الخميس، 28 مارس 2013

من التراث الصحفي في عراق الثلاثينات


من التراث الصحفي في عراق الثلاثينات *
د.ابراهيم خليل العلاف 
استاذ التاريخ الحديث العراق
يمتلك العراق تراثاً صحفياً ثرّاً يمتد إلى أكثر من ( 138 ) عاماً ، ففي 15 حزيران 1869 صدرت ببغداد ، أول جريدة عراقية هي " الزوراء " وكانت بلغتين عربية وتركية ، وقد قدمت منذ صدورها وحتى توقفها عن الصدور قبيل وقوع الاحتلال البريطاني لبغداد في 11 آذار 1917 ، صورة صادقة لمشروع الوالي المصلح المتـنور مدحت باشا 1869 ـ 1872 في مجال تحديث العراق، وبعد الانقلاب الدستوري العثماني سنة 1908 ،دخلت الصحافة العراقية دوراً مهماً من حياتها إذ صدرت بعد إعادة العمل بالدستور 1876 ( 25 ) صحيفة ومجلة منها ( 10 ) جريدة ومجلة في بغداد وحدها ، وبعد الاحتلال البريطاني للعراق ( 1914 ـ 1918 ) ، لجأ المحتلون الانكليز إلى استخدام الصحافة وسيلة للدعاية لحكمهم ، وإيهام الناس أنهم " رواد حرية وأساطين عـدل " . ومن الصحف التـي صدرت في عهدهم الأوقات (البصرية) ، والعرب (البغدادية) ، و (الموصل) الموصلية ، ونجمة ( الكركوكية) . وبعد إعلان الانتداب البريطاني في 26 نيسان 1920 على العراق ،اندفع الوطنيون العراقيون للاستفادة من الصحافة في مقاومة أساليـب البريطانيين الاستعمارية، والدعوة إلى الاستقلال والتحرر. وقد انتبهوا إلى أهمية التنظيم الحزبي وتوحيـد الكلمة من أجل التعبير عن الأهداف الوطنية والقومية ، فاشتدت المطالبة بعد تتويج فيصل ملكاً على العراق في 23 آب 1921 ، بتأسيس الأحزاب ، وإصدار الصحف ، واتسمت صحف تلك المرحلة بالجرأة ، وقامت بدور مهم في تكوين ( رأي عام وطني ) في العراق بما دأبت عليه في نشر مقالات نقدية للحكومة وأعمالها ، وتأتي صحافة الحزب الوطني وحزب النهضة في طليعة الصحف التي أدت في العشرينات واجبها في تنشيط الفكرة الوطنية للوحدة العراقية . وفوق هذا أسهمت صحف هذين الحزبين في الاهتمام بالقضايا القومية ، وفي مقدمتها قضية فلسطين وفضح النوايا الصهيونية والسياسة البريطانية . وعندما جاءت الثلاثينات ، ، نضجت الصحافة في العراق وتطورت واتسعت المفاهيم التي كانت تكتب حولها ، وتشعبت وبدأت تظهر صحف جادة . وسنحاول أن نتابع في هذا البحث واقع الصحافة العراقية وأنماطها ودورها في النهوض الوطني والقومي بين سنتي 1932و1939 ، وهي السنوات التي شهد فيها العراق تنامي الفكر القومي ، وشيوع الفكر التقدمي ، والرغبة في التحرر من الاستعمار ، والبدء بحركة تنمية ونهضة واسعة النطاق .
جريدة الأهالي :
تعد جريدة الأهالي ، بحق ، جريدة سياسية متميزة ، وقد مثّلت علامة بارزة في طريق نهضة الصحافة العراقية ،لذلك فمن الضروري الوقوف عندها لأهميتها ودورها الفاعل في تطوير الوعي الوطني وتـنمية الإحساس بالحاجة إلى نمط خاص من الصحف يسهم في تطوير المجتمع العراقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بأسلوب جديد يعتمد " الفكرة الديمقراطية " و " النزعة التقدمية " . وقد عبّرت جريدة الأهالي ، والتي صدر عددها الأول يوم 2 كانون الثاني 1932 ، عن فكر نخبة من الشبان الذين اتفقوا في سنة 1931 على توحيد مساعيهم والعمل المشترك في تنظيم واحد يستهدف إعادة بناء المجتمع العراقي وفق صيغ وأنماط جديدة ومتطورة تختلف عن تلك التي درج عليها الساسة القدامى آنذاك . وهؤلاء الشبان هم ( محمد حديد ) ، و ( عبد الفتاح إبراهيم ) ، و ( حسين جميل ) ، و
( عبد القادر إسماعيل ) ، وقد قرروا أن يبدأ عملهم بإصدار جريدة يومية سياسية ، ثم يوسعوا عملهم بعد ذلك بنشر الرسائل والكتب ، واتفقوا على تسمية أنفسهم بـ ( جماعة الأهالي ) ، وتسمية جريدتهم بـ ( جريدة الأهالي ) . يقول أحدهم وهو حسين جميل : " أننا أردنا أن نختار اسماً مشتقاً من معنى الشعب … وكذلك لأننا كنّا متأثرين بكفاح الصحافة الوفدية في مصر ، وكانت جريدة الأهالي أبرز الصحف التي كنّا نقرأها … " . لقد كان أولئك الشبان يقصدون أن الوطنية تعني ، فضلاً عن المطالبة بالاستقلال التام ، العناية الكبيرة بمصالح
" الشعب " أو " الأهالي " أي الناس وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية ، وأن المطالبة بالاستقلال يجب أن تستند على الشعب ، وأن ذلك يقتضي نشر الوعي السياسي بصيغ علمية حديثة متقدمة .
صدر العدد الأول من الجريدة وهو يحمل جملة موضوعة تحت اسم الجريدة مفادها
" يصدرها فريق من الشباب " وإلى جانب الاسم صاحبها ومديرها المسؤول حسين جميل المحامي ، والذي تولى كتابة أكثر افتتاحيات الجريدة واتخذت الجريدة لها شعاراً وهو شعلة الأهالي المعروفة ، وقد تضمنت الافتتاحية الأولى الموسومة بعنوان " منفعة الشعب فوق كل المنافع " خطة الجريدة وأهدافها وهي مقتبسة من مبـدأ صاغه جماعة الأهالي وأطلقوا عليه مصطلح ( الشعبية ) وهو يعني لديهم " وجهة نظر معينة تجاه المشاكل التي تجابه المجتمع من نواحي حياته المختلفة ، وتنقسم هذه المشاكل بحسب طبيعتها إلى سياسية واقتصادية واجتماعية ترمي الشعبية إلى حلّها بصورة تكفل للمجتمع الاطمئنان والرفاه والتقدم " .
تولى عبد الفتاح إبراهيم كتابة وترجمة الكثير من المقالات حول الاستعمار ودور حركات التحرر في مقاومته .. وانصرف محمد حديد لنشر مقالات حول الجمعيات التعاونية والدعوة إلى تأسيس بنك أهلي ومعارضة بعض القوانين ، ومنها مثلاً قانون حقوق وواجبات الزراع لما تضمنه من غمط لحقوق الفلاح . وترجم محرروا الجريدة فصولاً من مذكرات المهاتما غاندي،وكتب الاقتصادي المعروف هارولد لاسكي . كما تبنت الجريدة مشروعاً لمحو الأمية وانتقدت قانون المطبوعات لما تضمنت نصوصه من أحكام مخالفة للديمقراطية وحرية الرأي ، وطالبت الجريـدة بمبدأ منح المحاكم حـق تعطيل الصحف بدلاً من السلطة التنفيذية وانتقدت ( قانـون الدعايات المضرة وصيانة الأمـن ) لما يضعه من قيود على حرية الفكر وحرية التعبير ، ودعت إلى حرية الاجتماع والتظاهر والنشر ، وقاومت كل المظاهر المخالفة للدستور والديمقراطية ، وساندت الجريدة تأميم شركة الكهرباء ببغداد ودعت إلى تأييد جمعيات العمال سنة 1933 إلى مقاطعة هذه الشركة وطالبت بسن قانون لضريبة الأرث ودعت إلى إنهاء قانون دعاوي العشائر ، باعتباره قانوناً رجعياً .
كانت جريدة الأهالي ، كما يقول المرحوم الأستاذ الدكتور فاضل حسين ، تتميز بطابع موضوعي يظهر في افتتاحياتها وفي أخبارها الداخلية والخارجية ، كما حافظت على مستوى عالٍ من الرزانة ، ولكنها شذت عن ذلك خلال فترة الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق الركن بكر صدقي في تشرين الثاني 1936 ، وحين انتخب بعض جماعة الأهالي نواباً في مجلس النواب أمثال محمد حديد وصادق كمونه وعزيز شريف وعبد القادر إسماعيل ، بالرغم مما عرف عن ديمقراطية وشعبية الجريدة ومصدريها ، فلم تكن للجريدة أو لمصدريها في الواقع فلسفة اجتماعية وثقافية واضحة المعالم ، وكل ما فعله أصحابها أنهم اشتقوا كلمة
( الشعبية ) كبديل عن الكلمتين الغربيتين (الديمقراطية ) و ( الاشتراكية ) .
لقد كان من الطبيعي أن لا تمر مقالات الجريدة بسلام ، بل كانت جريدة حزب العهد ، وهو الحزب الحاكم " صدى العهد " ترد عليها باستمرار . كما أنها تعرضت للتعطيل لأكثر من مرة ، حتى توقفت عن الصدور .
قانون المطبوعات رقم 57 لسنة 1933:
عندما تشكلت وزارة رشيد عالي الكيلاني المعروفة بحكومة الإخاء الوطني يوم 20 آذار 1933 ، توجهت لتحقيق هدف طالما سعى إليه الوطنيون وهو إفساح المجال للكتاب والمثقفين أن يكتبوا بحرية ويعالجوا الشؤون العامة . لذلك تضمن منهاجها الوزاري في مادته الثانية فقرة تشير إلى وجوب " … بإنهاض الأمة وتحسين حالتها الأدبية والاجتماعية بإعادة النظر في القوانين الاستثنائية لتوسيع المجال لمحاربة الحريات الدستورية وتسهيل قيام الأحزاب والجمعيات بأعمالها الوطنية والتهذيبية " . ولم ينقضِ يومان على وجود الوزارة في دست الحكم حتى قرر مجلس الوزراء يوم 22 آذار 1933 الإفراج عن جميع الصحف المعطلة وكان عددها ( 25 ) جريدة يومية وأسبوعية عطلتها كلها وزارة السعيد ( 23 آذار 1930 ـ 19 تشرين الأول 1931 ) عدا جريدتين أو ثلاثة من آثار وزارة ناجي شوكت التي أعقبتها ، وسمح لها باستئناف الصدور ، وأذاعت الحكومة بياناً على أرباب هذه الصحف بمراجعة مكتب المطبوعات وإتمام المعلومات القانونية اللازمة لإصدار صحفهم ، فعادت كثير من الجرائد إلى الظهور وتمتع الكتّاب والصحفيون بجو حر فترة من الزمن .
وفي 9 تموز 1933 شرّع مجلس الأمة قانوناً جديداً للمطبوعات ، وكان لتشريعه تأثير حسن في المجتمع العراقي ، وصدىً كبيراً في الوطن العربي آنذاك . ومما تضمنه القانون الجديد رفعه للشروط التي فرضها القانون السابق على صاحب الامتياز ، وجاء في المادة العاشرة منه : " أنه ليس للحكومة أن تعطل صحيفة سياسية حزبية معلن فيها أنها لسان حال حزب سياسي مجاز قانوناً إلاّ بحكم من المحكمة . كما نقصت التأمينات التي ينبغي على صاحب الامتياز أن يدفعها وأصبح في مقدوره الاستفادة من ربح مبلغ التأمينات بإيداعه في البنوك ، وقد نزع حق إلغاء الجريدة أو المجلة وتعطيلها أبدياً من مجلس الوزراء ومنحه للمحاكم ، فهي وحدها صاحبة هذا الحق الخطير في عالم الصحافة ، ولم تلجأ الحكومة إلى سلاح التعطيل الإداري للصحف إلاّ في حالة واحدة هي تعطيلها جريدة الأحرار لصاحبها الدكتور عبد الجواد الكليدار ، وقد صدرت في 8 حزيران 1933 ، وكانت حجة الوزارة في ذلك أن الأسلوب الذي استخدمته هذه الجريدة في معالجة موضوع حساس يتصل بشعور الرأي العام وتمس وحدة البلاد ، يحمل أي حكومة إلى تعطيلها درءاً للفتنة ، ومع هذا فلم تعطل الحكومة هذه الجريدة إلاّ شهراً واحداً فقط ، فلمّا عادت إلى الصدور لم تنثنِ عن خطتها ، ونشرت أموراً رأت الوزارة فيها ما يستوجب إحالتها إلى القضاء ، فحكمت محكمة الجزاء ببغداد على مديرها المسؤول بالسجن والغرامة وتعطيل جريدته ستة أشهر ، فكان ذلك أخر عهدها بالصدور .
لقد شهدت فترة وجود وزارة الكيلاني بالسلطة وقوع أحداث كبيرة في العراق انعكست على الصحافة العراقية انعكاساً واضح المعالم ، وأشغلت الرأي العام ردحاً من الزمن ، وأبرز هذه الأحداث زيارة الملك فيصل لبريطانيا لمناسبة دخول العراق عصبة الأمم وإعلان استقلال العراق في 2 تشرين الثاني 1932 ، والحدث الثاني هو ماسمي في حينه ب( فتنة الآثوريين) ( التيارية ) التي وقعت صيف سنة 1933 ، وقيام الجيش العراقي بالتصدي لها والظهور بمظهر القوة القادرة على الدفاع عن كرامة العراق وسيادته واستقلاله بالرغم من عدم مرور فترة طويلة على تأسيسه ، وقد وقفت الصحافة العراقية الموقف الذي يفرضه عليها واجبها الوطني وشعورها بمسؤولية توجيه الرأي العام ، فطفحت أنهر الجرائد بالمقالات الحماسية والتنديد بما أسمتهم الضيوف الثقلاء ( من الآثوريين ) الذين أحسن العراق قبولهم وخصص لهم من أراضيه ، وأغدق عليهم فقابلوه بحركة تمرد وعصيان حاولوا فيها أن ينالوا من استقلاله ويثلموا سيادته ويشوهوا سمعته . ويبقى الحادث الثالث وهو موت الملك فيصل الأول ليلة 8 أيلول 1933 وتسنم غازي العرش في8 أيلول 1933.وقد عبّرت الصحف العراقية عن هذا الحدث وعكست مسيرة حياة الراحل ودوره في بناء الدولة العراقية الحديثة . وقد عكست الصحافة ما كان يشعر به العراقيون من قلق على مستقبلهم السياسي في مثل تلك الظروف حيث زال الانتداب ودخل العراق عصبة الأمم وحان أوان البناء والتجديد لكل مؤسسات وأجهزة الدولة .
ألّف جميل المدفعي وزارة جديدة يوم 9 تشرين الثاني 1933 ، وقد بقيت في السلطة حتى 10 شباط 1934 ، ويتفق معظم المؤرخين على أن هذه الوزارة لم تقدم للبلاد بارزاً بارزاً ، كما أن موقفها من الصحافة كان سلبياً ، ومن ذلك إقدامها على تعطيل جريدتي
( الأهالي ) و( الإخاء )،ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل عملت على تعديل قانون المطبوعات مما أثار عاصفة من الانتقاد الشديد للوزارة .
صوت الأهالي :
حين عطّلت وزارة جميل المدفعي جريدة الأهالي ، أصدر السياسي الوطني كامل الجاد رجي جريدة جديدة بدلها تلك هي جريدة صوت الأهالي . وقد صدر العدد الأول في 14 آذار 1034 ، وكان الجاد رجي معجباً بجريدة الأهالي وأسلوب معالجتها للأمور لذلك حذت صوت الأهالي حذو جريدة الأهالي ، وسارت على نهجها . ويعتبر انضمام كامل الجاد رجي إلى جماعة الأهالي خطوة مهمة في مجال الارتقاء بهذه الجماعة وتحولها إلى قوة سياسية أصبحت فيما بعد نواة لحزب جديد ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وهو(الحزب الوطني الديمقراطي) ،ولا شك في أن الجاد رجي أكثر خبرة وتجربة ومعرفة بأمور السياسة من أولئك الشباب الذين أخذوا على عاتقهم إصدار جريدة الأهالي ، وقد انعكس ذلك على جماعة الأهالي الذين بدأت أقدامهم تترسخ في التربة السياسية العراقية آنذاك.
لقد كتب على جريدة صوت الأهالي ترويسة الأهالي نفسها ، فهي جريدة يومية سياسية جامعة يصدرها فريق من الشباب ، صاحبها ومديرها المسؤول المحامي كامل الجاد رجي ، واتخذت شعاراً لها في صدرها قولاً مأثوراً للخليفة الثاني عمر بن الخطاب 
(( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً )) . وقد قالت ( صوت الأهالي ) في مقالها الافتتاحي الأول : " يقاسي الشعب من هذه الأوضاع الكاذبة التي يرزح تحت اعبائها وينوء بمساوئها الكثيرة التي لم تعد تخفى على أحد ، ولم يبقَ في إمكان هؤلاء وأولئك النفر القليل العدد اخفات صوت الاستياء الذي تبديه الأمة في مجتمعاتها ، فقد عرف الناس أن مجرى الأمور في بلادنا تسوقه السلطة الأجنبية إلى جهة تثبت مصالحها وتوطد نفوذها . وقد برهن أولئك النفر على ولائهم للأجانب … ولعل هذا الذي ذكرناه سيكون محفزاً للشباب إلى الانغمار في الكفاح والاندفاع باتحاد إلى إنقاذ هذه الأمة من هذه الألوان والمظاهر ومن التفسخ الذي طغى في المملكة وأصبح حديث الأهلين في كل منتدى " . واختتمت الجريدة مقالها بالدعوة إلى إطلاق الحريات " لكي تبين الصحف بصراحة ما يغمر الشعب من آلام وفوضى ومن سوء الإدارة ، فتدل الذين في الحكم على طرائق حلها . أما إذا ظلّت الوزارات تتبع طريق التضييق على الصحافة ، فإن ذلك سيديم الارتجاع في بلادنا ، وفي ذلك ظلم للأمة ، وإرهاق للمجموع وباعث إلى أمور لا تحمد عقباها … " .
هاجمت حكومة صوت الأهالي قيام حكومة جميل المدفعي بتعديل قانون المطبوعات ووضع العراقيل أمام حرية الصحافة وكتبت مقالات عديدة حول ذلك منها مقال بعنوان " خنق جديد للحريات في لائحة قانون المطبوعات " جاء فيه : " عانت الحريات في هذا البلد ضيقاً عظيماً من السلطات ، فمنذ الاحتلال حتى الآن ، جرت السياسة على وتيرة واحدة في خنق أعز ما يتمتع به الإنسان من حرية القول والاجتماع والنشر وما إلى ذلك . وقد لاقت الصحافة من جراء هذه الحال ظلماً متوالياً ، فكثيراً ما عطلت الصحف دون مراعاة للمصلحة العامة ومن غير أن تنشر تلك الصحف شيئاً يستوجب التعطيل ، ولكن رغبة الوزير أو السلطة الأجنبية كافية لأن تقضي على الصحافة بإشارة واحدة " . ويبدو أن السلطة الحاكمة بدأت تضيق ذرعاً بجريدة صوت الأهالي ، فعطلتها يوم 21 آيار 1934 ، ولم يصدر منها سوى
( 54 ) عدداً .
جريدة المبـدأ :
تشكلت وزارة جديدة برئاسة علي جودت الأيوبي يوم 27 آب 1934 ، ومع أن معظم الصحف العراقية أيدت الوزارة الجديدة إلاّ أن جريدة الأهالي شذت عن ذلك فعطلتها الحكومة تعطيلاً إداراياً سنة كاملة وأوقفت صاحبها المحامي عبد القادر إسماعيل ، كما اعتقلت كامل الجادرجي صاحب جريدة صوت الأهالي ، وجرى معهما التحقيق الدقيق في ما أتهما به وهو اعتناق " مبادئ شيوعية " لكن ساحتهما برئت وأطلق سراحهما . وفي وسط أجواء ساد فيها التوتر بين الحكومة والمعارضين لها أقدم السياسي الوطني محمد جعفر أبو التمن لإصدار جريدة باسم ( المبدأ ) وقد برز عددها الأول في 26 كانون الثاني 1935 . وقد رسمت في مفتتح كلامها بعنوان " بيان إلى الشعب العراقي الكريم " وبتوقيع صاحب ( المبدأ ) رأيها في الموقف السياسي فقالت : " الحالة التي نلمس آثارها السيئة أينما التفتنا اليوم تجعل الحاجة إلى ذلك الإصلاح المنشود أكثر من أي وقت مضى ، أن الأسس التي يجب أن يُبنى عليها الإصلاح لتنفيذ المبادئ السامية الموصلة إلى هذا الإصلاح هي :
1 ـ أن نخلص في جهودنا لتوحيد صفوف أفراد الشعب وجمع كلمة أبناء البلاد للوصول
إلى هذه الغاية ، لأن إتباع الاختلاف والتنازع بين من تهمهم مصلحة البلاد من أبناء
الشعب مما يستوجب الفشل ويذهب بالجهود سدىً .
2 ـ أن تتبادل الثقة بين الرجال القائمين بالإصلاح وأفراد الشعب ، لأن فقدان الثقة يؤدي
حتماً إلى انحلال القوى ، وبفقدان الثقة يستحيل بذل الجهود لتوحيد الصفوف وتحقيق
أماني الشعب .
ومما تضمنه البيـان كذلك قول محمد جعفر أبو ألتمن : " أطلب من أبناء بلادي الذين ولدوا في العراق وتربوا وترعرعوا في أرضه ، أن يضعوا حداً لسياسة المماشاة المصطلح عليها بـ ( الاعتدال ) لأنها سياسة ضعف أنهكت قوى الشعب خلال السنين الماضيات ، وأن يكونوا بالمعنى الصحيح إيجابيين عندما تقتضي مصلحة البلاد الإيجاب وسلبيين عندما تقتضي مصلحة البلاد السلب ، وأن يروضوا نفوسهم ويعودها على التضحية في سبيل مصالح أمتهم ، وعلى الاستماتة في سبيل حياتها ، وأن يزهدوا في حياتهم المادية في سبيل مصالح البلاد ، وأن يتذكروا دائماً أن أعمال المصلحين يجب أن تكون للمجموع لا للفرد ، فإن إخلاص الزعماء والقادة في أعمالهم وتضحيتهم في سبيل مصالح شعبهم هي المثل العليا لسائر طبقات الشعب والقدوة الحسنة للرجال العاملين .
عالجت ( المبدأ ) أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ومن ذلك كتابة المقالات التي تفضح السياسة النفطية للعراق آنذاك وانتقاد الحكومة لانتهاكها حريات الشعب والانتصار لقضايا العمال ومطالبة الحكومة بالإصلاحات التي تحتاجها البلاد ، وأظهرت في كل ذلك نزعة تقدمية ، وعندما تألفت الوزارة المدفعية بعد استقالة وزارة علي جودت الأيوبي يوم 5 آذار 1935 علّقت قائلة : " تسقط الوزارات وتتألف ، وتحل المجالس دون أن يشترك الشعب في ذلك أو يكون له رأي . وقد برزت هذه المهزلة في أجلى صورها بتشكيل الوزارة الجديدة التي تألفت ( بعض أعضائها ) من الوزارة السابقة ودخلها أربعة لا يفترقون عمن خلفوهم بشيء ، فأي أمر من الأمور ينفع الشعب وأي شيء يؤمل من هذه التغيرات " . ثم واصلت الجريدة هجومها على الوزارة الجديدة قائلة : " أن هؤلاء الذين خبرهم الجمهور طوال السنين التي كان بيدهم الأمر سيسيرون كما ساروا من قبل من غير خطة ولا مبدأ ، وأن المرء ليلمس ضعفها من الآن ، ولسنا منتظرين من هذه الوزارة ومن على شاكلتها أن تغير شيئاً في هذه الأوضاع التي أوصلت الشعب إلى هذه الدركة وسوء الحال لأنها هي بنفسها وليدة هذه الأوضاع " ، لذلك أصدرت الحكومة قراراً بتعطيل ( المبدأ ) تعطيلاً ادارياً ولما يصدر منها أكثر من 33 عدداً .
جريدتي الأخاء الوطني والبيان:
أما جريدة ( الأخاء الوطني ) التي أصدرها حزب الأخاء الوطني ، فقد ظهرت يوم 17 كانون الثاني 1935 * ، وتولى تحريرها في هذه المرحلة المحامي محمد يونس السبعاوي ، وقد قامت بحملات شديدة على الحكومة وصوّرت هياج الرأي العام ، وشرحت حركات المعارضين واحتجاجاتهم وأساليبهم شرحاً مؤثراً في الجماهير ، لذلك لم تتحملها الوزارة فعطلتها ادارياً لمدة عشرة أيام ، ولم ينقضِ على صدورها سوى اسبوعان . كانت
( الاخاء الوطني ) " جريدة راقية ، غزيرة المادة في الموضوعات السياسية العامة وشؤون البلاد العربية ومباحث الاقتصاد ، فضلاً عن براعتها في النضال السياسي الداخلي " ، ولكنها لم تصدر بعد انقضاء مدة التعطيل إذ أُريد تأسيس مطبعة لها فقصد محررها إلى مصر لشراء المطبعة ، فسقطت الوزارة خلال هذه المرحلة ، وتولى الحكم ياسين الهاشمي ، وكان معظم وزرائه من حزب الأخاء ، لذلك انصرف محررها عن العمل الصحفي . أما الصحف الأخرى وهي ( العراق ) و ( العالم العربي ) و ( الاستقلال ) و ( الطريق ) فكانت تؤيد
صدرت الأخاء الوطني لأول مرة في بغداد يوم الأحد 2 آب 1931 ، وكانت جريدة يومية سياسية
صاحبها علي جودت الأيوبي ومديرها المسؤول عبد اله حافظ .
صدرت جريدة باسم ( الوحدة ) ، صاحبها عوني عبد الله ومديرها السؤول درويش لطفي معروف ، وقد كانت لسان حال( حزب الوحدة الوطنية ) وهو حزب نيابي يشد أزر الوزارة . وأخذت جريدة ( الوحدة ) تظهر مرتين في الأسبوع من يوم12كانون الثاني1935، وكتبت مقالات وافتتاحيات بلهجة قاسية وبأسلوب موجع بالطعن بخصوم الوزارة ، وأكثر ما تناولت بعض أقوال الجريدتين المعارضتين ( المبدأ ) و ( الإخاء الوطني ) ، يقول روفائيل بطي عن هذه الجريدة : " أنها لم تكن جريدة ذات شخصية ولا حس لها بصدى في الجو السياسي ، فلم يحفل بها الجمهور " . ولم تعمر صحيفة الوحدة أكثر من حياة الوزارتين اللتين أيدهما حزب الوحدة النيابي ، فغابت عن الوجود بعد عددها الصادر يوم15 آذار1935 .
لقد كانت الظاهرة اللافتة للنظر في هذه المرحلة ، أنه ندر أن أقبل الناس على جريدة غير معارضة أو لا يضطرم بين سطورها الإحساس الوطني والشعور القومي . فالشعب العراقي بطبيعته يصد في الغالب عن الصحف المؤيدة للحكومات والأوضاع الراهنة بحسب الظروف والأحوال ، ويقبل أعظم الإقبال على الصحف الوطنية أو المعارضة التي تستخدم اللهجة العنيفة والانتقاد المرير ، لهذا كانت الحكومات تقدم على تعطيل هذه الصحف وخنق أصواتها ولم يشذ عن هذه القاعدة أرحب رؤساء الوزارات صدراً وأكثرهم أناة على حد تعبير الصحفي العراقي روفائيل بطي .
ظلّت البلاد بعد تعطيل جريدة الأخاء الوطني لجريدتي الأخاء الوطني والمبدأ خالية من جريدة معارضة ، لذلك لم يرتضِ الوطنيون المعارضون لأنفسهم أن يبقوا بلا جريدة ، فنزل إلى المعترك الصحفي والسياسي حكمت سليمان ، وهو من الوزراء السابقين ، وأحد أقطاب المعارضة، وكان من أركان حزب الاخاء الوطني ، وفي ذلك الظرف السياسي الخصب سعى لجمع الصفوف . وكان لشخصيته المحبوبة ولخلقه النبيل أكبر الأثر في كسب ثقة رفاقه من المشتغلين في الميدانين الصحفي والسياسي . وقد أصدر جريدة باسم ( البيان ) لتحل محل جريدة المبدأ ، وقامت ادارة جريدة ( الأهالي ) بالإشراف على إصدارها . وقد جاء في ترويسة ( البيان ) أنها " جريدة يومية سياسية جامعة " وفي صدر الجريدة الذي منح امتيازها في 12 كانون الأول 1934 نشر مقال لمحمد جعفر أبو التمن بعنوان " من الخطر على سلامة الدولة جاء فيه : " أن الوضع الذي تنتهك فيه الحريات وتخرق القوانين وتجري فيه أنواع المظالم وترتكب شتى الخطايا وأنواع المخالفات هو الذي حال دون صدور جريدة
( المبدأ ) اليوم ، لأن الذين يؤيدون هذا الوضع ولا يزالون يحرصون كل الحرص على استمرار الانتفاع منه دون الشعب لا يريدون أن تنكشف حقيقته …هذا الوضع الذي حلَّ والبلاد بأشد الحاجة إلى القيام بالأعمال المؤدية إلى رفاه الشعب واطمئنانه وتقدمه " . ولم يصدر من البيان سوى العدد الأول ، إذ أقدمت الحكومة على تعطيلها ، ولما عقدت الوزارة الهاشمية الثانية ( 17 آذار 1935 ـ 29 تشرين الأول 1936 ) اتفاقية السكك الحديد بين العراق وبريطانيا ، أصدر حكمت سليمان العدد الثاني من جريدته ( البيان ) وفيه مقال ينتقص من وطنية الوزارة ، لذلك عطلت الجريدة ثانية بعد عدد واحد من صدورها يوم 7 نيسان 1936 ، ولم تكتف الوزارة بتعطيل الجريدة ، بل صادرت حروفها وحاصرت المطبعة بقوة من الشرطة لتحول دون ظهور عدد آخر منها .
لم ينقضِ على تولي وزارة ياسين الهاشمي الثانية الحكم غير أيام معدودة ، إذ صدرت إرادة ملكية بحل المجلس النيابي يوم 9 نيسان 1935 ، وقد أراد حزب الإخاء الوطني أن يظهر بمظهر الحزب الذي يريد " توحيد كلمة البلاد " لمواجهة ظروف العصيان والتمرد التي نشبت في بعض أطراف البلاد فأصدر قراراً يوم 29 نيسان 1935 عطل فيه جلسات الحزب، كما أوقف الحزب الوطني أعماله كذلك ، فخلت البلاد من وجود الأحزاب السياسية القائمة وتبع ذلك أن لم يعد للصحافة الحزبية العلنية أثر في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ العراق المعاصر .
وخلال هذه المرحلة ظهر الحزب الشيوعي العراقي السري الذي تأسس في 31 آذار سنة 1934 ، وإصداره جريدة سرية باسم ( كفاح الشعب ) وذلك في منتصف سنة 1935 ، وفي 29 تشرين الأول 1936 حدث انقلاب بكر صدقي وتشكلت وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان ظلّت في الحكم حتى 17 آب 1937 ، وبعد الانقلاب شكّل جماعة الأهالي جمعية الاصلاح الشعبي وأجيزت رسمياً في 15 تشرين الثاني 1936 ، وبعد اجازتها اصبح كامل الجادرجي سكرتيراً لتحريرها ، وعادت الأهالي إلى الصدور ، وقد حاول جماعة الاصلاح الشعبي تحويل جمعيتهم إلى حزب سياسي ، إلاّ أن وزارة الداخلية رفضت ذلك وسارعت إلى إغلاق الجمعية نفسها .
ساندت جمعية الإصلاح الشعبي انقلاب بكر صدقي وحكومة حكمت سليمان ( 29 تشرين الأول 1936 ـ 17 آب 1937 ) ، وشغل كامل الجاد رجي وزارة الاقتصاد والمواصلات ، وسخّر جريدة الأهالي لدعم هذه الوزارة ، لكن الخلاف سرعان ما نشب بين كامل الجاد رجي ومحمد جعفر أبو التمن من جهة رئيس الوزراء حكمت سليمان من جهة أخرى . فقد كان الجاد رجي يعتقد أن حكمت سليمان أصبح ضعيفاً أمام قائد الانقلاب بكر صدقي والعسكريين ، لذلك قدّم استقالته من الوزارة في 26 مايس 1937 . كما قدّمها كذلك محمد جعفر أبو التمن ويوسف عز الدين وصالح جبر ، وقد تعرض الجاد رجي بسبب اشتراكه في حكومة الانقلاب العسكري ودعمه لها إلى نقد الكثيرين على أساس أنه سلوك يتنافى مع المفاهيم الديمقراطية التي كان ينادي بها ، وقد برر الجادرجي موقفه هذا في مقالٍ نشر في جريدة صوت الأهالي قائلاً : " … أن الاشتراكيين الديمقراطيين يعتبرون الثورة مشروعة ، لإزالة نظام حكم رجعي ، للمجيء بنظام تقدمي على شرط أن تكون الوسائل الديمقراطية متعذرة " . ويعلق الدكتور محمد عويد الدليمي . على ذلك بقوله : " ولكن هذا لا يمنع من القول بأن اشتراك الجادرجي في ذلك الانقلاب ، كان من التجارب القاسية التي شكلت ولمدة طويلة موقفه المتشكك والحذر من الانقلابات العسكرية " .

* http://almadasupplements.com/news.php?action=view&id=7028

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ويومكم مبارك ورمضانكم كريم

  ويومكم مبارك ورمضانكم كريم ونعود لنتواصل مع اليوم الجديد ............الجمعة 29-3-2024 ............جمعتكم مباركة واهلا بالاحبة والصورة من د...