الأربعاء، 18 مايو 2016

دورة الضباط الإحتياط للمفصولين السياسيين في السعدية عام 1955 بقلم : حكمت محمد فرحان



دورة الضباط الإحتياط للمفصولين السياسيين في السعدية عام 1955
 بقلم : حكمت محمد فرحان
 بناء على طلب وزارة الدفاع عن طريق الراديو والصحافة للمفصولين السياسيين من طلاب جامعات واساتذتها وموظفين ومدرسين ومعلمين اوائل كانون الثاني عام 1955 حضرنا الى وزارة الدفاع. اما المفصولون السياسيون من طلبة الثانويات ودار المعلمين الابتدائية فقد تم تسويقهم كجنود الى معسكر الشعيبة في البصرة لخدمة غير محددة المدة. وقد مروا بظروف قاسية في المعسكر الامر الذي دفع الكثير من المناضلين منهم الى الهروب من المعسكر والالتحاق بالعمل السري للحزب الشيوعي العراقي الذي ينتمون اليه.
كان التحاقنا بقرار من قيادة حزبنا الشيوعي العراقي لغرضين الاول عدم اتاحة الفرصة للسلطات الارهابية لايجاد مبرر لاعتقالنا والثاني اكثر اهمية، ولم تكن قد انتبهنا إليه إذ ان وجودنا في صفوف الجيش العراقي بعد اكمال الدورة كضباط سيعزز من التنظيمات التي شكلها الحزب داخل صفوف الجيش.
وهكذا حضرنا الى مستشفى الرشيد العسكري بقائمة تزيد على المائة
كان كل منا يعرف عدداً محدوداً من خلال الدراسة او العمل في اتحاد الطلبة العام (السري) او في تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي (السري طبعا) ولهذا ابتدأت عملية التعارف على بعضنا بالتدريج ومع الوقت. كان مدير المستشفى  اللواء الدكتور محمد  عبد الملك الشواف الذي اصبح لاحقا وزيرا للصحة بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة.
مررنا بفحص سريع وكلنا يخرج بنتيجة النجاح عدا الدكتور عبدالله اسماعيل البستاني استاذ القانون في كلية الحقوق فكانت نتيجة فحصه سلبية لإصابته بالتهاب الجيوب الانفية. ولما كنت مصاباً بنفس الالتهاب اعترضت لدى مدير المستشفى طالباً معاملتي مثل الدكتور البستاني. اصرت اللجنة على نجاحي بالفحص. علمنا فيما بعد ان الدكتور عبد الله اسماعيل  البستاني متزوج من أبنة جميل المدفعي الضابط الكبير ورئيس الوزراء سابقا وأحد أعمدة الحكم الملكي.
وبسبب علاقة الجيرة بين الفنان الكبير يوسف العاني ومدير المستشفى ولوجود خلل جدي في احدى عينيه كانت نتيجة فحصه سلبية وخرجت التوصية بأعفائه من الدورة، إلا ان نوري السعيد وزير الدفاع حينذاك رفض ذلك وثبت بخط يده (لقد رأيت ضباطاً عورين في جيش انكلترة) يسوّقْ يوسف العاني).
وهكذا بُلِّغنا بالحضور الى وزارة الدفاع اوائل شباط 1955 للالتحاق بالدورة مع احضار كل منا لحقيبة صغيرة فيها حاجياته مع ماكنة حلاقة بعد ان تم تقسيمنا (المتزوجون في بغداد وعددهم قليل جداً وكان في مقدمتهم الدكتور ابراهيم كبة الاستاذ في كلية التجارة والدكتور فيصل السامر الاستاذ في دار المعلمين العالية والشاعر عبدالوهاب البياتي مع حوالي العشرين من مختلف الوظائف والاختصاصات).
أما الاخرون وكنا حوالي المائة ويكون تدريبنا في ناحية السعدية في لواء ديالى قريباً من جلولاء.
صباح يوم السفر ركبنا في ثلاثة باصات كبيرة ومعنا ضابط وجندي انضباط في كل باص. كان التعامل معنا جيداً.
انطلقت الباصات بأتجاه بعقوبة ثم شهربان (المقدادية) فجبال حمرين وصولاً الى ناحية السعدية وبعد عبورنا مباشرة وصلنا المعسكر الذي هو عبارة عن بناء جديد لمدرسة متوسطة تتكون من تسعة غرف للصفوف وغرفة لمدير المدرسة والمدرسين وغرفة صغيرة لكاتب المدرسة وقاعة. وقد اضيف لها لتصبح معسكرا، قاووشان واسعان طولاً وعرضاً من البردي المضغوط وآخر يقابلهما للمطعم، وتم انشاء بناء يجاور المطعم للصفوف الدراسية للدورة وخلفها بناء مضاف للآمر والمساعد والضباط وسكنهم وإطعامهم كما كانت قد أنشأت ساحة للتنس واخرى للكرة الطائرة وكرة السلة. هيأوا كل شيء لنا بهدف ابعادنا عن بغداد وعن العمل السياسي وللخضوع لقانون العقوبات العسكري.
