«أسفار جديدة» لسامي مهدي
بقلم: أ.د. حسين علي محمد*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سامي مهدي واحد من أنقى الأصوات الشعرية العربية، أصدر من قبل ديوانين هما "رماد الفجيعة"(1966)، و"أسفار الملك العاشق" (1971)...ديوان " أسفار جديدة " صدر سنة 1976 .
وتمتاز قصائد سامي مهدي بالمزايا التالية:
أولاً: الموسيقية المنضبطة الموَقَّعة، فرغم أنه يكتب قصائده من خلال شعر التفعيلة فإنه يلجأ إلى القوافي الداخلية التي تصنع مع رتابة تكرار التفعيلة صوتاً لا تُخطئه الأذن، يقول في القصيدة الأولى «القسمة على اثنين دائماً»:
قال لي يوْماً أخي: إنّا بدأنا نُقْطتيْنْ
وانتهيْنا
نقطةً تخضلُّ في العيْننِ
وتبْقى في اليديْنْ
قال: هلْ نبدأُ ؟
أمْ نؤخذُ منْ ديْنٍ لديْنْ ؟
قالَ: منْ أيْنَ .. ؟
ولكنَّا انقسمْنا مرّةً أخرى
فنصْفٌ .. نافِرٌ في الريحِ ، في القفْرِ
ونصْفٌ خشَبَهْ
يفتحُ البابَ بنا نصفٌ
ونصفٌ يرتمي في العتَبَهْ
ثانيا: التركيز الشديد، ونعني بالتركيز الشديد أنه لا يقع في عيب يقع فيه معظم شعرائنا المعاصرين، وهو الثرثرة، حيث تطول القصيدة وتكبر لأن الشاعر غير قادر على أن يُحيط بأبعاد التجربة ويحتويها.
ونقدم هنا النص الكامل لقصيدتين قصيرتين جدا، يقول من خلالهما الشاعر ما يريد قوله في فنية واقتدار.
يقول في قصيدة عنوانها «بيروت»:
إذنْ هذه هي بيروتُ
ضائعةٌ في الزِّحامْ
تُحدِّقُ في الوجْهِ والوجْهِ ..
كلُّ الملامحِ كالحةٌ
والكلامُ كثيرٌ
ولا شيءَ إلاَّ الكلامْ
إذنْ هذه هي بيْروتُ
سيِّدةٌ كثرَ المولعونَ بها
حتى إذا جاءها الطَّلْقُ
أجهَضَها قاتِلٌ ..
ومضى في سلامْ
والقصيدة الثانية بعنوان «بقيتْ لي»، ونصُّها:
بقِيَتْ لي أشجارٌ نائيَةٌ
وقُرى لا تُحْصى
بقيتْ لي طُرُقٌ في الأرْضِ
وسعادةُ أنْ أنهضَ
أنْ أتسلَّلَ منْ هدأةِ أعضائي
لأُفاجئَ نفْسي
ففي القصيدة الأولى ـ رغم كلماتها القليلة ـ يرينا العلاقة بين بيروت وعشاقها الذين يتركونها ساعة المخاض، وتتكشّف العلاقة عن حقيقة بيروت منذ اللفظة الأولى «إذنْ هذه هي بيْروتُ»، فكأن الشاعر من خلال التعبير بلفظة «إذنْ» يكتشف الحقيقة التي حاول الكثيرون إخفاءها، ورغم ذلك نظل نُتابع القصيدة / الكشف حتى النهاية، حيث نرى القاتلَ ..
أجهَضَها …
ومضى في سلامْ
والقصيدة الثانية فيها التفاؤل ـ ليس الساذج ـ وإنما الذي ينطلق من حقائق بسيطة، أهمها أنه يمتلك شيئاً في هذا العالم .. شيئاً ما، حتى لو كان هذا الشيء في نظر البعض لا يُساوي شيئاً:
أنْ أتسلَّلَ منْ هدأةِ أعضائي
وأُفاجئَ نفْسي
فلا بد من هذا التسلل بين الحين والآخر داخل خفايا النفس ودهاليزها، لاكتشاف عالم جديد، ولمراجعة ما تسرّب وتراكم في النفس من أراجيف وأكاذيب.
ثالثا: النهاية المفاجئة؛ فقصائده لا تُعطيك النهاية المتوقّعة، إن النهاية عنده تكون الاحتمال البعيد عن الوقوع، وحتى لا نضطر إلى نقل نصوص أخرى جديدة، نضع أمامك من جديد نهايتي القصيدتين السابقتين لتتأمل فيهما: فبيروت المعشوقة ـ في النص الأول ـ لا تجد ساعة المخاض بجانبها العشاق المعاميد الذين يدافعون عنها ويقدمون التضحية والفداء، بل تجد القاتل الذي يُجهضُها ويمضي في سلام.
والإنسان المسحوق ـ في النص الثاني ـ يمتلك في النهاية شيئاً ما، وهو قدرته على أن يتسللّ من هدأة أعضائه ليواجه نفسه.
رابعاً: اللغة البسيطة؛ فهو لا يلجأ إلى الرمز المستعصي على الأفهام، بل هو شاعر له قضية، ولهذا تظل كلماته بسيطة، حتى وهو يلج بنا إلى داخل رموز التاريخ. يقول في قصيدة «خبر لديك الجن»:
رأيْتُ ابنتي في حلبْ
خرجْنا إلى السوقِ
كانتْ معي
فلمّا اشتريتُ لها دفتراً أنّبَتْني، وقالتْ:
أما كانَ أنْ تشتري خنجراً منْ ذَهبْ ؟
…
قتلْتُ ابنتي في حلبْ
…
لقدْ كان في يدها وردتانْ
وآخرُ ما كانَ في حجْرِها دفْترٌ
ورغيفٌ
وفي صدْرِها خنجرٌ منْ ذَهَبْ
إن هذا الديوان الشعري المتألق الذي يحمل عنوان «أسفار جديدة»، هو إضافة جادة لحركة الشعر الحر، وهو نقطة ضوء في وسط ركام الشعر الحر الذي يملأ الصحف والمجلات والدواوين، والذي جعل من ملاحقته تعريفاً ونقداً عملاً صعباً.
ويوم أن يجيء التقييم النقدي والموضوعي لحركة الشعر الحر سيوضع اسم سامي مهدي على رأس الكوكبة المبدعة في القصيدة العربية الجديد.
*ملتقى أسمار والرابط :http://www.asmarna.net/al_moltqa/archive/index.php?t-8901.html
بقلم: أ.د. حسين علي محمد*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سامي مهدي واحد من أنقى الأصوات الشعرية العربية، أصدر من قبل ديوانين هما "رماد الفجيعة"(1966)، و"أسفار الملك العاشق" (1971)...ديوان " أسفار جديدة " صدر سنة 1976 .
وتمتاز قصائد سامي مهدي بالمزايا التالية:
أولاً: الموسيقية المنضبطة الموَقَّعة، فرغم أنه يكتب قصائده من خلال شعر التفعيلة فإنه يلجأ إلى القوافي الداخلية التي تصنع مع رتابة تكرار التفعيلة صوتاً لا تُخطئه الأذن، يقول في القصيدة الأولى «القسمة على اثنين دائماً»:
قال لي يوْماً أخي: إنّا بدأنا نُقْطتيْنْ
وانتهيْنا
نقطةً تخضلُّ في العيْننِ
وتبْقى في اليديْنْ
قال: هلْ نبدأُ ؟
أمْ نؤخذُ منْ ديْنٍ لديْنْ ؟
قالَ: منْ أيْنَ .. ؟
ولكنَّا انقسمْنا مرّةً أخرى
فنصْفٌ .. نافِرٌ في الريحِ ، في القفْرِ
ونصْفٌ خشَبَهْ
يفتحُ البابَ بنا نصفٌ
ونصفٌ يرتمي في العتَبَهْ
ثانيا: التركيز الشديد، ونعني بالتركيز الشديد أنه لا يقع في عيب يقع فيه معظم شعرائنا المعاصرين، وهو الثرثرة، حيث تطول القصيدة وتكبر لأن الشاعر غير قادر على أن يُحيط بأبعاد التجربة ويحتويها.
ونقدم هنا النص الكامل لقصيدتين قصيرتين جدا، يقول من خلالهما الشاعر ما يريد قوله في فنية واقتدار.
يقول في قصيدة عنوانها «بيروت»:
إذنْ هذه هي بيروتُ
ضائعةٌ في الزِّحامْ
تُحدِّقُ في الوجْهِ والوجْهِ ..
كلُّ الملامحِ كالحةٌ
والكلامُ كثيرٌ
ولا شيءَ إلاَّ الكلامْ
إذنْ هذه هي بيْروتُ
سيِّدةٌ كثرَ المولعونَ بها
حتى إذا جاءها الطَّلْقُ
أجهَضَها قاتِلٌ ..
ومضى في سلامْ
والقصيدة الثانية بعنوان «بقيتْ لي»، ونصُّها:
بقِيَتْ لي أشجارٌ نائيَةٌ
وقُرى لا تُحْصى
بقيتْ لي طُرُقٌ في الأرْضِ
وسعادةُ أنْ أنهضَ
أنْ أتسلَّلَ منْ هدأةِ أعضائي
لأُفاجئَ نفْسي
ففي القصيدة الأولى ـ رغم كلماتها القليلة ـ يرينا العلاقة بين بيروت وعشاقها الذين يتركونها ساعة المخاض، وتتكشّف العلاقة عن حقيقة بيروت منذ اللفظة الأولى «إذنْ هذه هي بيْروتُ»، فكأن الشاعر من خلال التعبير بلفظة «إذنْ» يكتشف الحقيقة التي حاول الكثيرون إخفاءها، ورغم ذلك نظل نُتابع القصيدة / الكشف حتى النهاية، حيث نرى القاتلَ ..
أجهَضَها …
ومضى في سلامْ
والقصيدة الثانية فيها التفاؤل ـ ليس الساذج ـ وإنما الذي ينطلق من حقائق بسيطة، أهمها أنه يمتلك شيئاً في هذا العالم .. شيئاً ما، حتى لو كان هذا الشيء في نظر البعض لا يُساوي شيئاً:
أنْ أتسلَّلَ منْ هدأةِ أعضائي
وأُفاجئَ نفْسي
فلا بد من هذا التسلل بين الحين والآخر داخل خفايا النفس ودهاليزها، لاكتشاف عالم جديد، ولمراجعة ما تسرّب وتراكم في النفس من أراجيف وأكاذيب.
ثالثا: النهاية المفاجئة؛ فقصائده لا تُعطيك النهاية المتوقّعة، إن النهاية عنده تكون الاحتمال البعيد عن الوقوع، وحتى لا نضطر إلى نقل نصوص أخرى جديدة، نضع أمامك من جديد نهايتي القصيدتين السابقتين لتتأمل فيهما: فبيروت المعشوقة ـ في النص الأول ـ لا تجد ساعة المخاض بجانبها العشاق المعاميد الذين يدافعون عنها ويقدمون التضحية والفداء، بل تجد القاتل الذي يُجهضُها ويمضي في سلام.
والإنسان المسحوق ـ في النص الثاني ـ يمتلك في النهاية شيئاً ما، وهو قدرته على أن يتسللّ من هدأة أعضائه ليواجه نفسه.
رابعاً: اللغة البسيطة؛ فهو لا يلجأ إلى الرمز المستعصي على الأفهام، بل هو شاعر له قضية، ولهذا تظل كلماته بسيطة، حتى وهو يلج بنا إلى داخل رموز التاريخ. يقول في قصيدة «خبر لديك الجن»:
رأيْتُ ابنتي في حلبْ
خرجْنا إلى السوقِ
كانتْ معي
فلمّا اشتريتُ لها دفتراً أنّبَتْني، وقالتْ:
أما كانَ أنْ تشتري خنجراً منْ ذَهبْ ؟
…
قتلْتُ ابنتي في حلبْ
…
لقدْ كان في يدها وردتانْ
وآخرُ ما كانَ في حجْرِها دفْترٌ
ورغيفٌ
وفي صدْرِها خنجرٌ منْ ذَهَبْ
إن هذا الديوان الشعري المتألق الذي يحمل عنوان «أسفار جديدة»، هو إضافة جادة لحركة الشعر الحر، وهو نقطة ضوء في وسط ركام الشعر الحر الذي يملأ الصحف والمجلات والدواوين، والذي جعل من ملاحقته تعريفاً ونقداً عملاً صعباً.
ويوم أن يجيء التقييم النقدي والموضوعي لحركة الشعر الحر سيوضع اسم سامي مهدي على رأس الكوكبة المبدعة في القصيدة العربية الجديد.
*ملتقى أسمار والرابط :http://www.asmarna.net/al_moltqa/archive/index.php?t-8901.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق