الجمعة، 1 مارس 2013

أدوات تحقيق النصوص عند عاشق المخطوطات الاستاذ الراحل عصام الشنطي-رحمه الله *

أدوات تحقيق النصوص عند عاشق المخطوطات الاستاذ الراحل عصام الشنطي-رحمه الله *
بحث وتحقيق
عبد اللطيف زكي أبو هاشم
مدير دائرة المخطوطات والآثار
– غزة – وزارة الأوقاف والشؤون الدينية

للتُّراثِ أهميَّة كُبْرى في حياةِ الأُمم والشُّعوب، ولا يُمكن لأمَّة مِن الأُمم أنْ تتنسَّم ذُرَا الحضارة والتقدُّم إلاَّ إذا كانتْ لها جذورها العميقة وتاريخها العريق وتُراثها المجيد؛ ذلك لأنَّ التراث هو المحصِّلة التراكميَّة بيْن الواقِع التاريخي للأمَّة والواقِع الإنساني، وهو نتيجةٌ لهذا التفاعُل، فالتراث هو حصيلةُ التفاعُل بين المجتمع والواقِع، وبين ما يتمثَّل هذا المجتمع مِن فِكر وعقيدة وبيْن التفاعُل الذي يُحدِثه هذا الفكرُ مع الواقِع، والتراثُ الإسلامي هو ما وَرثناه عن آبائنا مِن ثَقافةٍ وقِيم، وآداب وفنونٍ وصَناعة، وسائر المنجزات الأُخرى المعنويَّة والماديَّة، الثقافيَّة والحضاريَّة. وعن طريقِ التُّراث نستطيع أن نَكتشفَ القِيَمَ القادرة على توجيهِ السلوك وتنظيم العمَل؛ لأنَّ التراث هو الهُويَّة الثقافيَّة للأمَّة، والتي بدونها تضمحل وتتفكَّك داخليًّا، حيث إنَّ المسلمين يتعرَّضون لهذا التفكُّكِ ويَندفعون بقوَّة نحوَ التيَّارات العلمانيَّة، والتُّراث الإسلامي تعبيرٌ صادِق عن أثرِ التوجيه الإسلامي الرئيس لنهضةِ الفِكر والحضارة الإنسانيَّة بصفةٍ عامَّة، فضلاً عن دورِه الكبيرِ المؤثِّرِ في قيامِ الحضارات الحديثة؛ لأنَّ الكتُب لا توجد في أمَّة مِن الأمم إلا إذا تَحقَّقتْ لديها العناصر التي تُمكنها مِن عملية الكتابة، وهي: مواد يُكتب بها، وأناس يَعرِفون الكتابة (النسَّاخ)، وتراث فكري يَحرِص الناس على تدوينه وتداوله؛ لهذا فإنَّ وراءَ الكتابة والعِلم حضارة ترْعَى هذه العناصِر وتعيرها اهتمامها، ومِن هنا نشأتْ حركة الكتابة والكتُب طوالَ التاريخ، وكانتِ النتيجة هذا الإرْث الضخم مِن ملايين المخطوطات في جميعِ أنحاء العالَم في الشَّرْق والغَرْب.

والأمم المتحضِّرة والراقية تضَع تراثها وكتُبها ومخطوطاتها في حبَّات عُيونها، تحفظه وتحافظ عليه، وتنشره بصورةٍ لائقة؛ لهذا قُمنا بإلْقاءِ الضوء على عَلَم مِن أعلام التراث العربي الإسلامي، وهو ابنُ فلسطين البارُّ الأستاذ عصام الشنطي الذي تَصدَّر لمهمَّة التعريف بهذا التراث المشتَّت في خزائنِ الشرق والغَرب، وعرَّف بمؤسَّسات وأشخاص وكُتَّاب ومؤلِّفين أمثال العلاَّمة الكبير أحمد تيمور باشا "صاحب الخزانة التيمورية"، وأحمد زكي باشا صاحب الخزانة الزكيَّة، وعبد السلام هارون، والعلاَّمة المحدِّث الكبير أحمد شاكر، وشقيقه - الأصغر - الأديب المحقِّق محمود شاكر، وفؤاد سيِّد، وعلامة بلاد الشام الشيخ طاهِر الجزائري، وتلميذه الأغرّ العلامة الكبير محمد كُرْد علي، إلى أن يصلنا بالدكتور صلاح الدين المنجد، الذي جاب مكتباتِ الشرقِ والغربِ، وقدَّم لنا عُصارتها ثم قام بتأسيسِ معهدٍ مِن أجل هذا الجانب، وهو معهدُ المخطوطات العربيَّة الذي قام بدَورِه على أتمِّ وجه[1]، وأكمل بعدَه هذا الدَّورَ أستاذُنا الكبير الأستاذ عصام الشنطي الذي أكْمَل رِسالة المعهد، حيث لم يدَعْ مكتبةً ولا خزانةً مِن خزائن الكتُب في الشرق والغَرْب إلا قام بزِيارتها ومعاينتها والكتابة عنها، والتعريف بمقتنياتها، وهذا يَتَّضح لنا مِن خلالِ قائمةِ أعماله التي تَوزَّعت بيْن التعريف والتحقيق والكتابة، وكلها تدور في فلكٍ واحد، ألا وهو "التراث العربي الإسلامي" وكُنوزه في جميعِ مكتبات العالَم .
وقبل أن أتَحدَّث عن أعمالِ هذا الفارسِ وما قدَّمه لتُراثِ الأجداد؛ حيث نذَر نفْسَه من أجلِه، وقدَّم لنا خِدمات جليلة؛ لذلك ارتأينا أن نَقِف وقفة نتعرَّف فيها على محطَّاتِ حياتِه وأعمالِه وكتاباتِه.
• حيثُ وُلِد أستاذنا في مدينة قلقيليَّة سنة 1929، مِن أسرة فلسطينيَّة معروفة بوطنيتها وعَراقتها، وتَلقَّى تعليمَه الأساسي في مدارس فلسطين، ومنذُ نعومةِ أظفاره كان يَميل نحوَ العِلم والتفكير العلمي.

• سافَر إلى القاهرة سنة 1949 بعدَ النَّكبة؛ ليكملَ دِراستَه الجامعيَّة، فالْتحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة - قسم اللغة العربية، وأخذ عن أهمِّ أعلامها مثل د. شوقي ضيف وغيرِه مِن أعلام تلك الفترة.

• حصَل سَنة 1967 على دبلوم الدِّراسات العُليا مِن معهد البحوثِ والدِّراسات العربية بتقدير جيِّد جدًّا، وكان الأوَّل على دُفعته[2].

وقد تبلور توجهُه منذُ تلك الفترة إلى خِدمة تراث الأجداد؛ فقد تولَّى أستاذُنا عِدَّةَ مناصبَ، ولكنَّ المنصبَ الأهمَّ - والذي يَعنينا - هو عملُه في معهد المخطوطات العربية سنة 1967، حيث قام بالتفتيش والبَحث عن الكنوزِ المخبوءة وآلاف المخطوطات الموزَّعة في شتَّى أنحاءِ العالَم وفي عِدَّة أقطار عربيَّة وإسلاميَّة وأجنبيَّة.

• وفي سنة 1989 انتهى عملُه كمدير لمعهدِ المخطوطات؛ بسبب بلوغه السنَّ القانونيَّة، ولكنَّ عطاءَه استمرَّ، حيث كان المعهد هو بيتَه - فُعيِّن خبيرًا متفرغًا وعضوًا في مجلسه الاستشاري منذُ ذلك التاريخ حتى يومِنا هذا، فقد كان له الفضلُ الكبيرُ في إنشاء قِسم "علم المخطوطات وتحقيق النصوص" لطلاَّب الدراسات العليا الذين الْتحقوا بمعهدِ البحوث والدِّراسات التابِع لجامعة الدول العربيَّة، فقام بإلْقاء عشراتِ المحاضرات عنِ المخطوطات ومناهجِ تحقيقها وفَهرستها، ومصادر التراث ومناهج فَهرسته وصُنع الفهارس العلميَّة للمخطوطات، والأعمال العلميَّة المحقَّقة.

نماذج مِن الأعمال العلميَّة والمؤلَّفات للأستاذ عصام الشنطي:
أهمُّ ما تَميَّز به أستاذُنا الفاضل هو إتْقانه لفهرسةِ المخطوطات العربيَّة، حيث قام بصُنع عِدَّة فهارسَ عِلميَّة تدلُّ على خِبرةٍ واسعةٍ وتمرُّسٍ كبيرٍ وتَضلُّع في تُراثنا العربي الإسلاميِّ المخطوط والمطبوع.

فقد قام بعملِ اثني عشرَ فِهرسًا للمخطوطات في أنحاء شتَّى مِن العالَم، عدَا أعمال أخرى في صُلب التحقيق وعن عِلم المخطوطات بشكلٍ عام.

ونَستطيع أن نُراجِع تلك الأعمالَ مِن خلالِ نَشَراتها وطَبَعاتها، وهي موجودةٌ ومتداولة، ولكنَّ الأهمَّ في رأيي هو الشقُّ الثاني، وهو إحياء وتحقيق المخطوطات العربيَّة؛ فقد قام بالتعريفِ والوصفِ لعِدَّة مخطوطات مفقودة، مثل "فضائل البيت المقدس - للواسطي"؛ حيث تَحدَّث عنها في بحثٍ كامل نشرة في مجلة المعهد[3].

كما أنَّه قام بتعريفنا بأهمِّ أعلام التراث العربي الإسلامي، وهم د/ صلاح الدين المنجد، فقدْ كتَب عنه مقالةً قيمةً في مجلة المعهد، عرَّف مِن خلالها بجهوده الكبيرة في خِدمةِ تُراثنا الزاخر، ثم تَناول عَلَمًا آخر لا يقلُّ عن سلفِه المنجد، ألا وهو علاَّمة الجزيرة المحقِّق الكبير الأستاذُ حمَد الجاسر؛ حيث تناولَ كتابه الذي يُمثِّل شخصيته في البحثِ والتنقيب عن التُّراثِ والمخطوطات، وهو كتاب "رحلات حمَد الجاسر في البحثِ عن التراث".

وهناك العشراتُ مِن مقالاته وأبحاثه ودِراساته؛ فقد بلغتْ أعماله ثمانيةً وتِسعين عملاً، ما بيْن كُتُب، أو أبحاثٍ مُحكَّمة، أو مقالات في دَوريَّات، أو محاضرات في مؤتمرات وغيرها، ولكن الذي يرسُمُ شخصيتَه هو التركيزُ على الجانبِ الأهمِّ في خِدمة التراث وهو: "فهارس المخطوطات"، والعناية بمخطوطاتِ فلسطين وشخصيات تُراثيَّة فلسطينيَّة، وتناوله بالدِّراسةِ والبحثِ لأهمِّ أعلامِ تُراثنا العربي الإسلامي، فقد عرَّف بكبار المحققين حتى نَحذوَ حَذوَهم، فقد عرَّف بالعلاَّمة الكبير الدكتور صلاح الدين المنجد، فنتلمس مِن خلال سيرته العلميَّة سيرة وقِصَّة التراث العربي الإسلامي المبعثَر في مكتبات الشرق والغرب.

وكذلك في تعريفِه وعرضِه للسِّفْر الهامِّ لعلامة الجزيرة الشيخ المحقِّق الكبير حمد الجاسر في كتابه: رحلات في البحث عن التراث، حيث إنَّ أستاذَنا المُكرَّم قدْ نهج نفسَ نهج حمد الجاسر في الرِّحلة والسَّفر، والبحث والتفتيش عن كنوزِ الأجداد.

وكذلك في بحثه القَيِّمِ لعَلَم كبير من أعلام فلسطين الأستاذ الكبير الدكتور إحسان عباس؛ فقدْ ألْقَى الضوء على سِيرته العِلميَّة والأكاديميَّة، ثم وضَّح لنا مِن خلال بحثه القيِّم "مَنهَج إحسان عباس في تحقيق ونشْر النصوص"، فتراه يَصِفه بأنَّه "محقق للنصوص"، وباحِث ومؤرِّخ، وناقِد، وشاعِر ومترجِم، وقدْ طاف في نصوصِ التراث العربي، شَرْقها وغَرْبها، وحقَّق منها عشراتِ الكتُب على مدَى ما يَزيد على نِصف قرن، وقد وضَّح الأستاذُ الشنطي في مقالتِه وجهةَ إحسان عباس، فقال: "ولا أُجانِبُ الصوابَ إذا قلت: إنَّ ميدانه الأوَّل مساحةً هو تحقيقُ النصوص، أو هكذا يَراه كلُّ مَن له صِلة بالتراث".

ويَستقرئ أستاذُنا[4] مناهجَ التحقيق ويقارنها بمنهج إحسان عباس، فيقول: "إنَّ خِدمةَ النص محقَّقًا، على وَفقِ ما استقرَّ عليه منهجُ التحقيق، اتَّخذتْ ثلاثةَ أقسام، هي: المقدِّمة، النص، الفهارس[ 5].

ثم يُشير الأستاذُ الشنطي إلى ناحيةٍ مُهمَّة، مِن الضروريِّ أن يتنبهَ إليها كلُّ مشتغلٍ بالتراث وتحقيقه؛ حيث إنَّ الكثيرَ مِن الأسماء اللامعة، والمحقِّقين العِظام، والكُتَّاب المخضرمين، لا يقومون بأنفسِهم بنسخِ العَملِ المراد تحقيقه، بل تراهم يوكلون بها بعضَ تلامذتهم أو مَن يُنضِّد لهم أو أي أحدٍ مِن ذويهم؛ لذلك فهذه العمليَّة تجلب إليهم هنَاتٍ ومغالطاتٍ كبيرةً في عدَم الدقة في نقْل النصِّ وتحقيقه؛ لذلك تراه يُنبِّه لذلك؛ حيث إنَّ كتابة النصِّ المخطوط ونَسْخه كاملةً كلمةً بكلمة هي ليستْ عملية نَسْخ فقط، ولكنَّها معايشة للمخطوط المراد تحقيقُه؛ لذلك يشير الشنطي إلى هذه الناحية الهامَّة أثناءَ حديثه عن منهجِ إحسان عباس فيقول: (وأعان له هضمُها (أي إحسان عباس)- وفهمُها فهمًا دقيقًا، أنَّه نَسخَها بنفسِه كلمةً كلمة، وجملةً جملة، واستطاع أن يقسم النصَّ مِن حيث شكلُه العام إلى أربعة أقسام[6]"، ثم يُرشِدنا الأستاذ الشنطي بطريقةٍ غيرِ مباشرة إلى أهميَّة الحديث عن النُّسَخ الخطيَّة، فيقول - بصدد حديثه عن منهج إحسان عباس -: "وختَم المحقِّقُ مُقدِّمتَه بتوصيفٍ كافٍ للنُّسَخ الخطيَّة التي اعتمَد عليها، كذِكر رقمها في المكتبات التي تَحتفِظ بها، وسَنَة النَّسْخ، واسم التاريخ، وصفة الخطِّ وعدَد الأوراق، وموضع الرِّسالة والمجموع التي وردتْ فيه، ويَخلُص أستاذنا الشنطي في بحثِه إلى:
"أنَّ قواعدَ تحقيق النصوص - على وَفقِ ما استقرَّت عليه ونضِجتْ، إلى أن يضبطَ النص ضبطًا كاملاً، أو أن يُشكِّل المحقِّق ما يُشكل، وأن يخدم هذا النصَّ بإضاءاته في الحواشي، بتعليقات، وتعريف أعلام، وذِكْر معانٍ على أن يكونَ ذلك مُحكَمًا، لا إثقال فيه ولا ترهُّل، مع ربْط أجزاء هذه النصوص بعضِها ببعضٍ إنْ كانت متفرِّقة بين أبواب الكتاب وفُصوله"[7]، فقراءة النصِّ المخطوط لها مقوِّماتها التي يتمُّ مِن خلالها تقديمُ النصِّ واضحًا، وتقديمه للقارئ سليمًا في أقربِ صورةٍ ممَّا أرادُه مؤلِّفه، وبهذه الطريقة وهذا المنهج مع أدواتِ التحقيقِ والخِبرة بالخطوطِ وأنواعها، ومعرفة طُرُق ومناهج النسَّاخ وتوثيق المحقِّق للنصِّ، وعلامات الترقيم مع الخِبرة والتمرُّس بفن التَّصحيف والتحريف، وفَهْم النصِّ ومجالِه وثقافة المحقِّق وقُدرته على تذوُّق النصِّ - كل ذلك كان أستاذنا المُكرَّم قدْ وضَعَه بين عينيه حينما كان يُباشِرُ العملَ في أيِّ نصٍّ مخطوط.

ثم يُنبِّه إلى أن قِلَّةً مِن أبناء العربية الذين أخذوا يشتغلون بالتحقيقِ في وقتٍ مبكِّر، ومنهم إحسان، اطَّلعوا جميعهم على منهجِ المستشرقين في تحقيقِهم للتراث العربي، منذُ القرن التاسِع الميلادي، وهو منهجٌ كان قد وُضِع في أوروبا قبلَ ذلك ببضعة قرون؛ لتحقيقِ نُصوصِهم الإغريقيَّة واللاتينيَّة".