لقد انشأت هذه المدرسة اساساً لطلاب الدراسة المتوسطة كخطوة لألتحاق خريجي الابتدائية فيها بدلاً من تركهم الدراسة.
وللاسف لم يداوم فيها الطلاب وانما حولت الى معسكر للمفصولين السياسيين. كان كل ما حولنا بساتين ومزارع خارج بلدة السعدية. عند وصولنا المعسكر وجدنا الآمر العقيد الركن محمد علي كاظم والرئيس الاول عبدالجبار علي الحسين والمساعد الرئيس اسماعيل والضباط كامل واحمد وخالد وفي جهة  مجاورة العرفاء هادي واحمد ولا اتذكر الآخرين مع عدد من الجنود.
رحب بنا الآمر وجمعنا في البهو حيث القى فينا كلمة اوضح فيها انه والضباط يعرفون ظروف الحاقنا بالدورة. ولكن عليكم الاطمئنان من تعاملنا معكم لاننا نعرف جيداً انكم مثقفون وحساسون لاي تعامل ولا نريد ان نفقد صداقتكم. اعتبروا انفسكم في (هايدبارك) بانكلترا حيث للجميع حرية الكلام وطرح الآراء والمطاليب وبإمكانكم تكوين مكتبة بالكتب التي ترغبون قراءتها ولكم الحرية في تقديم الفعاليات المسرحية لأني اعرف ان معكم الفنان يوسف العاني. المهم لا تشعروا أننا غرباء عنكم. علمنا لاحقاً انه خريج جامعة سانت هيرتز للاركان بانكلترا وبعد ان قمنا بتوزيع أنفسنا على الغرف وقاعات المنام طلبنا ان نقوم بانتخاب مساعد الضابط الاقدم ورئيس عرفاء السرية وعرفاء الفصائل من بيننا فوافق الآمر وان نقوم بذلك في اليوم التالي.
قمنا بانتخاب الاستاذ الدكتور صلاح خالص مساعداً للضابط الاقدم والفنان يوسف العاني رئيساً لعرفاء السرية وجعفر مطر (مدرس) عريفاً للفصيل والشاعر عبدالرزاق عبدالواحد عريفاً للفصيل الثاني. ولا اتذكر الفصيل الثالث وكان ذلك بحضور الآمر والضباط.
كما قمنا باختيار الغرفة المجاورة للبهو للمكتبة.
وقمنا بالتعاون مع المساعد بتنظيم جدول خفارات المطعم.
لقد كان جواً تعاونياً جميلاً. ومع كل ذلك كنا نشعر بالقيود والغربة. كما اسلفت كان عددنا حوالي المائة بقي منهم في ذاكرتي بعد (52) عاما:
الاستاذ في كلية الاداب الدكتور صلاح خالص، ومن الادباء والشعراء (مظفر النواب، عبدالرزاق عبدالواحد، رشدي العامل، كاظم نعمة التميمي، محمد جواد الموسوي، والقاص المعروف عبدالملك نوري والفنان المسرحي الكبير يوسف العاني ومن المدرسين والمعلمين (متي عبودي الشيخ، المناضل الشيوعي والمربي الكبير الذي قتله الفاشست في انقلاب 8 شباط 1963 الدموي العميل في مقر الحرس القومي في المامون واقفاً وهو يهتف بحياة الشعب والحزب الشيوعي العراقي)، جعفر اللبان اول رئيس لاتحاد الطلبة العام عام 1948، أنور محمد عبدالله، مدرسنا في ثانوية "عنه" وهو الكردي الشيوعي المثابر ،اعدم في كركوك بعد انقلاب 8 شباط 1963)، حسن توفيق، هاشم حمدون، جعفر مطر، عبدالرزاق حسون، محمد علي الحلو، فاتح، لطيف، هادي، احسان عبدالله، عبدالرزاق حسن) وطلاب كلية الهندسة (حكمت محمد فرحان، حسيب احمد العامل، عبدالحسين علي العميشي، نوري كاظم لطيف، نشأت كوتاني، جلال حميد، خالد محي الدين، جوامير مجيد سليم، فاروق حنوش) وطلاب الكليات الأخرى (طارق القيسي، طارق جيجان، الشهيد صباح الدرة الذي تم تصفيته عام 1980 في معتقلات الديكتاتورية، حازم خضير، مصطفى الجواهري، حازم سلو الذي تم تصفيته في الثمانينيات في معتقلات الديكتاتورية، عادل توفيق الراوي، عمر حسون، سعدي غريب، الفنان المسرحي عبدالرحمن بهجت، مجهول عبدالكريم، ناظم السامرائي، عبدالسامرائي، أدمون طوبيا، احمد فخري الحكيم. صفاء المرعب، حليم المرعب، مجيد الحلي، فائق عبدالجبار السامرائي، محسن سميسم، بني نيسان، حازم الالوسي، شاكر الجبوري، جمال خليل شاكر، طالب، وغيرهم، وكلهم اما شيوعيون او يعملون الى جانب الحزب الشيوعي العراقي.
وكان معنا بعثيون وهم من كوادرهم (علي صالح السعدي، الذي تحول الى فاشي ساهم في قتل وتعذيب الكثير من الشيوعيين بعد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي العميل، حكمت البزاز، حميد خلخال، زكي الخشالي، دحام الآلوسي، مدحت ابراهيم جمعة الذي ساهم في تعذيب وقتل الشهيد سلام عادل عام 1963 والمئات غيره في قصر النهاية). وكلهم من الكادر البعثي المتقدم الذين حوكموا على اساس ذلك أمام محكمة جزاء مدنية في بغداد وحكم عليهم بالسجن تسعة اشهر مع وقف التنفيذ بينما حوكم بنفس اليوم وامام نفس الحاكم اعضاء خلية شيوعية للاعضاء فحكموا بالسجن لمدة ثلاث سنوات لكل منهم.. لقد كان النظام الملكي يعامل  تنظيمات البعث معاملة مرنة وغير قاسية خلافاً لموقفه القاسي تجاه الشيوعيين.. ورغم قلة عدد البعثيين في الدورة (6) وكثرة الشيوعيين واصدقائهم فيها فكانوا حوالي (100) فمن الصعب التفريق بينهم للزائر لأننا احتضنا البعثيين وكأنهم جزء منا.
وهكذا ابتدأت الدورة: النهوض المبكر، تناول وجبة اولية في المطعم، التدريب العسكري البسيط وكان يقتصر على المشي والتعلم على تفكيك البندقية وتنظيفها واعادة تجميعها، التعلم على التصويب الى الهدف.. الخ. العودة الى المطعم لوجبة الافطار وكانت جيدة وبعدها الدروس النظرية، ثم نتناول طعام الغذاء. وقد سمح الآمر بان ننزل يومياً الى المدينة التي تبعد حوالي الكيلومتر بطريق مبلط بين بساتين النخيل العالية ومقبرة قديمة تعلو الشارع عدة أمتار ثم نصل مقهى (سبع) أكبر مقهى في البلدة الصغيرة وهو تركماني او كردي ودود، يحب الحديث بالسياسة. وقد شكل حضورنا مفاجأة لأهل المدينة الذين كانوا يقتربون منا تدريجيا ليسمعوا احاديثنا ومناقشاتنا مع لعب الطاولي والدومنة. كانت احاديثنا متشعبة من السينما الى اوضاع العراق. ومع الايام ازداد احترام الاهالي لنا ولكنهم ابقوا (فاصلة بينهم وبيننا خوفاً من الجهات الامنية وكنا نقدر ذلك باحترام.
ثم نعود الى المعسكر عند المغرب حيث نرتاح ونتناول طعام العشاء ثم القراءة او التمدد على الفراء واستذكار الامور وأهالينا وبغدادنا ومن نحب او الجلوس في البهو او المكتبة.
أخبرنا الآمر بأن النزول الى بغداد لمن يرغب هو الخميس ظهراً من كل اسبوع ثم العودة الجمعة مساءً أفرحنا ذلك لأن تصورنا كان اننا في اقامة إجبارية.
وبعد عدة اشهر اصبحت امكانية النزول بعد ظهر الاربعاء والعودة الجمعة مساءً ولمن يرغب، وبهذا اعدنا ووطدنا صلاتنا ببغداد سواء الحزبية او العائلية, احضرنا العشرات من الكتب الادبية والفنية والسياسية وغيرها وبهذا اصبحت مكتبة المعسكر غنية بكل ما نحتاجه وفيها الكتب الممنوعة والتي تعرّض مقتنوها في كافة انحاء العراق الى السجن عدا معسكرنا والفضل يعود بالدرجة الاولى الى الآمر العقيد الركن محمد علي كاظم والضباط الآخرين والى سلوكيتنا واندماجنا معهم وربما كان هناك توجيه من وزارة الدفاع بذلك بغية الهائنا مع عزلنا عن ساحة العمل الحزبي والسياسي خاصة وأن مرحلة جديدة في العمل المخابراتي قد أبتدأت بإبرام حلف بغداد الاستعماري حينذاك، وطلبنا من الآمر أن نقيم حفل تعارف فأقمناه في البهو حيث القيت كلمة لنا القاها الدكتور صلاح خالص وكلمة الآمر وقصيدة للشاعر مظفر النواب جاء فيها:
(گلي صدگ يلزگ الفولاذ بالغره) وكانت تعقيباً على كلمة الآمر التي قال فيها (إننا جميعاً وحدة متلاصقة) فعقب الآمر على قصيدة مظفر النواب (ربما غلطت بأحد الحروف) وكان يقصد (الخره) مكان (الغره) وعاد وابتسم. لقد كان مظفر النواب يقصد ذلك فعلاً ضمن التصور بأن الآمر يمثل نوري السعيد. لقد كان مظفر قاسياً فعلاً بهذا لأن الاحداث اللاحقة اثبتت ان الآمر والضباط الذين بأمرته كانوا متضامنين معنا الى حدود بعيدة.
ثم القى الفنان يوسف العاني كلمة رطب فيها الجو وأحاله الى جو مرح وأنبساط وهكذا عادت الامور الى مجاريها مع الآمر.
وقدمت فعالية نكات مرحة ثم القى الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد عدة أبيات بسيطة من الشعر شكلت فيما بعد المدخل الى قصيدة (الفية السعدية) التي تعاون في نظمها كافة شعراء الدورة. وكانت بالفصحى والعامية وكان فيها:
"مساعد الضابط الاقدم يا عيوني/ دكتور دولة من السوربون"
ويقصد بذلك الدكتور صلاح خالص.
ومنها:
 "لولا سلامك يا ابا يعقوب
 ما نخروا عظمك بالتدريب
ولا كنت من أولي الذنوبِ
الا جرى أيه يا سيدي العاني
حتى نقلت من مسرحك الانساني
لمسرح الجور على الانسانِ
ويقصد بذلك الفنان يوسف العاني. لقد شكلت مراحل نظم هذه القصيدة ساحة لمحاولات للعديد منا لنظم الشعر. واكتملت القصيدة فعلاً مع الايام.
تم تشكيل عدة خلايا حزبية شيوعية كنت في احداها وكان مسؤولها (عبدالرزاق حسين الحميري) مدرس اللغة الانكليزية الرسام البارع والودود المبتسم دائماً الذي يصعب ان يتملكه الغضب او الزعل وان حدث فيحمر وجهه ويردد بصوت خافت بضع كلمات ويبتسم من جديد. ما أروعك يا عبدالرزاق الحميري. لا أدري ما حل به واين هو الآن؟
أعتقد ان مسؤول التنظيم كان الشهيد (متي عبودي الشيخ) لخبرته الطويلة نسبياً ولهدوئه وثقافته كان في المعسكر مستوصف فيه طبيب واحد وموظف صحي وكان التعامل فيه جيدا. من الاطباء الذين مروا بنا لعدة اسابيع الدكتور قتيبة الشيخ نوري الشيوعي، اختصاصي الانف والاذن والحنجرة، وكان برتبة مقدم طبيب وكان مقره في جلولاء وكان شيوعياً هو الآخر لكنه شديد معنا في منح الاستراحة بسبب المرض. في أحد الايام جمعنا مبلغاً من المال سلمناه الى الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد الذي كان يعمل في محل صياغة عند نزوله الى بغداد وذلك للقيام بصياغة هدية كبيرة من الفضة صممها عبدالرزاق حسين الحميري. وفعلاً قام بصياغتها واطلعنا عليها في بغداد. وكان فيها نخلة ومشحوف ومياه وطيور وبشر وفيها مجال لخط جملة لاحقا. وتم تسليم الهدية الى الوفد العراقي المسافر براً الى برلين لتمثيل العراق بمهرجان الطلبة والشباب العالمي والذي مثلنا فيه رفيقنا (بني نيسان) الذي غادر المعسكر ولم يعد اليه.
كنا ننزل الى بغداد بالباصات التي تنقل الزوار الايرانيين من باب المعسكر وكانت العودة بقطار بغداد كركوك- الدرجة الثالثة حيث كنا نغني ونقرأ الاناشيد مع طرح النكات. مع حلول الصيف ابتدأ هم جديد علينا في المعسكر حيث ظهرت العقارب الصفراء الجرارة والسوداء الكبيرة ذات اللسعة المميتة، لم يصب أحد منا عدا (هادي) الطيب الودود لكنه تعافى سريعاً من اللسعة.
كنا نفتش (البسطال) قبل ان نلبسه وكذلك الملابس والفراش وكل شيء انه هم وقلق.
في احد الاسابيع وعند عودتنا من بغداد لم يعد معنا (متي الشيخ) إنتابنا القلق لاحتمال القاء القبض عليه. وبعد عدة ايام عاد الى المعسكر ومعه تقرير طبي يفيد بأنه خضع لعملية ختان) ضرورية وهنا ابتدأ المزاح الماكر مع (متي) لقناعتنا بأنه اجرى العملية.
اتضح لي بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حيث التقيته ان الموضوع لم يكن ختاناً ولا عملية، لقد كان ضمن (كونفرنس حزبي) للكادر المتقدم في الحزب استغرق هذه المدة. هذا هو العمل الحزبي السري.
كان يدرسنا في المعسكر العقيد الركن خليل سعيد للتعبئة النظرية والمقدم الركن عبدالسلام محمد عارف للتعبئة العملية والرئيس اول ركن سعدون  [حسين ] وآخرون لا أتذكر اسماءهم وكانوا جميعاً يأتون اما من جلولاء او منصورية الجبل وكانوا جميعاً ودودين معنا ويكنون لنا احتراماً عالياً.
تمكن البعثي علي صالح السعدي من ايجاد صلة مع العقيد الركن عبدالسلام محمد عارف وكان بفكر قومي واضح وهو احد قادة الجيش الذين دخلوا بغداد مع قطعاتهم فجر الرابع عشر من تموز 1958 حيث تم اسقاط النظام الملكي وقيام الجمهورية العراقية والتي كان لحزبنا دوره المجيد في الاعداد لها وقياسها.
ثم اصبح رئيس جمهورية انقلاب الثامن من شباط 1963 الدموي العميل حتى اسقاط طائرته الهيلوكوبتر في منطقة البصرة عام 1967 وموته. لقد كان قومياً متطرفاً أهوجاً بلا فكر سياسي ناضج.
كما ان العقيد الركن خليل سعيد أصبح بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة قائدا لإحدى الفرق وكان عنصراً وطنياً بتوجه ديمقراطي عام ومن أصدقاء الزعيم عبدالكريم قاسم قائد الثورة وبقي وطنياً نظيفا طيلة حياته.
بحث الفنان يوسف العاني والدكتور صلاح خالص مع الآمر إقامة حفل مسرحي في المعسكر بين قاووش النوم والمطعم: اختار يوسف العاني مسرحية (ثورة بيدبا) اعتقد أنها للفيلسوف والكاتب الهندي الكبير (طاغور) لتكون مسرحية الحفل. فتم التدريب عليها حيث ادى دور (بيدبا) زميلنا (ابو علي) لا أتذكر اسمه. كان شاباً اسمر مربوع القامة حاد قسمات الوجه طيبه ودوداً، وأديت انا دوراً صغيراً بالإضافة الى عدد من زملائنا الذين قدموا أدوارهم.

قمنا بصف كل ما توفر من قنفات في المقدمة للقادة العسكريين من المعسكرات المجاورة ومعسكرنا ثم الكراسي. حضر قادة الجيش في جلولاء والمنصورية وبعقوبة برتبهم العالية على ملابسهم العسكرية النظيفة. وكانوا وكأنهم سيقابلون الملك. كان جواً جديداً عليهم، تم تقديم المسرحية التي نالت استحسان الجميع وتصفيقهم الحاد. وبعد تقديم الشربت صعد المسرح الشاعر الودود مظفر النواب وألقى قصيدة شعبية مطلعها:
"دسته شمع وأحنّي باب العينه
بس تطلع  الرجلين من ها الطينه"
فصفق الجميع بحرارة بما فيهم كبار الضباط مع الضحك العالي مع أنها تمسهم في الصميم وألقى ناظم السامرائي نكتة لم تكن موفقة ولكن الجميع صفقوا له.
لقد كان الحفل فرصة رائعة لإظهار من نحن أمام قادة الجيش.
"وبتقديري ان ذلك مع مسيرتنا ضمن دورة الضباط الاحتياط كانت احد العوامل المحفزة للضباط في محافظة ديالى للانخراط في فصائل حركة الضباط الاحرار والمشاركة في ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة".
بعد بضعة ايام من اقامة الحفل المسرحي فوجئنا بضابط برتبة رئيس اول آثار الجدري واضحة على وجهه الأسمر البدوي يجلس في المكتبة. قدم نفسه لنا كمعاون للآمر دون ذكر اسمه علماً ان هذه الوظيفة غير موجودة في الجيش العراقي، كنت اعرفه لانه من قرى مدينة (عنه) مدينتنا وكان مدير استخبارات المنطقة الغربية ومقره في مدينة (عنه) واسمه (صعب حردان البغيلي) وعمه شيخ عشيرتهم. أخبرت جماعتنا عنه.
كان في مدينتنا يقود عمليات المداهمة لالقاء القبض على الشيوعيين. أحدى المرات حضر الى منطقة سكننا في محاولة لالقاء القبض على أحد أقربائنا (حسن حميد الذيب) الذي كان يعمل سائقاً وينقل معه بعض كوادر الحزب بين العراق وسوريا مع بعض المطبوعات. ولمّا لم يكن يوجد رجال او شباب وقت المداهمة هاجمته ومن معه النساء بكل شراسة وبالعصي والسيوف القديمة وكانت النتيجة شجاً في راسه وسيل من الدماء ثم النقل الى بغداد.
نهض من كرسيه في المكتبة قال: (انا صعب حردان ويعرفني الاخ حكمت جيداً ولهذا لا مجال لاخفاء من اكون، جيء بي من الاستخبارات العسكرية لأكون معاوناً للامر. ولكن اطمئنوا فسأسهل الكثير لكم الى آخر الكلام ومنه عمك حسين فرحان يخصك السلام. وكان عمي حينذاك عقيدا في الدائرة القانونية بوزارة الدفاع. وفعلا قلص (صعب حردان) اوقات التدريب وأبقى مكتبتنا وسمح لنا بالنزول الى المدينة بالملابس المدنية وقام بتحسين وجبات الطعام والكثير من التسهيلات الاخرى. اذن هذه هي الاساليب الجديدة لدوائر مخابرات حلف بغداد كانت محاولة لاحتواء المثقفين الشيوعيين.
في احد الايام أعدت لنا مسيرة راجلة الى جلولاء التي تبعد (16) كيلومترا وعند وصولنا  متعبين فوجئنا بان معلمنا للتعبئة (العملي) المقدم الركن عبدالسلام محمد عارف قد اعد مناورة للجيش العراقي بالذخيرة الحية حيث صفنا في موقع لا يبعد سوى عشرات الامتار عن موقع القذائف والرصاص. كان موقفاً مقلقاً لنا لأن من الممكن ان يتوجه الرمي إلينا. كان عبدالسلام عارف يقف معنا بفخر واعتزاز ويشرح لنا هذه المناورة. بعد ذلك قدم لنا الشربت الذي تم احضاره في "السطلات" وكان شيئاًَ جديداً ان يعرض عبدالسلام الجنود والضباط لمخاطر المناورة بالذخيرة الحية، وعندما اخبرناه بذلك ضحك. كان عبدالسلام يكره الشيوعية والشيوعيين ومع ذلك كان يتعامل معنا بود.
عند ادائي الامتحان في التعبئة العملي بين التلال بمدخل مدينة جلولاء لم يسألني سؤالا عسكرياً وانما (لماذا انت شيوعي وأهلك أناس معروفون. انا اكره الشيوعيين وفي المقدمة عزيز شريف): ويظهر انه يعرف انه مناضل شيوعي معروف ومن عائلة دينية واجتماعية بارزة في مدينة (عنه) التي ينتمي اليها عبدالسلام عارف. جرى نقاش طويل بيني وبينه أخبرني خلاله ان اخاه الاكبر عبدالرحمن متزوج من ابنة خالي. جرى نقاش طويل بيني وبينه وفي الاخير ابتسم بتكشيرته المعروفة وقال (انت انسان جيد) ووضع لي علامة كاملة دون اداء الامتحان.
بعد وصول صعب حردان بثلاثة أسابيع أرسلنا وفداً منا مع مبلغ من المال لزيارة رفاقنا السجناء السياسيين في سجن بعقوبة. ولما كانوا بالملابس العسكرية وبدون اجازة ألقي القبض عليهم في المقهى القريب من السجن وهم يستبدلون ملابسهم العسكرية بملابس مدنية. اقتيدوا الى مقر الفرقة في بعقوبة ومن هناك تم تسفيرهم الى معسكر السعدية حيث حجزوا في غرفة صغيرة.
 ناقشنا الامر لاطلاق سراحهم لكنه رفض لان ذلك خارج صلاحياته.
عقدنا اجتماعاً للمنظمة الحزبية توصلنا فيه الى الاضراب عن الطعام بهدوء وحتى اطلاق سراحهم.
في صياح اليوم التالي وكنت مراقباً للمطعم وكانت وجبة الغداء الدجاج والرز. وعندما حل موعد طعام الغداء وضرب البوق لم يحضر احد. كان الضابط المسؤول عن المطعم ذلك اليوم الملازم خالد الذي اصبح لاحقا شيوعيا سالني عن سبب عدم حضور أحد فأجبته بعدم معرفتي. حضر الآمر والمعاون سألني فأخبرته ربما انهم غير جوعى. ذهب الى الغرف والتقى الدكتور صلاح خالص الذي اخبره أنه اضراب عن الطعام لحين اطلاق سراح المحجوزين حاول الآمر جاهداً دون جدوى.
صباح اليوم التالي حضرت سرية عسكرية من المنصورية مدججة بالسلاح واحتلت المعسكر ونصبت الرشاش الفيكرز الثقيل وأخذ الجنود مواقعهم ومنعنا من النزول الى المدينة مع المحاولات المستمرة للآمر بأن ننهي اضرابنا مخافة ان تتطور الامور لغير صالحنا لأنها المرة الاولى في تاريخ الجيش العراقي يعلن فيه الاضراب عن الطعام، وكنا مصرين على استمرار الاضراب.
وللتاريخ اقول ان علي صالح السعدي وجماعته البعثيين اوضحوا لنا خطأنا ولكننا كنا مصرين وهم مضربون معنا أيضاَ حتى آخر يوم للاضراب الذي استمر اربعة ايام. لقد كانت دورة الضباط الاحتياط في السعدية اول لقاء عمل مشترك مع البعثيين رغم قلة عددهم وكانت اول معايشة قادت مع عوامل أخرى الى تحسين العلاقة بين الحزبين وصولاً الى انبثاق جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 التي ادت الى قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة.
كان معنا رفيقان من عائلتين مرفهتين وبنية ضعيفة سمحنا لهما بتناول الكعك مع الشاي.
كانت تجربة قاسية علينا ان نجوع لمدة اربعة ايام عدا شرب الشاي الخفيف ثلاث مرات في اليوم بدلا عن وجبات الطعام حاولنا ايصال الاخبار الى بغداد عن طريق التلفون. وقد نجحنا في ذلك كان احد عرفاء القوة التي احتلت المعسكر يقف مجاور رشاشة الفيكرز الثقيلة أخبرنا بأن لا نخاف لأنهم لن يرمونا حتى لو صدر لهم أمر بذلك. كان الذي يتسلل الى المدينة الشهيد صباح الدرة الرياضي الشجاع الطيب.
في اليوم الرابع للاضراب حضرت لجنة تحقيقية من وزارة الدفاع يرأسها الزعيم الركن محسن محمد علي مدير الاستخارات العسكرية ومعه الزعيم الركن حسين العمري والعقيد احمد مرعي معاون مدير الاستخبارات العسكرية وكان أسوأهم وانضم اليهم آمر المعسكر العقيد الركن محمد علي كاظم (ابو رافع) والرائد صعب حردان تم احضار ثمانية عشر منا من ضمنهم الاربعة الموقوفين وكنت أحدهم.
كانت اسئلة اللجنة التحقيقية تنصب على (لماذا قمتم بالاضراب عن الطعام؟) وكان جوابنا بأننا لم نضرب عن الطعام وانما لم نتناول الطعام حزناً على زملائنا المعتقلين واسئلة اخرى  بسيطة، كنا نقف في صف واحد أمام  اللجنة التحقيقية عندما جاء دوري في الاستجواب سألني رئيس اللجنة: مم تشكون؟
فأخبرته نقاطاً عديدة بسيطة منها ان الدكتور الجديد لا يعطي الراحة عن التدريب في حالة المرض. أجابني الزعيم  الركن حسين العمري (ان جلالة الملك غازي عندما كان امراً وكان طالباً في الكلية العسكرية وكنت معلمه هب الى طبيب الكلية فكتب الدكتور بأنه متمارض وقمت فعلاً بانزال عقوبة التدريب الاضافية بحقه لمدة ساعتين. هل تريد تمييزك عن  صاحب الجلالة المرحوم الملك غازي؟
كان جوابي كالصاعقة وهو (ان الامير غازي كان يهيأ ليصبح ملكاً وقائداً عاما للجيش. أما انا فطالب في كلية الهندسة وأريد ان اصبح مهندساً لا ملكاً). بادرني رئيس اللجنة (عمك حسين فرحان ضابط ممتاز لا عمل له بالسياسة فلماذا لا تكون مثله؟ أجبته بأن، هذا الرأي لك وليس لي.
بعد ان انتهى التحقيق مع الثمانية عشر ولمدة ساعتين سيق الجميع الى المحكمة العسكرية عداي وعدا احمد فخري الحكيم لسبب لا نعرفه الى الان، حكمت المحكمة على زملائنا بالسجن بين سنة وسنتين وكان في مقدمتهم الدكتور صلاح خالص ورشدي العامل وصباح الدرة.
في نفس اليوم تم استبدال الآمر وأصبح الزعيم الركن حسين العمري العسكري الأنيق السمين الاشقر المتمرس هو البديل. كسرنا الاضراب عن الطعام وكانت ممارسة خاطئة منا ان نضرب عن الطعام وقبلها حاولنا ان نرسل وفداً عنا لزيارة سجن بعقوبة بالملابس العسكرية وكلفنا ذلك الكثير الكثير. شدد الآمر الجديد من اجراءاته بأن التزم بساعات التدريب العملي  وبساعات الدروس النظرية، قمنا بإخفاء كتب المكتبة في السقف  الثانوي لقاووش المنام وبقيت هناك حتى بعد تسريحنا ولا ندري الى اي وقت.
منع عنا النزول الى المدينة وأعيد نزولنا الى بغداد الخميس بعد الظهر ولكنه أعتنى بالعيادة الطبية والطعام. كان عسكريا نموذجياً بالمقاييس المطلوبة منه. كنا عندما نمر بالآمر او الضباط ولا نؤدي التحية وها هو يلزمنا بذلك. اصبحت الحياة في المعسكر جحيما لنا.
في اول درس نظري حضر الآمر ومعه احد الضباط ووزع علينا أوراقاً مطبوعة بفقرات من قانون العقوبات العسكري كل منها عقوبتها الاعدام وبهذا من الممكن ان نحكم عدة مرات بالاعدام فيما لو طبقت علينا.
كان الفنان يوسف العاني يضع النظارات السوداء ورأسه بين يديه ويظهر أنه كان غافياً فسأله الآمر.
ماذا تقول يا يوسف العاني؟ وهنا حرك يوسف رأسه كمن كان في نوم عميق وأجاب (أنا قانوني قبل ان أكون فناناً مسرحياً. آمل ان يستبدل هذا القانون).
أشار الآمر الى القاص عبدالملك نوري وهو اكبرنا سناً وسأله:
-(ماذا تقول بهذه المواد؟) أجاب عبدالملك: أنا رجل قانون خريج كلية الحقوق وقرأت عن القانوني المصري الكبير عبدالرزاق السنهوري أنه عندما كان استاذاً في كلية الحقوق العراقية تم توجيه السؤال اليه:
(ماهو رأيك بالقانون العسكري العراقي؟) فأجاب (ان هذا القانون لو طبق على حمير العالم لفطست). هاج الآمر وشتم عبدالملك نوري الذي انتفض صارخاً بوجه الآمر (هل تعلم من انا؟، انا عبدالملك عبداللطيف نوري. هل تذكر عندما كنت ضابطاً صغيراً وتأتي الى دار وزير دفاع حكومة بكر صدقي عبداللطيف نوري؟ انا ابنه عبدالملك).
اعتذر الآمر كثيراً وجمع الاوراق وتحسن وضعنا بعد ذلك في تعامل الآمر معنا ولهجته. في اواخر ايلول عام 1955 صدر قرار بإنهاء دورة الضباط الاحتياط العاشرة للمفصولين السياسيين وتم تسريحنا بدون رتبة عسكرية. وكان تسريحي بموجب وثيقة وزارة الدفاع الآتي نصها:
التاريخ 16/10/1955
الرقم / 984
اشترك السيد حكمت محمد الفرحان في دورة الضباط الاحتياط العاشرة وأكمل مدة التدريب القانونية وتسرح بتاريخ 9/10/1955 ولأجله زود بهذه الوثيقة.
الزعيم الركن
عبدالكريم الراوي
و. مدير الادارة
ودّعنا الضباط والعرفاء والجنود وطباخي المطعم وجميع من في المعسكر عدا الآمر. وودعنا "سبع" صاحب المقهى في السعدية وأصحاب المحال المجاورة وعدنا الى بغداد لتبدأ مرحلة جديدة من نضالنا.
شكلت دورة الضباط الاحتياط للمفصولين السياسيين في السعدية وتسعون في بالمائة منهم من الشيوعيين احدى ملاحم النضال الذي خاضه الشيوعيون في الخمسينيات من القرن الماضي.
مع تخرجنا من الدورة التحق بالحزب او أصبح الى جنبه العقيد الركن محمد علي كاظم آمر الدورة والملازم اول احمد والملازم خالد واثنان من العرفاء (هادي واحمد) والعديد من اهالي مدينة السعدية، مع التحاق عبدالسلام محمد عارف بحركة الضباط الاحرار وكذلك الرئيس اول عبدالجبار علي الحسين ولو أنهما على التيار القومي والعقيد الركن خليل سعيد، لقد كانت الدورة وما رافقها ونتائجها مفخرة لحزبنا ومناضليه.
فألف تحية للشهداء من منتسبي الدورة (صباح الدرة ومتي عبودي الشيخ وحازم سلو وانور محمد عبدالله).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...