الاثنين، 9 يونيو 2014

ثلاثة عقود من عمر «مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية»


"مدينة" العلوم والتقنية السعودية
محمد عارف*
أن نعرف العلوم والتقنية، وأن نعرف ما نفعله بالعلوم والتقنية، وأن نفعله، وأن نجعل ما نفعله معروفاً للجميع؛ هذه سيرة ثلاثة عقود من عمر «مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية». وعندما تتداخل وتتفاعل مستويات المعرفة في عاصمة العالم الإسلامي، نحتاج إلى«أركيولوجيا المعرفة». ومن دون التنقيب لن نعرف كيف ارتفعت «المدينة» بالسعودية إلى مصاف الدول الجديرة بالانتباه، حسب «فهرست نيتشر للنشر العالمي»، ولماذا أصبحت «المدينة» في آن مركز البحث والتطوير الوطني، والوكالة الاستشارية في العلوم والتقنية، ومُجمَّع مختبرات ومعاهد الطاقة الشمسية، والبيئة، ومسح البصمة الوراثية «الجينوم» للجمل والنخلة، وورشة الأقمار الصناعية، والطائرات دون طيار، و«السوبر كومبيوتر» (سنام) الذي يحتل الآن المرتبة 52 في قائمة 500 أقوى «سوبر كومبيوتر» في العالم. و«هذا خبز ايدي» حسب المثل السعودي. فعدد العاملين في المدينة حالياً 3530، نسبة السعوديين بينهم 92 في المائة، و70 في المائة منهم باحثون، و18 في المائة باحثات.
و«عندما يصبح واضحاً أن الأهداف لا يمكن بلوغها، لا تُغير الأهداف، بل غير خطوات التنفيذ»، حسب الحكيم الصيني كونفشيوس. ومهندس تغيير خطوات التنفيذ محمد إبراهيم السويل، رئيس «المدينة» منذ عام 2006، ونائب الرئيس لشؤون البحث العلمي فيها منذ عام 1991، وشغل ثلاث سنوات منصب محافظ «هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات»، ويسّمى «وزير الإنترنت» حيث وضع الأسس التقنية والقانونية لثورة الإنترنت الحالية في المملكة. والسويل دكتور بعلوم الكومبيوتر من جامعة «ساوث كاليفورنيا» ويتعلم الآن الصينية. ونقول بالصينية «هوانينغ غوانغلين»، وتعني بالعربية «أهلا وسهلا» له ولباحثي ومهندسي «المدينة» الذين أنشأوا أول محطة لتحلية مياه البحر بالأشعة الشمسية، وتولوا مسؤولية «مبادرة الملك عبد الله لتطوير المحتوى العربي في الإنترنت»، ومضاعفة نسبته الحالية 3 في المائة فقط من محتوى الإنترنت العالمي، وأصدروا موسوعات وكتباً علمية للجمهور الواسع، بينها «طبيب العائلة»، والطبعة العربية لاثنتين من أبرز الدوريات العلمية العالمية؛ «نيتشر» الإنجليزية و«سيانس آفي» الفرنسية، ووضعوها مجاناً على الإنترنت. وشاركوا دار النشر العلمي «سبرينغر» في إصدار مجلات بحثية دولية متخصصة، بينها «علوم النانو التطبيقية» و«العلوم البتروكيماوية التطبيقية» و«علوم المياه التطبيقية».
وعندما ذهبتُ الشهر الماضي لأستكشف ما حدث في «المدينة» منذ زرتها أول مرة قبل عشرين عاماً، لم أتوقع أن أجدها تعد «الخطط الوطنية لبرامج التقنية الاستراتيجية»، وتُطلق «مشروع إعداد الخطة الوطنية الثانية للعلوم والتقنية والابتكار» (معرفة2). والابتكار سيد الاقتصاد في العصر الراهن، و«المدينة» تساهم في إعداد خططه والإشراف على تنفيذها مع وزارة الاقتصاد والتخطيط، والهدف «تحويل المعرفة المطورة في السعودية إلى قيمة اقتصادية منتجة في جميع أنحاء العالم». والمملكة تحقق حالياً أرقاماً قياسية عالمية في إنتاج الماء والنفط، والأول، وكلاهما يحتلان أعلى سلم الخطط الوطنية لبرامج التقنيات الاستراتيجية التي تضم النانو، والأحياء، والمعلومات، والإلكترونيات، والفضاء، والطيران، والطاقة، والبيئة، والمواد المتقدمة، والرياضيات، والفيزياء. والخطط الاستراتيجية ليست محض نصوص وقرارات بل برامج عملية لتمكين مواطني البلاد، وذوي الاحتياجات الخاصة، ورجال وسيدات الأعمال، وعلماء الدين، وصناع القرار، ومؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى العقول السعودية المهاجرة، والعقول المستقطبة من خارج المملكة، والحجاج والمعتمرين والزوار، ودول الجوار، والأمة الإسلامية، والمنظمات العربية والإسلامية، والشركاء الاقتصاديون.
وتتعامل استراتيجية المعرفة مع الكفاءات وفق المثل السعودي «بَلْدَكّْ اللَّى تِرْزَقْ فيها؛ ما هِيب اللَّى تُولَدْ فيها». فلأول مرة تتنافس المملكة في استقطاب الكفاءات العالمية المتميزة، الإسلامية بشكل خاص، وتضع برامج توفر سنوياً الإقامة الدائمة لخمسين ألف خبير في أنشطة الاقتصاد المعرفي وعائلاتهم، وتطور قوانين تتيح للكفاءات الوافدة حق التمليك، والإقامة الدائمة، تمهيداً لسن نظام يمنحهم الجنسية.
و«أي وحدة تاريخية لم يتم تحليلها أركيولوجياً مهددة بأن تكون تخميناً ساذجاً» حسب الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» في كتابه «أركيولوجيا المعرفة». والتحليل غير الأركيولوجي لوحدة الدين في المجتمع السعودي تخمين ساذج. فالحدث الذي وضع حداً للنقاش السنوي حول رؤية هلال رمضان يبدو كقصص الخليفة العباسي المأمون، الذي كان يدعو العلماء للنقاش حول القضايا العلمية. حدث ذلك عندما دعا العاهل السعودي علماء «المدينة» ليعرضوا كيف يمكن تحديد أوقات الأهلة بشكل علمي. واقتنع العاهل السعودي بما عرضه فريق علماء من مختلف العلوم، والتمسهم عرض علومهم على «المشايخ». وأرست الخطوة علاقة جديدة بين المجتَمَعين؛ الديني والعلمي. والآن توفد «المدينة» مختصاً بالفلك وتسلكوباً للتحقق من شهادة كل من يدّعي رؤية الهلال. وامتد التعاون إلى مسائل تقنية، كصيانة سجاد الحرمين الشريفين المعرضين لمشي نصف مليون زائر يومياً، وتطوير مفتاح الكعبة، ووزنه 5 كيلوغرامات، ويستخدم مرة واحدة في العام. ويسأل «المشايخ» حالياً علماء «المدينة» في حل معضلات فقهية علمية، كتحديد اتجاه القبلة في البحر، من مركز يقابل تماماً القِبلة في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. ووقائع الأهلة والقِبلة مادة فيلم سينمائي ديني علمي فريد.
و«وجه السَعَد يفي بالوعد»، حسب المثل السعودي. والسَعَد نساء العلم في «المدينة»، وبينهن من تتولى مسؤوليات حساسة، كالدكتورة في علوم الكومبيوتر أماني الشاوي، مديرة «مركز تقنية أمن المعلومات»، وسارة المبارك، المختصة بالرياضيات وإدارة الأعمال، مديرة الاستشارات المالية في «بادِرْ». وتفخر زميلتها مي الرشيد بأن «بادِرْ» التي تدعم «الحاصنات» مالياً وتقنياً الإدارة الوحيدة في «المدينة» مفتوحة الأبواب 24 ساعة في اليوم لخدمة مبدعين يعمل كثير منهم خارج أوقات الدوام الرسمي. ومهندساتُ ومبرمجاتُ في عمر الورود؛ ساره الدوسري، وشادن الخضيري، ونورا سلامه، وساره عبد اللطيف، يعملن في مركز الفضاء والطيران السعودي، الذي طوّر 13 قمراً اصطناعياً، و12 طائرة بدون طيار «درونز»، تقوم بالاستشعار عن بعد، والاستقصاء الجيولوجي، والأمني، والاتصالات، والبحث العلمي. وتعاونت «المدينة» في«مسبار الجاذبية -ب» مع جامعة ستانفورد لاختبار توقعين علميين أنشتاين، ودرست «مشروع حساب سطح مرجعي لقياس الارتفاعات في المملكة باستخدام تقنيات قياس فضائية متعددة».
وكم تبدو فيزياء الجسيمات سهلة وجميلة عندما تشرحها ابتسام بنت سعيد باضريس، الحاصلة على سبع شهادات جامعية، بينها ماجستير في الفيزياء التطبيقية، وماجستير في تعليم الإنجليزية، وكلتاهما من جامعة «فيرلين ديكنسن» بالولايات المتحدة، ودكتوراه في فيزياء الجسيمات من جامعة «بَرن» بسويسرا، ودكتوراه علاقات دولية من «كلية جنيف للدبلوماسية والعلاقات الدولية». وباضريس تتقن الفرنسية، والإنجليزية، ولغتها الأم العربية، وهي أول باحثة سعودية عملت في «سيرن» (مركز البحوث النووية الأوربي)، حيث ابتُكرت «شبكة الإنترنت العالمية»، واكتُشفتْ جسيمات «هيغز بوزون» التي تربط مادة الكون.
 *مستشار في العلوم والتكنولوجيا
تاريخ النشر: الخميس 05 يونيو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابراهيم العلاف في بيروت قبل 13 سنة في شارع الحمرا ببيروت وامام كشك للصحف والمجلات يوم 15-12-2011.....بيروت ما أجملها حماها الله .........................................ابراهيم العلاف

  ابراهيم العلاف في بيروت قبل 13 سنة في شارع الحمرا ببيروت وامام كشك للصحف والمجلات يوم 15-12-2011.....بيروت ما أجملها حماها الله .............