وفي هذه العجالةِ أَودُّ أن أُبيِّنَ جهودَ أستاذنا الموقَّر في تحقيقِ النُّصوصِ مِن خلالِ عمَلٍ من أعماله العديدة والمتنوِّعة، وهي محاضرات أُلقيت على طلبةِ معهد المخطوطات العربية بعنوان: "أدوات تحقيق النصوص - المصادر العامَّة"، يستهلُّ أستاذُنا بحثَه فيقول: "لكلِّ أُمَّةٍ من الأمم جذورٌ مُتأصِّلة في كيانِها، ويَحدُث - لظروفٍ قاهرة - أن تَبتعِدَ أُمةٌ عن جذورها، وتتلهَّى بالفروع الطارِئة عليها، الغريبة عنها، وفي العقودِ الأخيرة في أقطارِ الوطن العربي، كثُر اللَّغَطُ والحوارُ بين ما اصطُلح عليه بالأصالة والحَداثة، وَوُضِعتَا في كِفَّتي الميزان، هذا لا يأخذ إلاَّ بالقديم، ويرفُض الجديد، وذاك يضرِب عن القديم ولا يُريد إلاَّ جديدًا، وكأنَّه وقَعَ تحتَ وطأة صَدْمة الحضارة، والمسألة هذه لا تَخرُج عن صورةِ شجرةٍ قديمةٍ عَريقة ضارِبة في أعماقِ الأرض، أهْمَلها أصحابُها، وترَكوها دون رِعايةٍ وتشذيب، وبعضنا لا يَرَى إلاَّ اقتلاعَ هذه الشجرة، وزَرْعَ شجرةٍ شيطانيَّة غريبة عن تُربتِها وبيئتها، ومن ثَمَّ غريبة عنِ الأمَّة التي تَحيا في هذه البيئة، مع ما تَملِكه مِن ثقافةٍ متنوِّعة، وتجرِبةٍ حضاريَّة زاهية.

وليس مِن عاقلٍ فينا، مَن يرَى أن تُحجَزَ الأُمة العربية عن ثقافتها الأصليَّة، وتتبنَّى ثقافةً وافدةً نَمَت وتَكوَّنتْ عندَ أصحابها وَفقًا لبيئتِهم وتاريخِهم ومعتقداتهم.

وليس مِن عاقلٍ فينا أيضًا، مَن يرَى أنَّ الأُمَّة العربية تستطيع في عالَم اليوم، الذي أصبح قَريةً واحِدة، أن تَحيا منعزلةً عنه، وهو الذي يموج بالتقدُّمِ العِلمي الهائل، والتيَّارات الثقافيَّة المختلفة.

وفَرْق كبيرٌ بيْن أُمَّة تتخلَّى عن جُذورها، بل تَقتلِعها مِن أساسها، وتَزرع شجرةً من بيئةٍ أخرى مغايرة، وبين أُمَّة تَرعَى هذه الشجرة - جذورًا وفروعًا - الرعايةَ الكافية، وتُطعِّمها بالجديد، دون أن تخشاه، فالجذورُ المرعية النامية خيرُ حامٍ مِن أضرار ما يُسمَّى بالغزو الثقافي، وهي كفيلةٌ أن تَكبح جماحَ هذا الجديد، وأن تُجنِّبنَا غَلَبتَه وسيطرته، وبهذا نحافِظُ على الأصول، ولا نضرِب عنِ الجديد، وتُصبح الشجرةُ طيبةً، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء.

على أنَّنا نقصد بالجذورِ هنا التراثَ العربي المودَع في المخطوطات، الموزَّعة في أنحاء شَتَّى من العالَم، وكان العرب، ومَن دخل في الإسلام مِن غيرِهم، قد سجَّلوا تراثَهم الفِكريَّ بلُغةِ القرآن الكريم، وكتبوه بأيديهم، وحافَظوا عليه إباَّن سموِّ حضارتهم، ولا نُكرانَ أنَّ العرَب قد اطَّلعوا على حضاراتِ مَن سبَقَهم مِن إغريق ورُومان، وفرس وهنود، ففَهِموه واستوعبوه وهَضَموه، وأضافوا إليه كثيرًا، فخرَج مِن عقولهم ذا طعمٍ جديد، وذا هيئة مختلفة، ولا نستطيع أن نَبعثَ هذه الحضارة، ونَنفُخ في رُوحها، إلاَّ بإخراج هذا العِلم المودَع داخلَ أوراق المخطوطات، ولفائفِ الرُّفوق والبَرْدي، تحقيقًا، ثم دَرْسًا"؛ "أدوات المحقِّق (ص: 1)"، النسخة المطبوعة بواسطةِ عبد اللطيف زكي أبو هاشم"، وسيشار لها بأدوات المحقِّق، تحقيق أبو هاشم.

هذه المقدِّمةُ وهذا الاستهلال عن تُراثِنا المفقود، هو العنوانُ والمِفتاحُ لشخصيةِ أستاذنا المكرَّم، وهو السببُ الذي جعلَه يُوقِفُ نفسَه مِن أجله، وهو السبب نفْسه الذي جعَلَه يجوب شتَّى البِقاع للبحثِ عن كنوزه، ثم يُقرِّر بدايةً قاعدةً مهمَّة في عِلم تحقيق النصوص، فيقول: "التحقيق بإيجاز هو: نشْر هذه النصوص التي وصَلتْ إلينا بصورةٍ أقرب ما تكون إلى ما انتهَى إليه مؤلِّفوها، وتقديمها للباحثين في هيئةٍ صحيحةٍ، مضَاءَة بالضروري المفيد مِن فُروق النُّسَخ، والتعليقات والشُّروح التي تَكشِف عن غموضٍ، أو شُبْهَة لَبْس دون إسرافٍ فيها".

والحق أنَّ "تحقيق النصوص" بعد توفُّرِ العِلم والمعرفة، أصبح صناعةً لها حدودٌ وأُصول، وقواعدُ وأساليب، ومناهج وأدوات، لا بدَّ أن تتعاونَ جميعُها على إخراج النَّصِّ إخراجًا مُتقَنًا، مستوفيًا شروطه؛ "أدوات تحقيق النصوص (ص: 2)"، ويُنوِّه الأستاذُ الشنطي إلى قضيةٍ هامَّة، وهي عَدَمُ وجودِ كفاءاتٍ لدخول معترَك تحقيق النصوص بطريقةٍ عِلمية تحتكِم إلى منهجٍ عِلمي صارِم؛ فلذلك قامَ بإعدادِ مادَّة لتدريس هذا العِلم، وهي المحاضرات التي نحن بصَددِ دِراستها، ثم إنَّه قد نبَّه على ضرورة توفُّرِ الشروط اللازمة واستيفائها لكلِّ مَن أراد أن يدخُل هذا الميدان، وأشار لذلك في محاضراته فقال: "لا شكَّ أنَّ هذا الميدان (تحقيق النصوص) تنقُصه الخبراتُ المدرَّبة على هذه الصناعة، بالإضافةِ إلى ما لُوحِظَ مِن نكوص الشباب عنها وعنِ العمل في تُراثهم، ومِن هنا اقتضَى الحال تشجيعَهم على دخولِ الساحة دون تهيُّب أو وَجَل، شريطة أن يُعدُّوا إعدادًا جيِّدًا، وأن يتسلَّحوا بأصولِ هذه الصناعةِ وفُروعِها؛ للوصولِ بهم إلى تملُّكِ ناصيةِ التحقيق، طاردين الأدعياءَ مِن هذا الميدان الذي دَخلوه دون كفاءةٍ أو دُربة"؛ تحقيق النصوص، (ص: 2).

ثم يُنبِّه إلى أدواتِ هذا العلم فيقول: "لكلِّ صناعةٍ أدوات لا بدَّ مِن الاستعانة بها؛ حتى يَستطيعَ المحقِّق أن يؤدِّي عملَه بسهولةٍ ويُسر... وكلَّما تنوَّعتِ الأدوات وكثُرتْ وتطوَّرتْ لا بدَّ له أن يتعرَّفَ على أدوات التحقيق، ويُجيد استعمالَها، ويَتمرَّس على طُرق الإفادة منها"؛ (ص: 2) بتصرف.

وينادي أستاذُنا المكرَّم شبابَ العروبةِ والإسلام الذين يُريدون دخولَ ساحةِ مُعترَك هذا التراث أن يكونوا مؤمنين، وفي داخلِهم حافزٌ قوي، وأن يَدخُلوه بفكرٍ منفتِح وإيمان واعتقاد جازِم بعظمةِ هذا التُّراث وعَرَاقتِه ومدَى أهميته في صُنع الحضارة والتقدُّم"؛ انظر: "أدوات تحقيق النصوص" (ص: 2).

ويُقسِّم الكاتبُ أدواتِ التحقيق إلى عِدَّة أقسام:
المصادر العامَّة الأساسيَّة: وقام بتقسيمها إلى عِدَّةِ حقولٍ بلغتْ سبعةَ حقول، وهي بمثابة مَحطَّات لا بدَّ لكلِّ محقِّق يَشْدُو لكتُب التراث أن يَتفحَّصها ويَدرسَها جيِّدًا، وهي مُقسَّمة بطريقةٍ منطقيَّة رَتيبة؛ حيث يعتمدُ اللاحِقُ على السابق حيث الارتباطُ العُضويُّ ببعضه البعض، فلا يُمكن للمحقِّق أن يَستبقَ جميعَ النُّسَخ المخطوطة بإنشاء عمليةِ الفَهرسة حيث إنها آخِر خُطوة.
أ- الحقل الأوَّل: جَمْع النُّسَخ المخطوطة وتَجميعها.
ب- الحقل الثاني: معرفةُ ما طُبِع مِن كتُب التراث (ببلوغرافيا التراث العربي الإسلامي).
جـ- الحقل الثالث: تَوثيق العنوان.
د- الحقل الرابِع: توثيق نِسبةِ المخطوطِ إلى مؤلِّفه.
هـ- الحقل الخامس: المصادِر التي رُتِّبت على الموضوعات.
و- الحقل السادس: كتُب البرامج والفهارس والأثبات والشيوخ.
ز- الحقل السابع: الكتُب المتعلِّقة بمصطلحاتِ العلوم وتعريفاتها.

في هذه العجالة لا نستطيع أن نَتحدَّث بصورةٍ مفصَّلة عن كلِّ حقلٍ مِن الحقول، حيث إنَّ ما بَيَّنه لنا الأستاذُ الشنطي ينمُّ عن تمرُّسٍ كبير، وثَقافة واسِعة، واطِّلاع مع دِراسة وتعمُّق في مصادرِ ومراجعِ المكتبة العربية - مخطوطها ومطبوعها؛ لذلك آثَرْنا أن نُجمل تلك الحقول، ونقوم بتلخيصِها؛ حيث إنَّه لا يُغني التلخيصُ عنِ الرجوع إلى المصدر، وهو أدواتُ تحقيق النصوص.

أولاً - تعقُّب النسخ:
يُرشِد أستاذُنا الباحثَ المحقِّقَ إلى ضرورةِ دُخول المكتبات، والتنقيب في المراجِع والكتُب والاطلاع على فهارسِ المخطوطات المنشورة، وحينما برزتْ صعوبةُ جمْع التراث المطبوع المشتَّت، حيث لم تستطعْ أيُّ مكتبة جمعَه كله، عالَج أستاذنا هذه القضية بالرُّجوعِ إلى الموسوعاتِ المتخصِّصة بالتراث العربي الإسلامي، فتراه يَتساءل: أين المكتبة التي تَحرِص على اقتناءِ جميع الفهارس، ومتابعة كلِّ فِهرس يصدُر أوَّلاً بأَّول؟! فضلاً عن وجودِ مُشكلةٍ مِن أعوص المشكلات حسبَ رأيه، وهي أن المخطوطات نفْسها، غير مفهرَسة ولا نعرِف عنها أيَّ شيء، ولا أيَّ وصف، ولربَّما - حسبَ رأيه - ثُلثا مخطوطاتنا غير مفهرَس؛ وعلاجًا لهذه المشكلة أحال أستاذُنا الباحثَ بالرجوع إلى الموسوعاتِ التي تَخصَّصت في التراث العربي المخطوط، وهي التي اهتمَّتْ بذِكر معلومات تفصيليَّة عن المخطوطاتِ وأماكنِ وُجودِها، وأرقامها في المكتبات[8] مثل:
1- كتاب "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان، حيث بيَّن لنا منهجَه في ترتيب كتابه، وأنه قد التزم الترتيبَ الزَّماني، فقَسَّمه على العصور والدُّول مبتدئًا بالعصر الجاهلي، منتهيًا بالعصر الحديث، مع ذِكْر جميع الكتُب المخطوطة التي أُلِّفت في جميع العلوم، وتحتَ كلِّ موضوع يذكُر المؤلفين، الذين جلَّوا في هذا العلم مبتدئًا بالأقدم فالأحدث مع ترجمةٍ موجزة لكلِّ مؤلف، مع مصادر ترجمته، وقد وجَّه أستاذُنا نقدًا علميًّا لبروكلمان في كتابه الضَّخْم حيث "عِيب على بروكلمان أنَّه بمنهجه هذا جَزَّأ وحدةَ الموضوع، إلى أنَّ أستاذنا يَستدرِك فائدةً لهذا العيب، وهي أنَّ بروكلمان أراد أن يَكشِفَ عن تطوُّر العلوم وموضوعاتها في كلِّ عصر، وقد ذَكر بروكلمان في كتابه نحو عشرين ألْف مخطوطة، وينبِّه أستاذنا إلى النقصِ في كتاب بروكلمان ذاكرًا سببَه، فيقول: "ويعود سببُ النقص إلى أنَّه اعتمد على الفهارس المطبوعة، مما أوْقَعه فيما وقعتْ فيه تلك الفهارس مِن أخطاء وأوهام".

2- تاريخ التُّراث العربي الإسلامي: لمحمَّد فؤاد سيزكين، حيث إنَّه قد أحسَّ بالخلل والنقص الذي وقَع في كتاب بروكلمان، فبدأَ العملَ بالاستدراك عليه في هيئةِ ملاحق ثم عدَل عن ذلك، وبدأ في تأليف كِتاب جديد مستقل، جاء في أربعةَ عشرَ مُجلَّدًا، كان يمهِّد فيه لكلِّ عِلم مِن العلوم بمقدِّمة قيِّمة عن نشأته وتطوُّره، وبهذا أزال سيزكين عيبَ كتاب بروكلمان وهو تجزئةُ وحدة الموضوع، ثم أزال عيبًا آخَر بأنَّه - أي: سيزكين - لم يعتمدْ على الفهارس المطبوعة، وإنما توخَّى أن يدخُلَ المكتبات ويطَّلع على المخطوطات ويُعاينها بنفسِه مع توثيقه لكلِّ مخطوطة ورقْمها، وسَنة نَسْخها، وعدد أوراقها، إضافةً إلى قِيمتها العلميَّة، وقد بلَغ عددُ الدول الذي زارها نحوَ مائة دولة، ودخَل سبعًا وتِسعين مكتبة في مدينة إستنبول وحدها، وكان لا يُصدر جزءًا إلا بعدَ أن يكتمل، وقد نال على كتابِه هذا جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1994م.

ويستدرك أستاذُنا على كتاب سيزكين قائلاً: "ويَنبغي ألاَّ نتصوَّر أنَّ عمل سيزكين جاء وافيًا، فقدْ تعقَّبه باحث تُركي هو رمضان شيشن، فألَّف منذُ سبعينيَّات القرن الماضي بعد أن زار نحو 150 مكتبة تركية، كتابًا ذا أجزاء بعنوان: "نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا"، ذَكَر فيه نحو 1500 مخطوطة غفَل عنها سيزكين في كتابه.

ومهما يكُن الأمر فإنَّ عمل سيزكين أوْفَى من عمل بروكلمان في حدودِ الفترة التي غطاها؛ لأنَّه استوعب ما قام به بروكلمان وصحَّح أخطاءه وأوهامه[9].

على الرغم مِن اهتمام أستاذنا بهذين الكتابين (بروكلمان - سيزكين) فإنَّه ينعي عدَم ترجمتهما مِن لُغتيهما الأصلية (الألمانية) ونقلهما إلى العربيَّة حيث قُرَّاء الألمانية نزرٌ يسير في بلادنا؛ لذلك يقول بعد أن توقَّف مشروع طبعهما: "ولعلَّ السبب هو عدَم وجود فريق جَماعي، متلاحِم أولاً، وفقدان التمويل السَّخي والمتابعة العلميَّة والملاحقة الإداريَّة، هما وراء هذا الإخفاقِ والفشلِ في ترجمة هذين الكتابين".

الحقل الثاني:
يَعزو أستاذُنا مشكلةَ عجْز المحاولات التي تُزوِّد الباحثَ بالمطبوع والمخطوط عن كُتُب التراث، هو أنَّ الأعمال في هذا الميدانِ على منهجٍ عِلمي، ويَضرِب عِدَّة أمثلة في هذا الميدان، مع ذِكْره لمجموعة مِن الأعمال، ناقدًا لها ومعلقًا عليها، ثم تراه يطرح البديل فيقول:"لا نُقلِّل مِن أهميةِ هذه الأعمال، ولكنَّ الباحِثَ الذي يسعَى إلى أن يطَّلع على هذه الكتُب ليس في أقطار العرَب فحسبُ، بل في العالم أجمع، يحتاج إلى جهودٍ أخرى أكثرَ فائدةً وحسمًا لموقفه؛ ولذا يرى أنه لا تَتَّسع طاقةُ أي باحث للرُّجوع إليها جميعًا، لذلك اقتصَر على الكتُب التالية.

1- "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع"؛ لإدوارد فانديك، حيث ضمَّن مؤلف هذا الكتاب كلَّ ما وصلتْ إليه معرفتُه مِن أسماء الكتُب التي طُبِعت في الشرق والغرب، مِن أقدم العصورِ حتى نهاية القرْن التاسعَ عشَر.

2- كتاب مُعجَم المطبوعات العربيَّة والمعرَّبة، (ليوسف إليان سركيس)، احتوى على 1111صفحة، لكلِّ صفحة عمودان، وفرغ مِن طبعه في القاهرة سنة 1928، وقد نال الكتابُ شهرةً كبيرةً عندَ الباحثين إلى يومِنا هذا؛ لما احتواه مِن معلوماتٍ واسعةٍ عن جميعِ المؤلفات والكتُب العربية التي نُشِرت في أنحاء المعمورة منذُ بداية الطباعة حتى عام 1919، حيث ذَكَر في كتابه عشرةَ آلاف مصدر.

3- معجم المخطوطات المطبوعة؛ للدكتور صلاح الدين المنجد، وهو عالِم مشهور وعَلَم مِن أعلام التُّراث العربي، ومؤسس معهد المخطوطات العربية، حيث كان مديرًا له لمدَّة ستِّ سنوات مِن الفترة (1955-1961)، وترجِع أهمية كتابه إلى أنَّه اعتنى بما طُبِع مِن المخطوطات العربيَّة والإسلاميَّة والغربيَّة، وقدْ أفْرَد فيه ألف وخمسمائة مؤلَّف، واهتمَّ المنجد برصدِ ما طُبِع على منهجِ التحقيق العلمي، وأهمل ذِكر الطبعات التجارية.

4- ذَخائر التراث العربي الإسلامي؛ لعبدالجبار عبد الرحمن، وهو مؤلِّف عِراقي متخصِّص في عِلم المكتبات والمعلومات، وقد صدر جزءان عن مطبعةِ البصرة سَنة (1981 - 1983)[10].

5- المعجَم الشامل للتراث العربي المطبوع؛ لمؤلفه د. محمد عيسى صالحية.

ويُنبِّه أستاذنا إلى مميزاتِ هذا المرجع وعيوبه، فيقول: لا يفوتني أن أذكُرَ إيجابيات هذا المشروع مِن المقدِّمة الإضافيَّة التي كتبها د. صالحية، عن أهميةِ التراث العربي ومصادره المطبوعة، والصُّعوبات التي لاقاها والجهود الميدانيَّة التي بَذَلَها، والمراجِع التي رجَع إليها، ثم يذكُر الأستاذ الشنطي أنَّه قام بنفسه بعملٍ مستدركٍ لهذا المصدر بالمشاركةِ مع الدكتور محمد جبار المحيَّد.

بعدَ أن يَذكُر أستاذنا تلك الأعمالَ الجليلة ينبِّه إلى أنَّ الكتُب والمراجع والمصادر لا تَكفي فيرشد الباحثَ قائلاً: "ولا بأسَ بعدَ ذلك أن يَلقَى أستاذًا أو اثنين مِن ذوي الاختصاص في موضوعِ المخطوطة المختارَة والمشتغلين بالتراث تحقيقًا ودرسًا؛ ليفيدوا في حدودِ عِلمه ومتابعتِه، فيما إذا صدَر هذا الكتاب محققًا أم لا، خاصَّة في السنوات الأخيرة، وبهذا يكون الباحِثُ قدِ استكملَ الجهودَ المتاحةَ للبحثِ فيما إذا كان هذا النصُّ قدْ نُشِر أو لم يُنشرْ، ومعرفة منزلةِ هذه النَّشرةِ مِن أصولِ تحقيقِ النصوص وكِفاية النُّسَخ التي سيعتمد عليها في عَملِه.

الحقل الثالث:
ويَتعلَّق بتحقيقِ النصوص وتوثيقِ عُنوان الكتاب، ومِن المصادر التي تُسعِف الباحثَ في هذا المجال:
كَشْف الظُّنون عن أسامي الكتُب والفنون؛ لحاجي خليفة، ومستدركاته وملحقاته؛ انظر: مقالة للباحث بعنوان: "ببلوغرافيا التراث العربي الإسلامي"، بقلم: عبد اللطيف زكي أبو هاشم، نُشِرت في مجلَّة الجديد في القدس، ثم على موقع دُنيا الوطن.

الحقل الرابع:
يتوجَّه هذا الحقلُ إلى المصادر التي تُعنَى بترجمة المؤلِّف ومؤلَّفاته، وهو حقلُ التراجم؛ حيث إنَّ هذا الحقلَ يُمثِّل الوجهَ الثاني للحقلِ الثالث الذي يُعنى بتوثيقِ عنوان المخطوطة ونِسبتها إلى مؤلِّفها، وطبيعي أن تكونَ مراجِع هذا الحقل مُرتَّبةً بحسبِ أسماء المؤلِّفين، وقدِ اعتنَى العربُ بهذا اللون مِن المؤلفات بصورةٍ كبيرة، ثم يُعدِّد أستاذنا هذه المراجِع والمصادر الهامَّة ذاكرًا ومحللاً مادتَها، وناقدًا لعيوبها ونواقصِها، ومنوهًا بهناتِ محقِّقيها وناشريها، ولا نستطيع في هذه العُجالة أن نَسرُدَها جميعَها، فأستاذنا أوَّل مَن شعر بالنقصِ لكاتبِ الأعلام لخير الدين الزِّركلي، على الرغمِ مِن إجلاله وتقديرِه لهذا الكتاب، فيقول: "وتراجمه - أي الزركلي - عمومًا غير مُطوَّلة، لكنها مسبوكة سبكًا محكمًا، تنمُّ عن باحثٍ أو أديب متمرِّس، وفي تراجِمه يتناول حياةَ المترجَم له وذِكر مصنَّفاته، مع ذِكر إنْ كانت مخطوطةً أو مطبوعة[11]، ثم يورد مُعجمًا آخَر لا يقلُّ أهميةً عن معجم الأعلام، وهو مُعجَم المؤلفين: لعُمر رضا كحالة، الذي تميَّز في تراجمه بالإيجاز الشديد مع ذِكْر المؤلفات.

الحقل الخامس:
وهو المصادر التي رُتِّبت على الموضوعات، واكتفَى أستاذُنا بذِكْر أشهر كتاب، وهو كتاب "الفهرست" لابن النديم[12].

الحقلُ السادس:
وهو مُتعلِّق بمصادرِ كتُب المشيخات والبرامج والأثبات، وهي تآليفُ منبثقةٌ مِن عِلم الحديث النبويِّ وطريقةِ تَلقِّيه مِن الرُّواة، فطالِبُ العِلم - حسبَ قوله - حين ينضج تعلُّمه يُؤلِّف كتابًا يُبيِّن فيه العلماءَ والشيوخَ الذين تلقَّى عليهم علومَه، ويذكُر الكتُبَ التي قرأها عليهم، والإجازاتِ التي حصَل عليها مع ذِكْر رِحلته في طلبِ العِلم، ثم يقوم بتقييدِ ما لاقاه في رِحلته مِن أسماء الشيوخ الذين أخَذَ عنهم، وتَعلَّم على أيديهم وطالَع وقرأ كتبهم... وقدْ عدَّ الببلوغرافيُّون هذه المؤلفات بمقياسها العِلمي مِن المؤلَّفات الببلوغرافيَّة.

ويُعدِّد أستاذنا فوائدَ هذه الكتُب بأنَّها توثِّق لنا ما ضاع مِن أسماء الكتُب مع توثيقِها للمخطوطات التي نعثُر عليها، وتكون خاليةً مِن العنوان أو المؤلِّف أو كِليهما، ومن فوائدها أيضًا أنَّها تتضمَّن وثائقَ عن حياةِ المؤلِّف وشيوخه، وذِكْر البلدان التي رَحَل إليها، وضبْط تاريخ أخْذِ الكتاب ومكانِه، كما ترصُد حركةَ الحياة العلميَّة والثقافيَّة في عَصرِه، وكذلك الحياة الاجتماعيَّة وأُسلوب تلقِّي العِلم، والأصول المتَّبَعة فيه، والمستوَى العِلمي الذي يَنبغي لطالِبِ العِلم أن يصلَ إليه.

وقدْ سُمِّيت هذه المؤلَّفات بتسمياتٍ مختلفة، يمكن حصرُها في ستةِ ألفاظ، هي: المشيخة، المعجم، الفِهرس، البرنامج، الثَّبَت، السَّنَد.

ثم يَذكُر مؤلفاتٍ أُخرى تُعين طالبَ العِلم على مطالعةِ وقِراءة الكتُب التي أُلِّفت بهذا الصدد، مثل: معجم السفر؛ للحافِظ السِّلَفي، ومعجم ما رَواه الرعينيُّ عن شيوخه، وفِهرس ابن عطية الغرناطي، وفهرس ابن خير الإشبيلي، وبرنامج شيوخ الرُّعيني، ثم يُعرِّج على كتُب الأثبات، وُيرشدنا إلى أهم ما أُلِّف فيها ولعلَّه كتاب الكتاني (فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المشايخ والمشيخات).

الحقل السابع:
وهو آخِر حقْل مِن الحقول التي تَطرَّق إليها أستاذُنا المكرَّم في دروسِ المصادر العامَّة في مصادرِ تحقيقِ النُّصوصِ، وهو المتَّصل بكتُب "تعريفات العُلوم" للخوارزمي، وكتاب "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" لمؤلِّفه (طاش كوبرى زاده)، ثم يعود ويذكُر مرةً أخرى كتاب "كشف الظنون"؛ لأنَّه يُعرِّف كلَّ علم قَبل أن يبدأَ في ذِكْر كُتبه.

هذا غيضٌ مِن فيضٍ لِمَا التقطناه مِن فوائدَ مِن بحث صغير، محاضرة بعنوان أدوات تحقيق النصوص لأستاذنا ...
*الى رحمة الله أيها العلامة الكبير
إلى جنة الخلد يا عاشق المخطوطات
وراهب التراث لقد أهديتك
هذه المقالة بمناسبة كتاب تكريمك ولكنك فارقتنا بموتك رحمك الله وجعل علمك شافعاً بأجرٍ لا ينقطع
**http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2012/12/03/278662.html

__________________
[1] راجع مقالة الأستاذ الشنطي بعنوان: "جهود المنجد في خدمة التراث".
[2] ملاحظة جميع المعلومات المتعلقة بترجمته مستقاة من بحث في (شبكة الألوكة).
[3] مجلَّة معهد المخطوطات العربية، بحث بعنوان: "حكاية مخطوطة فريدة في عكا الأسيرة"؛ مجلة معهد المخطوطات العربية مج 36/ ج1 /2/1413 هـ، 1991م.
[4] انظر: "إحسان عباس وأُولَى تجاربه مع التحقيقِ"؛ للأستاذ عصام الشنطي، مجلة معهد المخطوطات، ص145.
[5] نفس المصدر ص 147.
[6] "إحسان عباس وأُولَى تجاربه مع التحقيقِ"ص145
[7] المصدر نفسه (ص: 152).
[8] انظر: "أدوات تحقيق النصوص"، (ص: 3، 4) بتصرف.
[9] راجع بالتفصيل عمَّا ورد عن هذا الكتاب: أدوات تحقيق النصوص (ص: 5 - 7).
[10] راجع بالتفصيل، مناهج ترتيب هذا الكتاب والكتُب الأخرى التي نذكرها في "أدوات تحقيق النصوص" (ص: 7 - 10).
[11] أدوات التحقيق ص 17
[12] بصدد تفصيل عن "الفهرست"؛ انظر (ص: 19 - 20)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي

  مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي (172-354 هـ -788-965 م كتاب للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي عرض ومراجعة : الدكتور زياد ع...