كرسي خارج قاعة العرض.. لقاسم محمد
بقلم :د. صالح هويدي
13/04/2009
عن :موقع مركز النور (الالكتروني )
إنه لأمر مربك ومهيب في آن معاً أن ترسم صورة سريعة لما فعله رجل المسرح العراقي ومعلمه البار.. قاسم محمد. فهذه المهمة بحاجة إلى سِفر يوثق بريق تلك الإشعاعات التي انبثقت عن هذا المعلم قبل ذهابه إلى معهد موسكو وبعد عودته منها على نحو خاص.
ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت حياتك جزءاً من هذه الأطياف التي أشعها فكر هذا المخرج الفذ، بذكرياتها ومعانيها وقيمها وثرائها.
والحق أن السؤال عما فعله قاسم محمد يبدو لي الآن سؤالاً خاطئاً، إذ الصواب أن نسأل عما لم يفعله معلم المسرح هذا؟ وأحسب أن أهم ما في هذا الرجل، إن كان لا بد من التلخيص، هو فكره التنويري وثقافته المعرفية.
لقد انشدّ قاسم محمد إلى المنهج الواقعي الذي حاول إكسابه محتوى محلياً، فجاءت أعماله حاملة للهم العراقي وصوت إنسانه المعذب المهمش البسيط المسالم المحب، ومضمخة بروائح حاراته وأزقته.
وقد رافق هذا الإيمان بالمنهج الواقعي اهتمام واضح بالتراث العربي وبماضي الأمة في دلالاته الثرة ومحطاته الباذخة، فكان في هذا وذاك ساعياً إلى استجلاء القيم المضيئة في تراثنا، والبحث عن رؤية خاصة تمزج بين معطيات الواقع ومحمول التراث الخصب. فكانت (النخلة والجيران) و(كان يا ماكان) و(شعيط ومعيط وجرار الخيط) و(شلون ولويش والمن) و(الرجل الذي صار كلبا) و(البيك والسايق) و (نفوس)، جنباً إلى جنب مع مسرحيات أخر من مثل(بغداد الأزل بين الجد والهزل) و(مجالس التراث) وسواها من الأعمال التي شهدتها خشبة المسرح الفني الحديث والمسرح الوطني وتركت آثاراً لا تنسى في مخيلة الأجيال المتعاقبة التي واكبتها. هذا إلى جانب جهوده الريادية في تأسيس مسرح الطفل وما قدم له من أعمال متميزة ك(الصبي الخشبي) و(طير السعد) وسواهما.
لكن أفق معلم المسرح لم ينغلق على تلك الرؤية الواقعية والتراثية على رحابتها، بل راحت تنفتح على معطيات أساليب ومناهج الآخر الحداثية التي نجح في توظيفها، فكان التجريب والترميز والمسرح التعبيري والمسرح الملحمي كما عرف لدى بريخت وسائل دائمة الحضور والإفادة في جل ما أخرج وأعد. وإن نسيت اسم تلك المسرحية فلن أنسى مشهدها الذي عشش في مخيلتي وأدهشني كما أدهش من شهده يومها، حين انبثقت من جنبات المسرح تلك الأذرع التي طوقت الشخصية المسرحية على الخشبة، لترسم قضبانها صورة لزنزانة لا تخفى دلالتها المعبرة عن حالة القهر والتكبيل عبر هذا المشهد الرمزي الأخاذ.
لقد رافقت جهود المعلم جهود خصبة أخرى؛ محلية وعربية، اشتغل بعضها على الرؤية الواقعية، وبعضها على موضوعة التراث والمسرح الاحتفالي، في حين اشتغل أقران آخرون له على الرؤى والمناهج الحداثية. لكن ما يميز قاسم محمد أنه لم ينطلق في أي من الأعمال التي قدمها من رؤية أحادية أو أسلوب واحد. فعلى الرغم من أن المنهج الواقعي والإيمان بالإنسان كان الجذر الذي ارتكن إليه في كل ما أخرج وأعد، فإن المعطيات الحداثية والأساليب الإخراجية التجريبية كانت شغله الشاغل، في محاولة لامتلاك رؤية إخراجية معاصرة وصوت يميزه من سواه.
ولم يتوقف المعلم عند هذه الحدود، فقد كنت أعلم أنه كان دائب السعي، ولا سيما في السنوات الأخيرة، نحو إعادة قراءة الفكر الإشراقي لتقديمه في أعمال لاحقة، تقف على معطياته غير المسبوقة في الفكر العالمي. وهو جهد يعد إسهاماً جاداً في سبر غور التراث وتعميق صلتنا به وإزالة ما لحق به من أوهام والتباسات سطحية.
لقد كان من حسن طالع العراق وإبداعه أن تحتضن دولة الإمارات قاسم محمد وهو في رحلة خروجه القسرية، بما عرف عن هذا البلد وأهله من خصال وقيم ضيافة وتكريم، كان من نتائجها أن منح الرجل خبرته وعلمه وتجاربه الواسعة لمحبي المسرح وطلابه، فجعل من صرح المعهد المسرحي في الشارقة ورشة للعمل والدرس والتدريب ومن بيته ملتقى للخبرة والتنظير، حتى صارت أرض الإمارات كلها تبادله حباً بحب، إذ اختارت دائرة الثقافة والإعلام بإمارة عجمان قبل أسابيع قاسم محمد شخصية العام الثقافية، وحظي بتكريم يليق بقامته ودوره.
لقد كان آخر ما سمعته من هذا المعلم قبل أيام قلائل، حيث شرفت في أن أكون أحد المدعوين في مناسبة عزيزة، هي تقليده قلادة بغداد الذهبية التي تمنح من قناة الشرقية أول مرة لمبدع عراقي، إذ كانت لفتة لا ينهض بها إلا من كان مبدعاً، يعرف معنى الإبداع وقدر المبدعين. لقد كانت المبادرة بمثابة تعزية لنا عن عجز المؤسسات الرسمية الكبرى في العراق عن القيام بمسؤولياتها تجاه الإبداع العراقي الباذخ ومبدعيه. لقد قال قاسم محمد في أثناء حفل التكريم إنه ما زال مستمراً في طقسه الإخراجي الذي يعمل فيه عقله كمشغل دائم، ليصبح سقف غرفة نومه خشبة لعشرات الأعمال التي يخرجها في الليلة الواحدة، أفهناك أبهى من هذا العشق للمسرح، وأصدقه؟
وإذا كان الأمر كذلك، فأنا على يقين من أن أيام الشارقة المسرحية السنوية التي تعيشها الشارقة في هذه الأيام، في ظل تأخر فارسها النجيب وقمرها الجميل- ولا أقول غيابه- عنها، تستضيء بخبرته ممثلة في طلبته الموهوبين وزملائه الواعدين والعاملين معه. مثلما لا أشك في أنه قد هيأ له كرسياً خلفياً هذه المرة، يرقبهم من بعيد ويبارك عطاءهم، وكأني به وأنا أجلس في آخر القاعة أنظر إلى كرسيه الشاغر في صدر القاعة قبل فتح الستارة، يملؤني إحساس بأنه قادم قبل بدء العرض؛ فافسحوا له الطريق قليلاً وانتظروه أيها المبدعون.
•· كتب هذا المقال ونشر في جريدة الخليج الإماراتية قبل وفاة الأستاذ قاسم محمد بأيام.
بقلم :د. صالح هويدي
13/04/2009
عن :موقع مركز النور (الالكتروني )
إنه لأمر مربك ومهيب في آن معاً أن ترسم صورة سريعة لما فعله رجل المسرح العراقي ومعلمه البار.. قاسم محمد. فهذه المهمة بحاجة إلى سِفر يوثق بريق تلك الإشعاعات التي انبثقت عن هذا المعلم قبل ذهابه إلى معهد موسكو وبعد عودته منها على نحو خاص.
ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت حياتك جزءاً من هذه الأطياف التي أشعها فكر هذا المخرج الفذ، بذكرياتها ومعانيها وقيمها وثرائها.
والحق أن السؤال عما فعله قاسم محمد يبدو لي الآن سؤالاً خاطئاً، إذ الصواب أن نسأل عما لم يفعله معلم المسرح هذا؟ وأحسب أن أهم ما في هذا الرجل، إن كان لا بد من التلخيص، هو فكره التنويري وثقافته المعرفية.
لقد انشدّ قاسم محمد إلى المنهج الواقعي الذي حاول إكسابه محتوى محلياً، فجاءت أعماله حاملة للهم العراقي وصوت إنسانه المعذب المهمش البسيط المسالم المحب، ومضمخة بروائح حاراته وأزقته.
وقد رافق هذا الإيمان بالمنهج الواقعي اهتمام واضح بالتراث العربي وبماضي الأمة في دلالاته الثرة ومحطاته الباذخة، فكان في هذا وذاك ساعياً إلى استجلاء القيم المضيئة في تراثنا، والبحث عن رؤية خاصة تمزج بين معطيات الواقع ومحمول التراث الخصب. فكانت (النخلة والجيران) و(كان يا ماكان) و(شعيط ومعيط وجرار الخيط) و(شلون ولويش والمن) و(الرجل الذي صار كلبا) و(البيك والسايق) و (نفوس)، جنباً إلى جنب مع مسرحيات أخر من مثل(بغداد الأزل بين الجد والهزل) و(مجالس التراث) وسواها من الأعمال التي شهدتها خشبة المسرح الفني الحديث والمسرح الوطني وتركت آثاراً لا تنسى في مخيلة الأجيال المتعاقبة التي واكبتها. هذا إلى جانب جهوده الريادية في تأسيس مسرح الطفل وما قدم له من أعمال متميزة ك(الصبي الخشبي) و(طير السعد) وسواهما.
لكن أفق معلم المسرح لم ينغلق على تلك الرؤية الواقعية والتراثية على رحابتها، بل راحت تنفتح على معطيات أساليب ومناهج الآخر الحداثية التي نجح في توظيفها، فكان التجريب والترميز والمسرح التعبيري والمسرح الملحمي كما عرف لدى بريخت وسائل دائمة الحضور والإفادة في جل ما أخرج وأعد. وإن نسيت اسم تلك المسرحية فلن أنسى مشهدها الذي عشش في مخيلتي وأدهشني كما أدهش من شهده يومها، حين انبثقت من جنبات المسرح تلك الأذرع التي طوقت الشخصية المسرحية على الخشبة، لترسم قضبانها صورة لزنزانة لا تخفى دلالتها المعبرة عن حالة القهر والتكبيل عبر هذا المشهد الرمزي الأخاذ.
لقد رافقت جهود المعلم جهود خصبة أخرى؛ محلية وعربية، اشتغل بعضها على الرؤية الواقعية، وبعضها على موضوعة التراث والمسرح الاحتفالي، في حين اشتغل أقران آخرون له على الرؤى والمناهج الحداثية. لكن ما يميز قاسم محمد أنه لم ينطلق في أي من الأعمال التي قدمها من رؤية أحادية أو أسلوب واحد. فعلى الرغم من أن المنهج الواقعي والإيمان بالإنسان كان الجذر الذي ارتكن إليه في كل ما أخرج وأعد، فإن المعطيات الحداثية والأساليب الإخراجية التجريبية كانت شغله الشاغل، في محاولة لامتلاك رؤية إخراجية معاصرة وصوت يميزه من سواه.
ولم يتوقف المعلم عند هذه الحدود، فقد كنت أعلم أنه كان دائب السعي، ولا سيما في السنوات الأخيرة، نحو إعادة قراءة الفكر الإشراقي لتقديمه في أعمال لاحقة، تقف على معطياته غير المسبوقة في الفكر العالمي. وهو جهد يعد إسهاماً جاداً في سبر غور التراث وتعميق صلتنا به وإزالة ما لحق به من أوهام والتباسات سطحية.
لقد كان من حسن طالع العراق وإبداعه أن تحتضن دولة الإمارات قاسم محمد وهو في رحلة خروجه القسرية، بما عرف عن هذا البلد وأهله من خصال وقيم ضيافة وتكريم، كان من نتائجها أن منح الرجل خبرته وعلمه وتجاربه الواسعة لمحبي المسرح وطلابه، فجعل من صرح المعهد المسرحي في الشارقة ورشة للعمل والدرس والتدريب ومن بيته ملتقى للخبرة والتنظير، حتى صارت أرض الإمارات كلها تبادله حباً بحب، إذ اختارت دائرة الثقافة والإعلام بإمارة عجمان قبل أسابيع قاسم محمد شخصية العام الثقافية، وحظي بتكريم يليق بقامته ودوره.
لقد كان آخر ما سمعته من هذا المعلم قبل أيام قلائل، حيث شرفت في أن أكون أحد المدعوين في مناسبة عزيزة، هي تقليده قلادة بغداد الذهبية التي تمنح من قناة الشرقية أول مرة لمبدع عراقي، إذ كانت لفتة لا ينهض بها إلا من كان مبدعاً، يعرف معنى الإبداع وقدر المبدعين. لقد كانت المبادرة بمثابة تعزية لنا عن عجز المؤسسات الرسمية الكبرى في العراق عن القيام بمسؤولياتها تجاه الإبداع العراقي الباذخ ومبدعيه. لقد قال قاسم محمد في أثناء حفل التكريم إنه ما زال مستمراً في طقسه الإخراجي الذي يعمل فيه عقله كمشغل دائم، ليصبح سقف غرفة نومه خشبة لعشرات الأعمال التي يخرجها في الليلة الواحدة، أفهناك أبهى من هذا العشق للمسرح، وأصدقه؟
وإذا كان الأمر كذلك، فأنا على يقين من أن أيام الشارقة المسرحية السنوية التي تعيشها الشارقة في هذه الأيام، في ظل تأخر فارسها النجيب وقمرها الجميل- ولا أقول غيابه- عنها، تستضيء بخبرته ممثلة في طلبته الموهوبين وزملائه الواعدين والعاملين معه. مثلما لا أشك في أنه قد هيأ له كرسياً خلفياً هذه المرة، يرقبهم من بعيد ويبارك عطاءهم، وكأني به وأنا أجلس في آخر القاعة أنظر إلى كرسيه الشاغر في صدر القاعة قبل فتح الستارة، يملؤني إحساس بأنه قادم قبل بدء العرض؛ فافسحوا له الطريق قليلاً وانتظروه أيها المبدعون.
•· كتب هذا المقال ونشر في جريدة الخليج الإماراتية قبل وفاة الأستاذ قاسم محمد بأيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق