السنة الرابعة من دراستي الجامعية حين بدأت حكاية الزهيريات . كنت متوقفاً عن كتابة الشعر كما كتبت في ذكرى سابقة ، ومثل باقي شباب محلتنا كنت أتردد على أحد مقاهي المحلة ، وألعب معهم الألعاب الشائعة يومئذ : دومنة ، طاولي ، كونكان ، وأظنها ما تزال تلعب حتى يومنا هذا وإن انحسرت إلى حد كبير .
مرة كنت ألعب الطاولي مع صديق ، وكان الحظ حليفي طوال الوقت ، فتحداني رجل كان يراقب اللعب ، فغلبته هو الآخر . كان هذا الرجل يعرف في المحلة باسم ( يوسف غزالة ) وكان من قراء المقامات في ( المواليد ) وغيرها . تضايق كثيراً من الخسارة ، وخاصة حين راح صديقي يعيّره بها ويسخر منه . فراح يبحث عن مجال آخر يتحداني فيه ، وفجأة قال لي بغيظ : أفلا يزعمون أنك شاعر ؟! فضحكت وقلت : بلى . قال : فهل تستطيع نظم الزهيريات ؟! فواصلت الضحك وقلت : أجل ، أستطيع نظم الزهيريات ، والأبوذيات إن شئت ! قال : إذن أرني شطارتك ! فقلت : أعطني القافية التي تريد وأنا آتيك بالزهيري ! فأعطاني القافية وانتحيت ركناً منعزلاً من المقهى ورحت أنظم .
كنت أعرف قواعد نظم الزهيري والأبوذية ، لأنني كنت من محبي المقامات العراقية والعارفين بها مثل كثير من الكرخيين . كما كنت أعرف قواعد نظم العتابة والميمر والدارمي . فلم يمض سوى نصف ساعة ، أو أكثر قليلاً حتى انتهيت :
ما أوحش الليلْ لو خيّمْ عليَّ وجنّ
وتلايمن كل همومي من وحشته وجنْ
بمحبتك يا نديمي تاه عكلي وجنْ
ما لذّ لي ويّه غيرك كطّ شرب الراح
لوما عشرتك أبد ما ضكت طعم الراح
ريت العمر ينكضي والراح فوك الراح
ونموت واحنه سوه والوجِنْ فوك الوجِن .
وعندئذ اعترف الرجل بالهزيمة وأقر لي بأنني شاعر ! ثم طلب مني أن أكتب له الزهيري ليحفظه ويغنيه ، وبعد مدة غناه في التلفزيون (على الشرقي رست) حينما ظهر ضيفاً في أحد برامج المقامات . ولكنه صار يطلب مني أن أنظم له المزيد ، وكلما نظمت له واحداً طلب آخر ، فهو يقول : إن المستمعين في المواليد وغيرها يفضلون من الزهيريات ما لم يسمعوه من قبل . وإذا بإعجابي بنفسي يغلبني فرحت أنظم الزهيريات والأبوذيات بطلب منه أو دون طلب . وهكذا اجتمع لي في كراس خاص ما يقارب الخمسين من الزهيريات وأكثر من عشر من الأبوذيات ، تصرف يوسف غزالة بكثير منها .
ثم مرت سنوات انتقلنا خلالها إلى محلة أخرى ، ونسيت الكراس وما فيه ، وإذ بأخي يوسف الصغير ، واسمه عبد الملك ، يزورني في مكان عملي ذات يوم ، ويسألني عن تلك الزهيريات . وحين سألته عن غايته منها ظهر لي أنه أصبح هو الآخر قاريء مقامات . ولما أعطيته الكراس بعد يومين أو ثلاثة أخذه ووعدني باستنساخه وإعادته ، ولكنه لم يفعل .
سمعته بعد سنوات يغني أحدها في التلفزيون ( على نغم المخالف ) ثم لم أسمعه بعدها ولم أره قط . أما أنا فلا أحفظ منها سوى أولها الذي تحديت به أخاه .
هي أيامٌ وأحوال !
ذكريات (37)
حكاية مراقب المنضدة
هذه الحكاية لا علاقة لها بالشعر والأدب ، ولكنها علامة من علامات سيرتي الذاتية .
كنت يومها في الصف الخامس الإبتدائي ، ومدرستي هي مدرسة الأماني الإبتدائية للبنين ، وكانت هذه المدرسة في كرخ بغداد ، قبالة تمثال ( محررنا العتيد الجنرال مود ) عند السفارة البريطانية . كانت بيتاً بغدادياً في الداخل ولكن واجهته بنيت على ما يعرف اليوم في تاريخ العمارة بـ ( الطراز الكولنيالي ) . والبيت ما يزال قائماً في مكانه حتى اليوم ، زال تمثال مود وهو لم يزل .
في بداية الفصل الثاني من العام الدراسي استدعاني مدير المدرسة الأستاذ عبد المنعم وكلفني بأن أكون مراقباً على لعبة كرة المنضدة ، أتولى الإشراف على اللعب ، وأكون الحكم بين اللاعبين إن هم تنازعوا ، وأتقاضى مبلغ ( عشرة فلوس ) عن كل لعبة مقدماً . ثم سلمني مضربين وشبكة وثلاث كرات عاجية . هذا كل شيء ، وهو كل ما تلقيته من تعليمات المدير .
أقبل التلاميذ على اللعبة إقبالاً كبيراً منذ اليوم الأول ، وصاروا يبكرون في الحضور إلى المدرسة ليلعبوا ، وكان اللعب يستمر بين الدرس والآخر ، وإذا بالدخل اليومي للعبة يبلغ المائة فلس أو أزيد قليلاً ، ولكن لا أحد طالبني به أو حاسبني عليه . أما أنا فكنت أجمع الوارد يوماً بعد يوم وأضعه في علبة من الصفيح ( قوطية ) كانت لدي في البيت .
بعد أقل من شهر تكسرت الكرات الثلاث فاشتريت غيرها من المبلغ المتجمع عندي ، ثم تكسر أحد المضارب فاشتريت مضربين جديدين من ( بايونير ) وهو مخزن كبير لبيع المستلزمات الرياضية يقع في شارع الرشيد ، غير بعيد عن ( أورزدي باك ) أول ( مول ) يؤسس في العراق ، ثم اشتريت مع المضربين شبكة جديدة دون أي شعور بالمجازفة .
فعلت كل هذا دون أن أخبر ، أو أستشير ، أحداً . ولكنني كنت أسجل ثمن ما أشتريه في كراس من كراريسي دون تاريخ ، لأنني لم أكن أعرف أيامئذ أهمية التاريخ في مثل هذه الأمور .
مرت الأيام والمبلغ المتجمع عندي يزداد حتى امتلأت علبة الصفيح بالدراهم ، وقربت نهاية العام الدراسي دون أن يسألني أحد عنه . حتى جاء يوم طلبت فيه من أمي أن تعطيني علبة صفيح كانت لديها لأحفظ فيها ما فاض عن الصفيحة الأولى من الدراهم . فسألتني عن سبب حاجتي إليها ، ولما حكيت لها القصة من أولها إلى آخرها ، استغربت ولامتني كثيراً ، واستنكرت تصرف المدير ، وقالت لي بغضب : عليك أن تسلم المبلغ من الغد !
كان ذلك اليوم يوم خميس ، وهو يوم يزورنا فيه خالي ( صالح ) ويبيت عندنا ، فحكت له أمي الحكاية من ألفها إلى يائها ، فاستغرب هو الآخر ، وطلب مني أن آتيه بالصفيحة وما فاض خارجها من الدراهم ، ثم عدّ المبلغ كله فإذا هو أكثر من ثمانية وعشرين ديناراً من دنانير ذلك الزمان المباركة .
كان اليوم التالي يوم جمعة فلم نستطع تسليم المبلغ ، ولأن خالي كان عسكرياً كان عليه أن يعود إلى وحدته في معسكر الرشيد ، ثم يحصل على إجازة ليصحبني إلى المدرسة عند تسليم المبلغ .
فوجيء المدير وضحك عندما سلمناه الصفيحة وما فاض عنها ، وتلقى بصبر كلمات اللوم التي كالها له خالي ، وقال : إنه عهد إلي بهذه المهمة لاطمئنانه إلى حسن سلوكي ، ولكنه نسي ما كلفني به فكان ما كان !
أذكر أن خالي قال للمدير : كيف تعهدون لصبي لا تزيد ( يوميته ) عن عشرة فلوس بمثل هذه المهمة وتتركونه يحتفظ بمثل هذا المبلغ دون حساب ؟ أليس في ما فعلتموه إغراء له بسوء التصرف ؟
في صباح الخميس التالي استدعاني المدير عند ( رفع العلم ) وراح يشيد بأمانتي وتفوقي في الدراسة أمام جموع التلاميذ ، وأنا منتفخ بفرحي ، وكانت هذه الإشادة هي جائزتي .
ذكريات (38)
في عالم الصحافة
ما أكثر ما تتحكم بنا المصادفات !
تخرجت في كلية الآداب عند نهاية العام الدراسي 1961 – 1962 ، وبعد تخرجي التحقت بكلية الضباط الإحتياط حسب القوانين الجارية يومئذ ، وكنت لا أدري أين سأعمل بعد إنهاء خدمة الإحتياط ، وكان هذا هاجساً يقلقني كثيراً ، ولكنني لم أفكر قط بأنني سأعمل في الصحافة .
حين وقعت حركة 8 شباط 1963 كنت ما أزال تلميذاً في تلك الكلية . كان اليوم يوم جمعة ، وبعد أسبوع كامل من ذلك اليوم حدث لي ما لم يكن في الحسبان . فقد ذهبت لتفقد صديق لي في محلة الدوريين الثانية ( الأرضروملي ) وإذ بسيارة متهالكة تقف فجأة بجانبي وقفة أفزعتني ، فالتفت لأوبخ السائق فإذا به المرحوم : كريم شنتاف ( أبو مها ) .
كنت أعرف أبا مها جيداً ، وكان يعرفني ، ففتح باب السيارة ودعاني إلى الصعود بجانبه . تلكأت في باديء الأمر ، ولكنه ألحّ فصعدت شبه مرغم . سألني : إلى أين أنت ذاهب ؟ قلت : أزور صديقاً لي . فعاد يسأل : أأنت على موعد معه ؟ قلت : لا . فقال : إذن ستذهب معي لنتناول فطورنا في أحد المطاعم . قلت : ولكننا في رمضان والمطاعم مغلقة . فقال : هناك مطاعم مجازة مفتوحة . ورغم أنني أخبرته بأنني تناولت فطوري قبل خروجي من البيت أصر على أن أرافقه ، فرضخت احتراماً له .
في الطريق إلى المطعم ، وهو بعيد ، راح يسألني : هل أنهيت دراستك ؟ وأين أنت الآن ؟ وماذا ستعمل بعد إنهاء خدمة الإحتياط ؟ وأسئلة أخرى تتصل بها . ثم قال لي : أنا أعرف مقدرتك في الكتابة فما رأيك في العمل الصحفي ؟ أنا الآن رئيس تحرير جريدة ( الجماهير ) وفي وسعي تعيينك محرراً فيها فوراً ، ثم أحل لك كل المشاكل التي تتعلق بخدمة الإحتياط !
ترددت في قبول هذا العرض كثيراَ ، ولكنه ظل يرغّبني فيه ويشرح لي كيف سيحل المشاكل المتعلقة بالتزاماتي القانونية تجاه خدمة الإحتياط حتى وافقت ، ففرح وكأنه عثر على كنز ثمين ، وما كان منه بعد خروجنا من المطعم إلا أن يذهب بي فوراً إلى الجريدة . كان المطعم في ساحة الجندي المجهول ( مطعم العش الذهبي ) وكان مقر الجريدة في الكرنتينة ( مطبعة الرابطة ) فظل طوال هذا الطريق يحدثني عن مزايا العمل الصحفي ويؤكد لي أنني لن أندم على قبول عرضه ، وأنا مشحون بالقلق والتردد .
حين وصلنا الجريدة قدمني لمدير التحرير ، وهو يومئذ الأستاذ طارق عزيز ، وقال له وهو يقدمني : خذ ، جئتك بمحرر من الطراز الأول ! فحدجني أبو زياد بنظرة فاحصة متسائلة من وراء نظارته ، ثم ابتسم ايتسامة فاترة ولم يقل شيئاً ، كأنه لم يصدق . ولكنه دعاني إلى الجلوس فجلست على كرسي غير بعيد عنه ، ولم يلبث أبو مها أن تركني معه وغادر الجريدة .
لم أكن أعرف أبا زياد ، ولم أره أو يرني من قبل ، فسألني عدة أسئلة حاول فيها أن يتعرف علي وعلى مدى أهليتي للعمل الصحفي ، فأجبته على أسئلته ، وأخيراً قال : هل تستطيع إعداد صفحة تعنى بشؤون العمال والعمل النقابي ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذن عليك أن تقدم لي مادة هذه الصفحة يوم الأربعاء القادم . وهنا أعدت عليه مشكلة دوامي في كلية الإحتياط فوعد هو الآخر بحلها . وعندئذ ودعته وخرجت .
بعد يومين استدعاني آمر فصيلي في كلية الإحتياط وأبلغني بأن آمر الكلية سمح لي بمغادرتها كل يوم بعد انتهاء ساعات التدريب بناء على طلب من جريدة الجماهير ، على أن أعود إليها قبل التعداد الليلي فامتثلت . وفي يوم 20 شباط 1963 صدر أمر تعييني محرراً في الجريدة بأجر شهري . وحين انتهت مدة التدريب في الكلية منحت رتبة ملازم احتياط ، ثم تم تسريحي من الجيش بهذه الرتبة ، لعدم الحاجة إلي !
كانت ثقة أبي زياد بكفاءتي الصحفية تزداد يوماً بعد يوم . فقد اكتشف أن قابلياتي تتعدى إعداد الصفحة العمالية ، إذ لمس فيّ القدرة على تصويب الأخطاء اللغوية ، وصياغة العنوانات المناسبة للموضوعات والأخبار والتقارير الصحفية ، فأصدر لي أمراً إدارياً بالإشراف على الصفحات الأسبوعية الخاصة إضافة إلى عملي . ولم يمض على ذلك سوى شهر أو أقل حتى كلفني بكتابة افتتاحية الجريدة ، فكتبت له الإفتتاحية ، وبعد أن قرأها أجازها دون أي تعديل ، وعند ذاك صدر لي أمر إداري جديد عينت فيه معاوناً لمدير التحرير . وكانت هذه مهمة ثقيلة . فقد صار عليّ أن أتابع تفاصيل العمل المتشعب في النهار والليل ، وأكتب افتتاحيات بعض الأيام ، وأشرف على غلق الصفحة الأولى كل يوم ، ولا أغادر مبنى الجريدة حتى يبدأ الطبع ، وأطلع على النسخة الأولى المطبوعة وإجازتها قبل أن يستمر طبع الكمية المقررة .
أذكر ممن عمل معنا يومئذ الأساتذة : بهجت شاكر ( المدير المفوض لدار الجماهير للصحافة ) وسجاد الغازي ، وعبد الله حياوي ، وحسن العلوي , وماجد الكحلة ، وثبات نايف ، والفلسطيني محمد عصفور ، والتونسي علي صميدة ، وكان من منتسبيها ثلاثة لبنانيين هم : الكاتبان إلياس عبود ، وصلاح كامل ، والمصمم جلال الترك . وكانت الجماهير أول جريدة عراقية عنيت بتصميم الصفحات ورسم ( الماكيتات ) . وكان الأستاذ غالب زنجيل ( وهو مسؤول الأرشيف يومئذ ) أول من تعلم التصميم الصحفي من العراقيين على يدي جلال الترك وصلاح كامل .
بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 انقطع عن الجريدة كل من رئيس التحرير ومدير التحرير . أما أنا فأرسل إلي المدير المفوض بهجت شاكر من يأتي بي من البيت ، ولما جئته طلب مني الإستمرار في العمل ريثما تنجلي الأمور ، ولكنه لم يهدني إلى سبيل ، وأنا يومئذ في الثالثة والعشرين من عمري .
بعد الإنقلاب بيومين زار الجريدة وزير الإرشاد في حكومة الإنقلاب ( عبد الكريم فرحان ) وطلب مني مواصلة إصدار الجريدة ، وكتابة الإفتتاحيات وإيصالها بنفسي إلى بيته في محلة ( راغبة خاتون ) ! غير أن الإفتتاحية التي كتبتها لم تعجبه ، لأنها لم تكن على مرامه ، فأصدر في اليوم التالي أمراً وزارياً بفصلي من العمل . وبذلك انطوت أول صفحة من صفحات حياتي الصفحية كان فيها أبو زياد معلمي الفذ . ولعل الوفاء يوجب علي أن أقول : إنني مدين لهذا الرجل بالكثير ، أقله بناء الأساس الصلد الذي قامت عليه خبرتي في عالم الصحافة .
ذكريات (39)
حق قانوني
كان ثمة نظام في الدولة يعرف بنظام الإستخدام ، وكان هذا النظام يطبق في ما كان يعرف بالدوائر شبه الرسمية ، وهو يختلف عن نظام التوظيف ، إذ ليس للمستخدم فيه أي امتياز سوى منحه راتب شهر واحد عند فصله من عمله . وقد ألغي هذا النظام في ما بعد ، في السبعينات على ما أذكر ، وصدر ما سمي بنظام الخدمة الموحد ، لما في نظام الإستخدام من إجحاف بحقوق المستخدم ، وتمييز كبير بينه وبين الموظف .
وقد كنت مستخدماً في جريدة الجماهير ، غير أنني لم أعرف هذا إلا بعد أن فصلني من عملي في الجريدة السيد عبد الكريم فرحان وزير الإرشاد في حكومة انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 . بل أنني لم أكن أعرف أنني أستحق راتب شهر واحد إلا بعد أن أخبرني أحد زملائي المفصولين . وهكذا سعيت بعد أكثر من شهر للحصول على هذا الراتب أسوة بغيري .
ذهبت إلى مقر الجريدة في الكرنتينة ، ولما سألت الحسابات عن الراتب ، قيل لي عليك أن تحصل على موافقة رئيس التحرير الجديد ، ولما سألت عمن يكون هذا الرجل ، قيل لي إنه الأستاذ فيصل حسون . كنت قد سمعت باسمه ، فهو صحفي مخضرم معروف ولكنني لم أره من قبل ، ولما هممت بالدخول عليه منعني الساعي الواقف عند باب مكتبه . ثم عدت فدخلت على حين غفلة من هذا الساعي ، ولأن الأستاذ حسون كان منهمكاً في قراءة شيء أمامه ، فوجيء بي ، واستغرب وجودي .
فقال لي بامتعاض : من أنت ، وماذا تريد ؟ فعرفته بنفسي وطلبت منه الموافقة على صرف راتبي وأريته الأمر الوزاري الصادر بفصلي ، ولكنه رفض إعطائي الموافقة دون مسوغ ، ودون أن يذكر لي أي سبب . فغضيت وقلت له بلهجة متوترة متهورة : أنا لم أجيء إلى هنا لأستجدي منك ، بل لأستوفي حقاً قانونياً من حقوقي ، فإن لم تعطني هذا الحق فسيكون لي معك شأن آخر ! فرد علي بغضب : أتهددني يا هذا ؟! فقلت له بالأسلوب نفسه : لك أن تفهم قولي كما تريد ، ولكنني جئت مطالباً بحقي فإن لم أنله حسب الأصول فكرت بطريقة أخرى لأخذه ! فنظر إلي ملياً ، وهو يحاول السيطرة على غضبه ، ثم كتب لي بغيظ ورقة بالموافقة ورماها إلي .
ربما لا يتذكر الأستاذ فيصل حسون هذه الحادثة ، فهي بالنسبة إليه حادثة يومية عابرة ، ولكنني أتذكرها جيداً لأنها ترتبط بواقعة مهمة من وقائع حياتي الخاصة ، واقعة زواجي من أم نوار ، فقد كانت بي حاجة ماسة إلى مبلغ الراتب لاستكمال بعض الترتيبات ، ولولا هذه الحاجة لما ذهبت لاستحصاله ، وما كنت سأخاطب الرجل بتلك اللهجة الفظة .
كنت يومها في الصف الخامس الإبتدائي ، ومدرستي هي مدرسة الأماني الإبتدائية للبنين ، وكانت هذه المدرسة في كرخ بغداد ، قبالة تمثال ( محررنا العتيد الجنرال مود ) عند السفارة البريطانية . كانت بيتاً بغدادياً في الداخل ولكن واجهته بنيت على ما يعرف اليوم في تاريخ العمارة بـ ( الطراز الكولنيالي ) . والبيت ما يزال قائماً في مكانه حتى اليوم ، زال تمثال مود وهو لم يزل .
في بداية الفصل الثاني من العام الدراسي استدعاني مدير المدرسة الأستاذ عبد المنعم وكلفني بأن أكون مراقباً على لعبة كرة المنضدة ، أتولى الإشراف على اللعب ، وأكون الحكم بين اللاعبين إن هم تنازعوا ، وأتقاضى مبلغ ( عشرة فلوس ) عن كل لعبة مقدماً . ثم سلمني مضربين وشبكة وثلاث كرات عاجية . هذا كل شيء ، وهو كل ما تلقيته من تعليمات المدير .
أقبل التلاميذ على اللعبة إقبالاً كبيراً منذ اليوم الأول ، وصاروا يبكرون في الحضور إلى المدرسة ليلعبوا ، وكان اللعب يستمر بين الدرس والآخر ، وإذا بالدخل اليومي للعبة يبلغ المائة فلس أو أزيد قليلاً ، ولكن لا أحد طالبني به أو حاسبني عليه . أما أنا فكنت أجمع الوارد يوماً بعد يوم وأضعه في علبة من الصفيح ( قوطية ) كانت لدي في البيت .
بعد أقل من شهر تكسرت الكرات الثلاث فاشتريت غيرها من المبلغ المتجمع عندي ، ثم تكسر أحد المضارب فاشتريت مضربين جديدين من ( بايونير ) وهو مخزن كبير لبيع المستلزمات الرياضية يقع في شارع الرشيد ، غير بعيد عن ( أورزدي باك ) أول ( مول ) يؤسس في العراق ، ثم اشتريت مع المضربين شبكة جديدة دون أي شعور بالمجازفة .
فعلت كل هذا دون أن أخبر ، أو أستشير ، أحداً . ولكنني كنت أسجل ثمن ما أشتريه في كراس من كراريسي دون تاريخ ، لأنني لم أكن أعرف أيامئذ أهمية التاريخ في مثل هذه الأمور .
مرت الأيام والمبلغ المتجمع عندي يزداد حتى امتلأت علبة الصفيح بالدراهم ، وقربت نهاية العام الدراسي دون أن يسألني أحد عنه . حتى جاء يوم طلبت فيه من أمي أن تعطيني علبة صفيح كانت لديها لأحفظ فيها ما فاض عن الصفيحة الأولى من الدراهم . فسألتني عن سبب حاجتي إليها ، ولما حكيت لها القصة من أولها إلى آخرها ، استغربت ولامتني كثيراً ، واستنكرت تصرف المدير ، وقالت لي بغضب : عليك أن تسلم المبلغ من الغد !
كان ذلك اليوم يوم خميس ، وهو يوم يزورنا فيه خالي ( صالح ) ويبيت عندنا ، فحكت له أمي الحكاية من ألفها إلى يائها ، فاستغرب هو الآخر ، وطلب مني أن آتيه بالصفيحة وما فاض خارجها من الدراهم ، ثم عدّ المبلغ كله فإذا هو أكثر من ثمانية وعشرين ديناراً من دنانير ذلك الزمان المباركة .
كان اليوم التالي يوم جمعة فلم نستطع تسليم المبلغ ، ولأن خالي كان عسكرياً كان عليه أن يعود إلى وحدته في معسكر الرشيد ، ثم يحصل على إجازة ليصحبني إلى المدرسة عند تسليم المبلغ .
فوجيء المدير وضحك عندما سلمناه الصفيحة وما فاض عنها ، وتلقى بصبر كلمات اللوم التي كالها له خالي ، وقال : إنه عهد إلي بهذه المهمة لاطمئنانه إلى حسن سلوكي ، ولكنه نسي ما كلفني به فكان ما كان !
أذكر أن خالي قال للمدير : كيف تعهدون لصبي لا تزيد ( يوميته ) عن عشرة فلوس بمثل هذه المهمة وتتركونه يحتفظ بمثل هذا المبلغ دون حساب ؟ أليس في ما فعلتموه إغراء له بسوء التصرف ؟
في صباح الخميس التالي استدعاني المدير عند ( رفع العلم ) وراح يشيد بأمانتي وتفوقي في الدراسة أمام جموع التلاميذ ، وأنا منتفخ بفرحي ، وكانت هذه الإشادة هي جائزتي .
ذكريات (38)
في عالم الصحافة
ما أكثر ما تتحكم بنا المصادفات !
تخرجت في كلية الآداب عند نهاية العام الدراسي 1961 – 1962 ، وبعد تخرجي التحقت بكلية الضباط الإحتياط حسب القوانين الجارية يومئذ ، وكنت لا أدري أين سأعمل بعد إنهاء خدمة الإحتياط ، وكان هذا هاجساً يقلقني كثيراً ، ولكنني لم أفكر قط بأنني سأعمل في الصحافة .
حين وقعت حركة 8 شباط 1963 كنت ما أزال تلميذاً في تلك الكلية . كان اليوم يوم جمعة ، وبعد أسبوع كامل من ذلك اليوم حدث لي ما لم يكن في الحسبان . فقد ذهبت لتفقد صديق لي في محلة الدوريين الثانية ( الأرضروملي ) وإذ بسيارة متهالكة تقف فجأة بجانبي وقفة أفزعتني ، فالتفت لأوبخ السائق فإذا به المرحوم : كريم شنتاف ( أبو مها ) .
كنت أعرف أبا مها جيداً ، وكان يعرفني ، ففتح باب السيارة ودعاني إلى الصعود بجانبه . تلكأت في باديء الأمر ، ولكنه ألحّ فصعدت شبه مرغم . سألني : إلى أين أنت ذاهب ؟ قلت : أزور صديقاً لي . فعاد يسأل : أأنت على موعد معه ؟ قلت : لا . فقال : إذن ستذهب معي لنتناول فطورنا في أحد المطاعم . قلت : ولكننا في رمضان والمطاعم مغلقة . فقال : هناك مطاعم مجازة مفتوحة . ورغم أنني أخبرته بأنني تناولت فطوري قبل خروجي من البيت أصر على أن أرافقه ، فرضخت احتراماً له .
في الطريق إلى المطعم ، وهو بعيد ، راح يسألني : هل أنهيت دراستك ؟ وأين أنت الآن ؟ وماذا ستعمل بعد إنهاء خدمة الإحتياط ؟ وأسئلة أخرى تتصل بها . ثم قال لي : أنا أعرف مقدرتك في الكتابة فما رأيك في العمل الصحفي ؟ أنا الآن رئيس تحرير جريدة ( الجماهير ) وفي وسعي تعيينك محرراً فيها فوراً ، ثم أحل لك كل المشاكل التي تتعلق بخدمة الإحتياط !
ترددت في قبول هذا العرض كثيراَ ، ولكنه ظل يرغّبني فيه ويشرح لي كيف سيحل المشاكل المتعلقة بالتزاماتي القانونية تجاه خدمة الإحتياط حتى وافقت ، ففرح وكأنه عثر على كنز ثمين ، وما كان منه بعد خروجنا من المطعم إلا أن يذهب بي فوراً إلى الجريدة . كان المطعم في ساحة الجندي المجهول ( مطعم العش الذهبي ) وكان مقر الجريدة في الكرنتينة ( مطبعة الرابطة ) فظل طوال هذا الطريق يحدثني عن مزايا العمل الصحفي ويؤكد لي أنني لن أندم على قبول عرضه ، وأنا مشحون بالقلق والتردد .
حين وصلنا الجريدة قدمني لمدير التحرير ، وهو يومئذ الأستاذ طارق عزيز ، وقال له وهو يقدمني : خذ ، جئتك بمحرر من الطراز الأول ! فحدجني أبو زياد بنظرة فاحصة متسائلة من وراء نظارته ، ثم ابتسم ايتسامة فاترة ولم يقل شيئاً ، كأنه لم يصدق . ولكنه دعاني إلى الجلوس فجلست على كرسي غير بعيد عنه ، ولم يلبث أبو مها أن تركني معه وغادر الجريدة .
لم أكن أعرف أبا زياد ، ولم أره أو يرني من قبل ، فسألني عدة أسئلة حاول فيها أن يتعرف علي وعلى مدى أهليتي للعمل الصحفي ، فأجبته على أسئلته ، وأخيراً قال : هل تستطيع إعداد صفحة تعنى بشؤون العمال والعمل النقابي ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذن عليك أن تقدم لي مادة هذه الصفحة يوم الأربعاء القادم . وهنا أعدت عليه مشكلة دوامي في كلية الإحتياط فوعد هو الآخر بحلها . وعندئذ ودعته وخرجت .
بعد يومين استدعاني آمر فصيلي في كلية الإحتياط وأبلغني بأن آمر الكلية سمح لي بمغادرتها كل يوم بعد انتهاء ساعات التدريب بناء على طلب من جريدة الجماهير ، على أن أعود إليها قبل التعداد الليلي فامتثلت . وفي يوم 20 شباط 1963 صدر أمر تعييني محرراً في الجريدة بأجر شهري . وحين انتهت مدة التدريب في الكلية منحت رتبة ملازم احتياط ، ثم تم تسريحي من الجيش بهذه الرتبة ، لعدم الحاجة إلي !
كانت ثقة أبي زياد بكفاءتي الصحفية تزداد يوماً بعد يوم . فقد اكتشف أن قابلياتي تتعدى إعداد الصفحة العمالية ، إذ لمس فيّ القدرة على تصويب الأخطاء اللغوية ، وصياغة العنوانات المناسبة للموضوعات والأخبار والتقارير الصحفية ، فأصدر لي أمراً إدارياً بالإشراف على الصفحات الأسبوعية الخاصة إضافة إلى عملي . ولم يمض على ذلك سوى شهر أو أقل حتى كلفني بكتابة افتتاحية الجريدة ، فكتبت له الإفتتاحية ، وبعد أن قرأها أجازها دون أي تعديل ، وعند ذاك صدر لي أمر إداري جديد عينت فيه معاوناً لمدير التحرير . وكانت هذه مهمة ثقيلة . فقد صار عليّ أن أتابع تفاصيل العمل المتشعب في النهار والليل ، وأكتب افتتاحيات بعض الأيام ، وأشرف على غلق الصفحة الأولى كل يوم ، ولا أغادر مبنى الجريدة حتى يبدأ الطبع ، وأطلع على النسخة الأولى المطبوعة وإجازتها قبل أن يستمر طبع الكمية المقررة .
أذكر ممن عمل معنا يومئذ الأساتذة : بهجت شاكر ( المدير المفوض لدار الجماهير للصحافة ) وسجاد الغازي ، وعبد الله حياوي ، وحسن العلوي , وماجد الكحلة ، وثبات نايف ، والفلسطيني محمد عصفور ، والتونسي علي صميدة ، وكان من منتسبيها ثلاثة لبنانيين هم : الكاتبان إلياس عبود ، وصلاح كامل ، والمصمم جلال الترك . وكانت الجماهير أول جريدة عراقية عنيت بتصميم الصفحات ورسم ( الماكيتات ) . وكان الأستاذ غالب زنجيل ( وهو مسؤول الأرشيف يومئذ ) أول من تعلم التصميم الصحفي من العراقيين على يدي جلال الترك وصلاح كامل .
بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 انقطع عن الجريدة كل من رئيس التحرير ومدير التحرير . أما أنا فأرسل إلي المدير المفوض بهجت شاكر من يأتي بي من البيت ، ولما جئته طلب مني الإستمرار في العمل ريثما تنجلي الأمور ، ولكنه لم يهدني إلى سبيل ، وأنا يومئذ في الثالثة والعشرين من عمري .
بعد الإنقلاب بيومين زار الجريدة وزير الإرشاد في حكومة الإنقلاب ( عبد الكريم فرحان ) وطلب مني مواصلة إصدار الجريدة ، وكتابة الإفتتاحيات وإيصالها بنفسي إلى بيته في محلة ( راغبة خاتون ) ! غير أن الإفتتاحية التي كتبتها لم تعجبه ، لأنها لم تكن على مرامه ، فأصدر في اليوم التالي أمراً وزارياً بفصلي من العمل . وبذلك انطوت أول صفحة من صفحات حياتي الصفحية كان فيها أبو زياد معلمي الفذ . ولعل الوفاء يوجب علي أن أقول : إنني مدين لهذا الرجل بالكثير ، أقله بناء الأساس الصلد الذي قامت عليه خبرتي في عالم الصحافة .
ذكريات (39)
حق قانوني
كان ثمة نظام في الدولة يعرف بنظام الإستخدام ، وكان هذا النظام يطبق في ما كان يعرف بالدوائر شبه الرسمية ، وهو يختلف عن نظام التوظيف ، إذ ليس للمستخدم فيه أي امتياز سوى منحه راتب شهر واحد عند فصله من عمله . وقد ألغي هذا النظام في ما بعد ، في السبعينات على ما أذكر ، وصدر ما سمي بنظام الخدمة الموحد ، لما في نظام الإستخدام من إجحاف بحقوق المستخدم ، وتمييز كبير بينه وبين الموظف .
وقد كنت مستخدماً في جريدة الجماهير ، غير أنني لم أعرف هذا إلا بعد أن فصلني من عملي في الجريدة السيد عبد الكريم فرحان وزير الإرشاد في حكومة انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 . بل أنني لم أكن أعرف أنني أستحق راتب شهر واحد إلا بعد أن أخبرني أحد زملائي المفصولين . وهكذا سعيت بعد أكثر من شهر للحصول على هذا الراتب أسوة بغيري .
ذهبت إلى مقر الجريدة في الكرنتينة ، ولما سألت الحسابات عن الراتب ، قيل لي عليك أن تحصل على موافقة رئيس التحرير الجديد ، ولما سألت عمن يكون هذا الرجل ، قيل لي إنه الأستاذ فيصل حسون . كنت قد سمعت باسمه ، فهو صحفي مخضرم معروف ولكنني لم أره من قبل ، ولما هممت بالدخول عليه منعني الساعي الواقف عند باب مكتبه . ثم عدت فدخلت على حين غفلة من هذا الساعي ، ولأن الأستاذ حسون كان منهمكاً في قراءة شيء أمامه ، فوجيء بي ، واستغرب وجودي .
فقال لي بامتعاض : من أنت ، وماذا تريد ؟ فعرفته بنفسي وطلبت منه الموافقة على صرف راتبي وأريته الأمر الوزاري الصادر بفصلي ، ولكنه رفض إعطائي الموافقة دون مسوغ ، ودون أن يذكر لي أي سبب . فغضيت وقلت له بلهجة متوترة متهورة : أنا لم أجيء إلى هنا لأستجدي منك ، بل لأستوفي حقاً قانونياً من حقوقي ، فإن لم تعطني هذا الحق فسيكون لي معك شأن آخر ! فرد علي بغضب : أتهددني يا هذا ؟! فقلت له بالأسلوب نفسه : لك أن تفهم قولي كما تريد ، ولكنني جئت مطالباً بحقي فإن لم أنله حسب الأصول فكرت بطريقة أخرى لأخذه ! فنظر إلي ملياً ، وهو يحاول السيطرة على غضبه ، ثم كتب لي بغيظ ورقة بالموافقة ورماها إلي .
ربما لا يتذكر الأستاذ فيصل حسون هذه الحادثة ، فهي بالنسبة إليه حادثة يومية عابرة ، ولكنني أتذكرها جيداً لأنها ترتبط بواقعة مهمة من وقائع حياتي الخاصة ، واقعة زواجي من أم نوار ، فقد كانت بي حاجة ماسة إلى مبلغ الراتب لاستكمال بعض الترتيبات ، ولولا هذه الحاجة لما ذهبت لاستحصاله ، وما كنت سأخاطب الرجل بتلك اللهجة الفظة .
ذكريات (40)
ديوان ودراسة
وفي الحيّ الذين رأيتُ خَودٌ / خَلوبُ الدَلِّ آنسةٌ نوارُ
بـَرودُ العــارضـينِ كـأنَّ فاها / بُعَيْدَ النومِ عاتقةٌ عقارُ
إذا انخضدَ الوسادُ بها فمالتْ / مميلاً فهو موتٌ أو خِطارُ
تردُّ بفترةٍ عًضُديكَ عنها / إذا اعتُنِقَتْ ومالَ بها انهصارُ
يكادُ الزوجُ يشربُها إذا ما / تلقّــاها بنشوتِها انبهــارُ
بـَرودُ العــارضـينِ كـأنَّ فاها / بُعَيْدَ النومِ عاتقةٌ عقارُ
إذا انخضدَ الوسادُ بها فمالتْ / مميلاً فهو موتٌ أو خِطارُ
تردُّ بفترةٍ عًضُديكَ عنها / إذا اعتُنِقَتْ ومالَ بها انهصارُ
يكادُ الزوجُ يشربُها إذا ما / تلقّــاها بنشوتِها انبهــارُ
هذه الأبيات الخمسة الجميلة من قصيدة لشاعر قلّ من يعرفونه في زماننا هو: جِرانُ العَوْد النميري . أما أنا فعرفته منذ عام 1965، رأيت ديوانه مصادفة بيد صديقي الأستاذ جليل العطية فاستعرته منه ، وكان هو قد استعاره من مكتبة الأوقاف أيام كان الأستاذ عبد الله الجبوري أمينها . والديوان قليل في عدد صفحاته ولكن في قصائده من الجمال والطرافة ما يثير الإهتمام .
إسم هذا الشاعر عامر بن الحرث بن كلفة ، وقيلَ كلَدة ، وهو من قبيلة نمير ، أما ( جران العود ) فهو لقب جاءه من بيت قاله في قصيدة طريفة ، ونادرة في الشعر العربي ، هجا فيها زوجتيه اللتين تحالفتا ضده وتطاولتا عليه فهددهما بالضرب :
خذا حذراً يا ضرتيَّ فإنني / رأيت جران العود قد كاد يصلحُ
والعود : الجمل المُسِنّ ، والجران : باطن عنق الجمل الذي يمده على الأرض حين ينام . والشاعر يقصد أنه اتخذ من الجران سوطاً ليضرب به زوجتيه.
لم يشر القدامى ، مثل ابن قتيبة ، إلى عصره . وذكر البغدادي في خزانة الأدب أنه ( جاهلي ) . ولكنني رأيت عند قراءة ديوانه والنظر العميق في قصائده وتحليل لغته أنه ليس كذلك ، وأنه إن كان عاش مدة من حياته في العصر الجاهلي ، فهو لابد أن يكون مخضرماً أدرك الإسلام وامتد به العمر حتى بلغ به العصر الأموي . فقد لاحظت من بعض أبياته أنه من المعمَّرين ، ووجدت في قصائده عبارات ومفردات تدل على إسلامه ، ورأيت في شعره من الرقة والعذوبة ما تميز به شعراء الغزل والنسيب كعمر بن أبي ربيعة ومعاصريه من شعراء الحجاز . وكتبت عن ذلك دراسة مفصلة ومعززة بالشواهد ، وألقيتها محاضرةً في أمسية لجمعية الكتاب والمؤلفين العراقيين خريف عام 1965 ، قبل أن أطلع على كتاب المستشرق كارل بروكلمان ( تاريخ الأدب العربي ) الذي شكك هو الآخر في كونه شاعراً جاهلياً . ولكن هذه الدراسة لم تنشر . أخذها مني في نهاية الأمسية الدكتور يوسف عز الدين ، رحمه الله ، لينشرها في مجلة ( الكتاب ) التي كانت الجمعية تصدرها ، وأبلغني في ما بعد أنها ضاعت منه ، فضاعت مني ، لأنني لم أكن أملك نسخة أخرى منها .
كانت نسخة الديوان التي قرأتها من تحقيق أحمد نسيم على ما أذكر. ثم فوجئت عام 1983 بتحقيق جديد للديوان مذيل بأبيات أخرى جمعها المحقق الجديد من مصادر مختلفة . فقد صادفته في طائرة كانت تقلنا من القاهرة إلى بغداد ، فأهداني نسخة منه . وعند قراءتي المقدمة التي كتبها للتحقيق ، وهي جيدة ووافية ، ولكنني وجدت في جانب منها كل أفكاري التي أوردتها في دراستي ، وكل الشواهد التي جئت بها للبرهان على صحتها . ثم تذكرت أن هذا الرجل صادف أن كان حاضراً عندما حاضرت بها في أمسية الجمعية ، فيا لها من مصادفات !
إسم هذا الشاعر عامر بن الحرث بن كلفة ، وقيلَ كلَدة ، وهو من قبيلة نمير ، أما ( جران العود ) فهو لقب جاءه من بيت قاله في قصيدة طريفة ، ونادرة في الشعر العربي ، هجا فيها زوجتيه اللتين تحالفتا ضده وتطاولتا عليه فهددهما بالضرب :
خذا حذراً يا ضرتيَّ فإنني / رأيت جران العود قد كاد يصلحُ
والعود : الجمل المُسِنّ ، والجران : باطن عنق الجمل الذي يمده على الأرض حين ينام . والشاعر يقصد أنه اتخذ من الجران سوطاً ليضرب به زوجتيه.
لم يشر القدامى ، مثل ابن قتيبة ، إلى عصره . وذكر البغدادي في خزانة الأدب أنه ( جاهلي ) . ولكنني رأيت عند قراءة ديوانه والنظر العميق في قصائده وتحليل لغته أنه ليس كذلك ، وأنه إن كان عاش مدة من حياته في العصر الجاهلي ، فهو لابد أن يكون مخضرماً أدرك الإسلام وامتد به العمر حتى بلغ به العصر الأموي . فقد لاحظت من بعض أبياته أنه من المعمَّرين ، ووجدت في قصائده عبارات ومفردات تدل على إسلامه ، ورأيت في شعره من الرقة والعذوبة ما تميز به شعراء الغزل والنسيب كعمر بن أبي ربيعة ومعاصريه من شعراء الحجاز . وكتبت عن ذلك دراسة مفصلة ومعززة بالشواهد ، وألقيتها محاضرةً في أمسية لجمعية الكتاب والمؤلفين العراقيين خريف عام 1965 ، قبل أن أطلع على كتاب المستشرق كارل بروكلمان ( تاريخ الأدب العربي ) الذي شكك هو الآخر في كونه شاعراً جاهلياً . ولكن هذه الدراسة لم تنشر . أخذها مني في نهاية الأمسية الدكتور يوسف عز الدين ، رحمه الله ، لينشرها في مجلة ( الكتاب ) التي كانت الجمعية تصدرها ، وأبلغني في ما بعد أنها ضاعت منه ، فضاعت مني ، لأنني لم أكن أملك نسخة أخرى منها .
كانت نسخة الديوان التي قرأتها من تحقيق أحمد نسيم على ما أذكر. ثم فوجئت عام 1983 بتحقيق جديد للديوان مذيل بأبيات أخرى جمعها المحقق الجديد من مصادر مختلفة . فقد صادفته في طائرة كانت تقلنا من القاهرة إلى بغداد ، فأهداني نسخة منه . وعند قراءتي المقدمة التي كتبها للتحقيق ، وهي جيدة ووافية ، ولكنني وجدت في جانب منها كل أفكاري التي أوردتها في دراستي ، وكل الشواهد التي جئت بها للبرهان على صحتها . ثم تذكرت أن هذا الرجل صادف أن كان حاضراً عندما حاضرت بها في أمسية الجمعية ، فيا لها من مصادفات !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق