سامي مهدي وبداياته الاولى مع الصحافة
*************************************
الحلقة 38 من ذكريات الاستاذ سامي مهدي
تخرجت في كلية الآداب عند نهاية العام الدراسي 1961 – 1962 ، وبعد تخرجي التحقت بكلية الضباط الإحتياط حسب القوانين الجارية يومئذ ، وكنت لا أدري أين سأعمل بعد إنهاء خدمة الإحتياط ، وكان هذا هاجساً يقلقني كثيراً ، ولكنني لم أفكر قط بأنني سأعمل في الصحافة .
حين وقعت حركة 8 شباط 1963 كنت ما أزال تلميذاً في تلك الكلية . كان اليوم يوم جمعة ، وبعد أسبوع كامل من ذلك اليوم حدث لي ما لم يكن في الحسبان . فقد ذهبت لتفقد صديق لي في محلة الدوريين الثانية ( الأرضروملي ) وإذ بسيارة متهالكة تقف فجأة بجانبي وقفة أفزعتني ، فالتفت لأوبخ السائق فإذا به المرحوم : كريم شنتاف ( أبو مها ) .
كنت أعرف أبا مها جيداً ، وكان يعرفني ، ففتح باب السيارة ودعاني إلى الصعود بجانبه . تلكأت في باديء الأمر ، ولكنه ألحّ فصعدت شبه مرغم . سألني : إلى أين أنت ذاهب ؟ قلت : أزور صديقاً لي . فعاد يسأل : أأنت على موعد معه ؟ قلت : لا . فقال : إذن ستذهب معي لنتناول فطورنا في أحد المطاعم . قلت : ولكننا في رمضان والمطاعم مغلقة . فقال : هناك مطاعم مجازة مفتوحة . ورغم أنني أخبرته بأنني تناولت فطوري قبل خروجي من البيت أصر على أن أرافقه ، فرضخت احتراماً له .
في الطريق إلى المطعم ، وهو بعيد ، راح يسألني : هل أنهيت دراستك ؟ وأين أنت الآن ؟ وماذا ستعمل بعد إنهاء خدمة الإحتياط ؟ وأسئلة أخرى تتصل بها . ثم قال لي : أنا أعرف مقدرتك في الكتابة فما رأيك في العمل الصحفي ؟ أنا الآن رئيس تحرير جريدة ( الجماهير ) وفي وسعي تعيينك محرراً فيها فوراً ، ثم أحل لك كل المشاكل التي تتعلق بخدمة الإحتياط !
ترددت في قبول هذا العرض كثيراَ ، ولكنه ظل يرغّبني فيه ويشرح لي كيف سيحل المشاكل المتعلقة بالتزاماتي القانونية تجاه خدمة الإحتياط حتى وافقت ، ففرح وكأنه عثر على كنز ثمين ، وما كان منه بعد خروجنا من المطعم إلا أن يذهب بي فوراً إلى الجريدة . كان المطعم في ساحة الجندي المجهول ( مطعم العش الذهبي ) وكان مقر الجريدة في الكرنتينة ( مطبعة الرابطة ) فظل طوال هذا الطريق يحدثني عن مزايا العمل الصحفي ويؤكد لي أنني لن أندم على قبول عرضه ، وأنا مشحون بالقلق والتردد .
حين وصلنا الجريدة قدمني لمدير التحرير ، وهو يومئذ الأستاذ طارق عزيز ، وقال له وهو يقدمني : خذ ، جئتك بمحرر من الطراز الأول ! فحدجني أبو زياد بنظرة فاحصة متسائلة من وراء نظارته ، ثم ابتسم ايتسامة فاترة ولم يقل شيئاً ، كأنه لم يصدق . ولكنه دعاني إلى الجلوس فجلست على كرسي غير بعيد عنه ، ولم يلبث أبو مها أن تركني معه وغادر الجريدة .
لم أكن أعرف أبا زياد ، ولم أره أو يرني من قبل ، فسألني عدة أسئلة حاول فيها أن يتعرف علي وعلى مدى أهليتي للعمل الصحفي ، فأجبته على أسئلته ، وأخيراً قال : هل تستطيع إعداد صفحة تعنى بشؤون العمال والعمل النقابي ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذن عليك أن تقدم لي مادة هذه الصفحة يوم الأربعاء القادم . وهنا أعدت عليه مشكلة دوامي في كلية الإحتياط فوعد هو الآخر بحلها . وعندئذ ودعته وخرجت .
بعد يومين استدعاني آمر فصيلي في كلية الإحتياط وأبلغني بأن آمر الكلية سمح لي بمغادرتها كل يوم بعد انتهاء ساعات التدريب بناء على طلب من جريدة الجماهير ، على أن أعود إليها قبل التعداد الليلي فامتثلت . وفي يوم 20 شباط 1963 صدر أمر تعييني محرراً في الجريدة بأجر شهري . وحين انتهت مدة التدريب في الكلية منحت رتبة ملازم احتياط ، ثم تم تسريحي من الجيش بهذه الرتبة ، لعدم الحاجة إلي !
كانت ثقة أبي زياد بكفاءتي الصحفية تزداد يوماً بعد يوم . فقد اكتشف أن قابلياتي تتعدى إعداد الصفحة العمالية ، إذ لمس فيّ القدرة على تصويب الأخطاء اللغوية ، وصياغة العنوانات المناسبة للموضوعات والأخبار والتقارير الصحفية ، فأصدر لي أمراً إدارياً بالإشراف على الصفحات الأسبوعية الخاصة إضافة إلى عملي . ولم يمض على ذلك سوى شهر أو أقل حتى كلفني بكتابة افتتاحية الجريدة ، فكتبت له الإفتتاحية ، وبعد أن قرأها أجازها دون أي تعديل ، وعند ذاك صدر لي أمر إداري جديد عينت فيه معاوناً لمدير التحرير . وكانت هذه مهمة ثقيلة . فقد صار عليّ أن أتابع تفاصيل العمل المتشعب في النهار والليل ، وأكتب افتتاحيات بعض الأيام ، وأشرف على غلق الصفحة الأولى كل يوم ، ولا أغادر مبنى الجريدة حتى يبدأ الطبع ، وأطلع على النسخة الأولى المطبوعة وإجازتها قبل أن يستمر طبع الكمية المقررة .
أذكر ممن عمل معنا يومئذ الأساتذة : بهجت شاكر ( المدير المفوض لدار الجماهير للصحافة ) وسجاد الغازي ، وعبد الله حياوي ، وحسن العلوي , وماجد الكحلة ، وثبات نايف ، والفلسطيني محمد عصفور ، والتونسي علي صميدة ، وكان من منتسبيها ثلاثة لبنانيين هم : الكاتبان إلياس عبود ، وصلاح كامل ، والمصمم جلال الترك . وكانت الجماهير أول جريدة عراقية عنيت بتصميم الصفحات ورسم ( الماكيتات ) . وكان الأستاذ غالب زنجيل ( وهو مسؤول الأرشيف يومئذ ) أول من تعلم التصميم الصحفي من العراقيين على يدي جلال الترك وصلاح كامل .
بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 انقطع عن الجريدة كل من رئيس التحرير ومدير التحرير . أما أنا فأرسل إلي المدير المفوض بهجت شاكر من يأتي بي من البيت ، ولما جئته طلب مني الإستمرار في العمل ريثما تنجلي الأمور ، ولكنه لم يهدني إلى سبيل ، وأنا يومئذ في الثالثة والعشرين من عمري .
بعد الإنقلاب بيومين زار الجريدة وزير الإرشاد في حكومة الإنقلاب ( عبد الكريم فرحان ) وطلب مني مواصلة إصدار الجريدة ، وكتابة الإفتتاحيات وإيصالها بنفسي إلى بيته في محلة ( راغبة خاتون ) ! غير أن الإفتتاحية التي كتبتها لم تعجبه ، لأنها لم تكن على مرامه ، فأصدر في اليوم التالي أمراً وزارياً بفصلي من العمل . وبذلك انطوت أول صفحة من صفحات حياتي الصفحية كان فيها أبو زياد معلمي الفذ . ولعل الوفاء يوجب علي أن أقول : إنني مدين لهذا الرجل بالكثير ، أقله بناء الأساس الصلد الذي قامت عليه خبرتي في عالم الصحافة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق