الخميس، 28 مارس 2013

الكاتب العراقي الحر الاستاذ ابراهيم صالح شكر يكتب عن ولده رياض

من ادب الصحافة..ابراهيم صالح شكر يكتب عن ولده

خالد محسن اسماعيل
باحث عراقي راحل
لم تعرف الصحافة العراقية في تاريخها الحافل صحفيا مهاجماً عنيفا دامياً  مثل الكاتب الحر المرحوم ابراهيم صالح شكر. فقد تصدى، وهو فرد لحكومات  واحزاب وزعماء وسياسيين وصحف وكل من تجرأ على حرمة الوطن وقضيته، خل عنك  الاستعمار، رجاله ومخططاته وسياسته ومعاهداته لذلك عاش الرجل، العمر كله،  في ثورة متأججة متصلة اللهب اتت على كل من كان في الساحة يومذاك، وكان اول  من احترق بشواظ هذا اللهب المستمر ابراهيم نفسه!.

كان شهابا لمع بارقه في سماء العراق ثم احترق. إلا ان هذا القلب الحديد الذي لا يرحم اذا هاجم ولا يعفو اذا خاصم، كان اضعف من ورق الورد اذا اتصل الامر بأهل بيته وذويه وبخاصة ولده (رياض). فقد كانت وراء قوته عاطفة مستكنة في الاعماق (والعاطفة ضعف في الانسان كما كان يقول)، ولعل سر قوته كامن في هذه العاطفة الاسرة.
وانك لتعجب كيف (يتصاغر) الانسان لمن يحب فيذوب فيه حتى ليكاد يتلاشى وجداً ورضى، وكيف (يتجبر) على من يخاصم فيتعالى عليه ويتصدى له ويصارعه وان تجمعت في مخالبه شراسة اهل الارض جميعا، والانسان، في الحالمين، هو الانسان: لحم ودم!.
ويبدو لي، من الجانب الاخر، ان ابرز اسباب تعلق (رياض) بابيه بل فنائه فيه ان ابراهيم كان هو (البطل) في حياة رياض، وهكذا عاش الاثنان معا في ظلال ابوة حانية طاغية الحنان. وبنوة بلغت حد الفناء في (البطل) الوالد.. مالي الدنيا وشاغل الناس.
1- ولد (رياض) في ايلول 1924، وهو الابن الكبر لأبيه، ونجد اول ذكر له جرى به قلم ابراهيم فيما كتبه في عدد "الزمان" الصادر في 9 ايلول 1927 لبلوغ ابنه الثالثة من عمره، كتب ابراهيم صالح شكر يقول:
في غد يبلغ ولدي "رياض" السنة الثالثة من عمره، وبعد ظهر غد يتخطى الى السنة الرابعة، فيضع قدميه الصغيرتين على بابها، والافراح ملء طفولته، والوداعة ملء افراحه و"العابه" فلا فكرة تساوره بما اعده له من مستقبل، ولا عناء يخامره بما اسعى اليه من اجله، ولا خطرت لأحلامه "ولاية العهد" في جريدة "الزمان" ولا تمنى علي ان يعقبني في هذه "الجريدة" او يشاطرني شقاء هذه "المهنة". وكل ما يعرفه انني "احنو" عليه وانني اخدم "غايته" وانني احقق "رغباته" وانني طغني" اجود عليه في كل صباح "بآنات" يتبرع ببعضها على اصحابه من اطفال الحي، وينفق البعض الآخر على "شهواته" و"مشتهياته" وانه يعرف ان "مع السلامة" كلمة لطيفة فيشيعني بها عندما اغادره في الصباح! وعندما يجدني مرتاحا اميل الى "مباسطته" يحييني "برفع يده" ثم يصافحني ثم يقبل "لحيتي"، وهذا كل ما يعرفه وليس فيه ما انقم منه، وليس فيه ما لا ارتضيه له، فالسلام "سنة الاسلام" وهو "مسلم"، والمصافحة "شعار المؤمنين" وهو "مؤمن" والتقبيل" – اذا كان في الخدود – حاجة ضرورية "لذوق الانسان" وتنمية إحساسه! واني اريد له "الذوق" الذي لا ينافي الاحساس الفياض بالعواطف، وان كانت العاطفة ضعفا في الانسان!.
اما ما اكرهه فيه فهو "إسرافه" في الانفاق على لذاته واصحابه وشهواته، وقد احرجني هذا الاسراف حتى اصبحت مضطرا لأن احمل في "كيسي الانات من اجله وما تعود "كيسي" عليها!.
ولولا انه في "الثالثة" من عمره، لتوهمت انه يتعمد "تبديد ثروتيط بعد ان وجدها وافرة كثيرة، وبعد ان وجد ارباب "رؤوس الاموال" يعدونني بينهم، ويحسبونني منهم، ولكنه "طفل" لا يعرف عن "الاشتراكية" شيئا حتى اتوهم فيه "مقاومة ثروتي"، او ان انظر اليه نظر "المستر بلدوين" المحافظ القح الى ولده الاشتراكي البحث!.
ولا يدع ابراهيم صالح شكر الفرصة تمر من غير ان يغرز مهمازه في ضلوع الاخرين.
ولو كنت استطيع اقناعه بالمنطق والحجة لاقنعته بان "ثروتي"  إنما اهتم بجمعها وتوفير مقاديرها ليصبح بعد ان يبلغ اشده "رجلا عظيما" ما دامت "العظمةط في الحياة "للمال". ولكنه "طفل" لا تقنعه الحجة، ولا يقيم للمنطق وزنا، وهو معذور على ذلك، "فالشيوخ" هنا ما اقنعتهم حجة، وما جنحوا لمنطق، فكيف به اذا كان "طفلا" لايتجاوز الثالثة من سنيه إلا في ظهر غد؟ هو الان يدرك "اسباب الحياة" في هذا المجتمع الشره الطماع، ولكنه متى اصبح رجلا سوف يدرك ما هيأته له من مقومات الحياة، وسوف يقدم لي الشكر الواجب المحتم على ذلك).
وكأننا بابراهيم صالح شكر وقد اطمأن الى الغد الرغيد، وكأن الايام سالمته فانهمرت عليه الاحلام انهمار زخة مطر ربيعية.
(ففي عام 95 سوف يجد "بناية كبرى" مساحة ارضها "ميل مربع"، عمل في تقسيم غرفها "وصالوناتها" الفن الهندسي فابرزها ضخمة فخمة، والناس يمرون بها ويقولون هذه "إدارة جريدة الزمان"، وفي الجهة الفلانية منها "مكتب صاحبها الشيخ"، وفي تلك الجهة "رئيس التحرير"، وهناك غرفة "المحررين"، وفي ذلك الجناح "مطبعة الزمان" وفيه "مديرها"، وفي الظرف الاخر منه "الجهاز اللاسلكي" الخاص بهذه الجريدة التي اصدرها "الشيخ العصامي" في عام 1927 بحجم صغير، فاوصلها بجهده الى هذا الحجم الكبير وهذه المادة الغزيرة، وهو الان يعد "ولده رياضا" ليخلفه في شؤون هذه الجريدة فهو "ولي عهده" فيها، وفي ذلك الوقت فقط يدرك جهود هذا "الاب الرؤوف" ويقدر ما انا عامل عليه منذ الان. وعندما يرى ذلك كله ويقدر "عظمته" ويشعر "بخطورته" يعلم انني انما "كنزت ثروتي " في المصارف" والبنوك لما كان طفلا واحتفظت بها لاتركها له لامعة رائعة. ان فراستي تدلني على ان "رياضا" سوف يكون من "دهاقين السياسة"، فهو منذ الان يعرف كيف يستهويني اليه، وكيف يحبب نفسه الي، وكيف يصطنع "الصلابة" في مواضعها، وكيف يستعمل الهوادة في محلاتها شأن السياسي الحاذق الماهر، وليس شأن "المبيضة لحاهم" من "المتزعمين".
واذا، فهو جدير بان يتسلم شؤون هذه الجريدة في عام "1950" بعد ان يرجع من اوربة حاملا شهادة "الليسانسية" في العلوم "الدبلوماسية" من معاهد العلم الكبرى. وفي ذلك اليوم اتنحى عن هذه الجريدة وابارك "لولي عهدي" فيها، على ان يبيح لي في كل صباح "تقبيله" لانه حقق املي فيه فكان "نعم الخلف لنعم السلف". والمستقبل كشاف).
كان هذا اول حديث لابراهيم عن "رياض" وهو اطول حديث عنه ايضا، فما تحدث عنه، بعد ذلك، هذا الحديث المتراخي المتداعي المسترسل يفصح عن جملة امور اهمها:
ان "الزمان" تكتسح جرائد العشرينات...
والايام تسير رغدا...
والمستقبل يتلألأ، في افق ابراهيم بهيجا وضاءً..
والاحلام تطوف بالخاطر كأنها الحقائق التي لابد ان تكون!
ترى.. ما الذي ستحققه الايام من حلو الامنيات؟
2- وكتب في عدد "الزمان" الصادر في 1 أيار 1928 (11 ذي القعدة 1346 هـ) كلمة غاضبة في ذكرى مولده هو، استعرض فيها حياته القصيرة (كانت ولادته عام 1892) وما كابد فيها من سجن ونفي واضطهاد، مصرحا بزهده في الحياة ان اقبلت او ادبرت سوى ان يرى (كيف يقوض الاجنبي خيمه من وادي الرافدين... وكيف يعيش العراق ناعما بالاستقلال التام)، ثم لا يذكر في موقفه هذا إلا ابنه (رياضا):
(اما ولدي "رياض" فاني اتركه الى نفسه، فاذا استطاع ان يكون شيئا مذكورا كان، واذا لم يستطع فانه يستحق مني ان لا افكر به).
واقتران "رياض" باستقلال الوطن يصرح بالهموم التي كانت تقلق ابراهيم صالح شكر في دنياه..
3- ويذكره مرة اخرى يوم حققت "الزمان" انتشارها المتألف وعادت عليه بالربح الوفير فملك يومئذ "التامينات القانونية" المطلوبة لاصدار الجريدة بعد ان كان قد دفعها، يوم صدورها، احد اصحابه الوزراء (فكانت اجرة طبعها بالدين، وكان ثمن ورقها بالدين الذي لا فائض له). فكتب في عدد "الزمان" الصادر في 27 اذار 1928 يغيظ اعداده الذين كثيرا ما اغاظوه وافقروه، فأعلن انه اصبح في مقدوره ان يدفع "التأمينات" وقدرها "الفا ربية" هي ملك له لايشاركه فيها احد سوى ولده "رياض".
(وتحرير الخبر ان "المشتركين" الكرام دفعوا "بدل الاشتراك" فلم ابدده ولم اضعه في غير مواضعه، وانما جمعت متفرقاته فكان منها هذه "التأمينات" التي تصدر بها "الزمان" ، واذا مت فلي ما يكفي "الكفن" واسباب "الجنازة" ولولدي "رياض" منها ميراث لا سحت فيه ولا حرام).
4- وحين هاجر ابراهيم صالح شكر مغاضبا في عام 1928 موليا وجهه شطر سوريا ولبنان وشرقي الاردن وفلسطين ومصر، كان يحمل معه "مفكرة" صغيرة لا يتجاوز حجمها حجم الكف دون فيها – فيما دون – هذه الكلمات ، وكأنه يلتمس اوهى الاسباب ليذكر، على البعد، ولده "رياضا":
(الاثنين 22 تشرين الاول...
اليوم كنت مدعوا من ياسين، ومحمد عبد، وكيل المعتمد النجدي في دمشق على طعام الغداء، وكان معنا نجيب الريس، وفخري البارودي، وعبد اللطيف العلي، ومحمد النحاس، والغريب ان ولد العلي اسمه رياض، وولد نجيب اسمه كذلك، وولدي رياض ايضا.).
5- ومن دمشق والقاهرة كان كثير الكتابة الى اصحابه في بغداد، يصف لهم ما يرى ويسألهم عما ابتعد عنه، ثم يسلم على جميع الاصدقاء واهل قهوة شكر ويقبل "رياضا".
6- وبعد ان ضيق عليه الانكليز واجبروه على مغادرة مصر عاد الى دمشق ليصدر فيها جريدة باسم "الفرات" فمنعه الفرنسيون من اصدارها كما كان يخطط فكتب في 31 كانون الاول 1928 رسالة الى احد اصحابه تتأجج كلماتها ثورة ووعيدا، ولكنها تتلألأ باسم ولده "رياض". ويقف الباحث متأملا طبيعة العلاقة بين حب ابراهيم صالح شكر لوطنه وارتباطه بحبه لولده "رياض":
(وحقك سوف افضح المستور، واهتك المحجوب، بالحق وبالباطل، ولكني الى الحق اميل ما دام بحاله واسعا في العراق المهان بحكومته الذليلة، الذليل باستقلاله الكاذب، واذا ابى القدر الماجن إلا معاندتي فاني اعرف كيف ارجع الى العراق لاعطي الدرس القاسي في الموت الشريف، فلست اريد ان اموت بعيدا عن اهلي وولدي الذي افيض حبا له وحنواً عليه، ولكني من اجل هذا الحب والحنو يجب ان اكون هكذا.).
- وبعد عودة ابراهيم الى بغداد كتب في جريدة "المستقبل في 29 كانون الاول 1929 تحت عنوان "من رحلة محرر" المستقبل "في احياء العرب" يصف ليلة خروجه مهاجرا من بغداد. (وكانت ليلة الاثنين ليلة ملسوع، مهاده حسك الارض، ومضجعه فناد الغبراء، حتى اذا صاح الديك، وانبثق فجر الليل الكئيبة، قمت اودع الاهل والاسى يثير الاشجان، ويصارع الزفرات. وقد ابت عاطفة الابوة الملتهبة الا ان تختلس نظرة من "رياض" وهو في سريره يداعب الافلاك، ويلاعب الكواكب، ويماجن القمر الوضاء في نومه الناعم المطمئن.
ولما اشرقت شمس اليوم الرابع من تشرين الاول عام 1928 كانت السيارة تطوي فجاج الارض الواسعة، وكانت بغداد خيالا ضئيلا يلوح بين باسقات النخل، ورؤوس المآذن الشامخة،فادرت اليها طرف راحل ترك فيها اهله وولده وذويهن ولهفيها ذكريات ذا لم تكن بين ملاعب "رياض" ومسارح طفولته، فهي بين قبور الاباء واحداث الجدود).
8- ويوم استأنف كتابة سلسلة مقالاته عن "حتروش" في مجلة "الوميض" في شباط 1930 بعد ان كان قد بدأها في "الزمان" ثم في "المستقبل"، كتب يقول:
(فان رأيتني اعود اليوم الى حديث "حتروش" فما هي ارادتي، وما انا متطلبها، وانما هي ارادة "الوميض" و"الوميض" صحيفة الشباب المتطلع الى الحياة بعزيمة صادقة، ومضاء قوي.
وللشباب علي دالة هي دالة "رياض" و"رياض" ثمالة الامل، وصبابة الرجاء، ثم انه قطعة من الشهد الحلوة اللذيذة التي وضها القدر في كأس الحياة المريرة، ثم انه "رياض").
ورياض.. قطعة الشهد وثمالة الامل وصبابة الرجاء كان يومئذ في السادسة من عمره.
9- وفي استقالته المشهورة من وظيفة "مدير تحرير لواء بغداد" التي رمى بها وجه "صاحب السعادة المحترم متصرف لواء بغداد" في 23 كانون الثاني 1931 صرح بانصرافه عن الوظيفة وزهده فيها لولا اضطراره اليها اضطراراً:
(ولما عطلت صحفي الواحدة بعد الاخرى، ولما سدوا في وجهي سبل الارتزاق النبيل، ولما لم يبق في يدي من اوراق الحياة إلا ورقة واحدة هي "ورقة التوظيف"، مسكتها لامسح بها جبين الطفل المعصوم، ودمعة الصبية البريئة، والزوجة المخلصة الصبور).
10- وتتوالى الايام على ابراهيم صالح شكر.. بين مد شحيح وجزر مدمر طاغ، فاذا به خارج الوظيفة، واذا به مستخدم في وظيفة متواضعة، واذا بالامراض تنقض عليه، واذا به طريح فراش يخفي تحت وسادته "وصفة" طبية تبحث عن ثمن الدواء.. ولاتجد!.
وفي 6 نيسان 1944 ومن على فراش المرض يملي ابراهيم على ولده "رياض" اخر رسائله مخاطبا بها احد اصحابه خارج العراق:
(وبعد، فان الالام ينبوع عذب، ولكن "ذات الرئة" مرض وبيل، وهو يلازمني منذ سبعة عشر يوما، وقد وصل كتابك الاخير والشمعة تذوب، والذبالة ترتجف، وما ادري اهذه الكلمات هي آخر ما امليها على ولدي رياض ام اني قادر على ان استقبل مشرق الشمس ومشهد الغروب في مستقبلي المكتظ بالمحن والاكدار..). وحين نسامع اصحابه بما انتهى اليه، ادخله صديقه "محمود صبحي الدفتري" في 4 مايس 1944 المستشفى على نفقته الخاصة، و"رياض" معه لا يفارقه ولا يغفل عن رعايته.
ومع غروب شمس الخامس عشر من مايس 1944 وفي مستشفى "العلمين" في "ارخيته" يحس ابراهيم صالح شكر ان شمسه هي الاخرى ان لها ان تسقط في الظلمة التي لا قرار لها.. لقد آن اوان الأوبة، فما بقي، بعد، زيت في السراج!.
ويلتفت ابراهيم الى رياض، فيلبي رياض نظرات ابيه، ثم يفهم منه انه يشير اليه ان: اذهب الى البيت، فسارع رياض الى حيث اشار والده لعل في تلبية ما طلب راحة للجسد المتعب المهدود، وما درى انه الفراق الذي لا وداع معه، وانها الابوة في احلك لحظاتها تؤدي فريضة الحنان كي لا يشهد رياض موت ابيه امامه..!.
وتبحر النفس الابية المعذبة الى حيث يبحر الناس جميعا ولا يعودون..
يقول اهل بيت ابراهيم فيما حدثني به اخي "مليح ابراهيم صالح شكر".
لقد اصاب موت ابراهيم من ابنه رياض مقتلا، فاذهله اول الأمر، ثم اسقطه يوم آمن بالواقعة ، ثم اضناه حين كف عن طعام وشراب، ولكنه كان لا يكف عن النحيب، وكثيرا ما استيقظ الاهل المفجوعون بالوالد وبالولد معا في تلك الليالي المشهودة فلا يجدون "رياضا " في فراشه ولا في البيت.. واذا بباب الدار مفتوح وطريق المقبرة يردد بقايا نشيج مكتوم، ومقبرة الغزالي غارقة في الظلمة الموحشة، ورياض يحتضن قبر أبيه ويبكي.. يتمزق حسرات على الذي رحل بلا وداع!.
وكان فراق بين رياض وحياة الناس بعد رحيل ابيه.. فما رقأ له دمع، ولا كف عن توجع مكبوت، سلوته.. ذكرى تغشاه ليل نار، وزيارات يأنس فيها بالحبيب القريب البعيد، وامل قريب – لا ابعد منه – في ان يسمع الراقد تحت التراب نداءه يوما فيجيب.. حتى كانت ليلة العيد..
ولعله، كان العيد الاول بعد وفاة ابيه، فكتب رياض، بعد زيارة للقبر، هذه السطور بالحبر الاخضر بخطه موقعة بتوقيعه من غير ان يفصح عنها تاريخ او اشارة، ويومها تأكد له ان لا سبيل بعد الى ابيه.. لقد فقده الى الابد:
(اليك.. اليك يا أبي في مثواك العزيز في ليلة العيد، لعلني اراك، ولعلني امسع ذلك الصوت الحنين ابي.. دخلت السور الذي يحيط بمثواك والليل شديد الظلام، فصاح "بواب المقبرة" : من هذا؟ فقلت له: اجعلني اليه الى حيث يرقد الوالد الحبيب، وقفت بجوارك يا ابي بكل خشوع ورهبة لعلني اسمع ذلك الصوت الجميل ولكن.. هيهات. ناديت: يا ابي لقد جئتك الليلة.. ليلة العيد، فاختفت كلماتي وسط النحيب عند قبرك اردد البكاء والنحيب لعلك تسمع توسلات ابنك الحزين ولكن هيهات.
ابتعدت يا ابي عنك ولي العذر في ذلك وسط الرعب الذي ملأ قلبي وتوسلات "البواب"، وتأكدت في هذه اللحظة باني قد فقدتك يا ابي الى الابد، وفقدت كل شيء بفقدك حتى قبلائك في يوم العيد يا والدي الحبيب).
لقد آمن رياض يومذاك انه فقد اباه حقا، وفقد به كل شيء حتى قبلاته الحنونة في يوم عيد.. ليت شعري.. هل علم ابراهيم صالح شكر اي ميراث تركه لرياض – امله الحلو الاخضر – يوم تركه وحيدا ضعيفا كالنبتة الصغيرة في صحراء ضاربة؟
وتتوالى الايام على "رياض" ثقيلة بالهم والجوع الوداء فينوء باه فتى العشرين خريفا.. الذكرى لا تفارقه، والحزن يذيب القلب حسرات، والداء الوبيل ينهش ولا يشرب غير دماء الصدور..
ويسقط صريع السل! فيرسله أهله الى لبنان لعله يجد هناك شيئا يعيد اليه شبابه او عافيته، ولكن.. لا أمل يعشو على اثر من ضياء.. فلم يبق في السراج زيت يضيء.
ويوم عجز حنان الابوة عن ان يجمع الابن الى ابيه كان المرض اقوى وارحم.. لقد جمع بينهما السل على عجل في مصير واحد.
ففي يوم من ايام عام 1946 ابحر رياض.. بقية ذبالة اطفأتها ريح العذاب والغربة..
ابحر رياض الى حيث يبحر الناس جميعا لعله يسعد هناك بلقاء الحبيب الذي رحل بلا وداع!.  

مجلة افاق عربية 
http://www.almadasupplements.com/news.php?action=view&id=48571977

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....