الثلاثاء، 15 مارس 2016

رصافيات بقلم : الاستاذ رفعة عبد الرزاق محمد




                                                       الاستاذ رفعت عبد الرزاق محمد 
في ذكرى رحيل الرصافي 16 آذار 1945
                          رصافيات

 بقلم : الاستاذ رفعت عبد الرزاق محمد

الرصافي اسمٌ مستعار لشاعر كبير يخشى السلطة... !
لا ادري هل جُمعت الذكريات التي كتبها الشاعر الكبير بشارة الخوري المشهور بالأخطل الصغير، ونشرها في المجلات العربية في الثلاثينيات؟. ولو قيض لهذه المذكرات الاحياء في كتاب مستقل، لأصبحت تحفة ادبية رائعة تضاف إلى روائع كاتبها، وإضمامة تاريخية نفيسة عن الأدب العربي الحديث في اوائل القرن العشرين . فهي تضم معلومات طريفة على جانب كبير من الأهمية، وتكشف أسراراً خطيرة من حياة الأدباء العرب، وتعاونهم الوثيق في سبيل حياة أدبية بعيدة عن القهر الفكري والسلطوي .
وعلى نهجنا في جمع شوارد تاريخنا القريب، والتنويه بما هو جدير بالذكر، ويعد اضافة جديدة لمن يعنيه الأمر، فقد علمنا ان بشارة الخوري قد كتب ذكرياته عن مجموعة من ادباء العراق الكبار أمثال الرصافي والزهاوي والكاظمي. ودفعنا فضولنا في ملاحقة الشوارد المنسية الى الاطلاع على بعض من فصول مذكرات الأخطل الصغير التي سماها (من بقايا الذاكرة)، فوجدناها تتضمن معلومات مثيرة عن حياة أدبائنا في العقد الاول من القرن العشرين، وصلة كاتب المذكرات بتلك الأحداث.
   
يذكر الخوري انه كان يشك في ان يكون الرصافي اسما لرجل من لحم ودم يستهدف لنقمة السلطان ولمن في بغداد من الرجعيين أعداء الإصلاح. غير أن معروف الرصافي  لم يلبث ان قدم بيروت في اوائل شباط 1909، فتم الاجتماع به في (قهوة البحر )، وقد ذهب اليها الخوري مع الشاعر اسعد رستم، فاذا هو يحيط به الشيخ محمد  رشيد رضا والشيخ محيي الدين الخياط والشيخ مصطفى الغلاييني ومحمد افندي الباقر،وكان الرصافي مجببا معمما، ولم يطل الصافي مقامه في بيروت لانه كان في طريقه الى الاستانة وقد دعي اليها ليتولى انشاء جريدة (اقدام). وما ذكره الخوري كان مشابها لما ذكره نعوم لبكي في مقال له في جريدته (المناظر) التي اصدرها في امريكا واعتقد فيها ان الرصافي توقيع مستعار لشاعر عربي كبير يخشى اظهار اسمه الحقيقي لخشيته من السلطات العثمانية .
فانبرى للرد على لبكي المرحوم محمد كرد علي في مقالات له على صفحات جريدة (المؤيد) القاهرية . وكثر الاخذ و الرد بينهما، واستطاع كرد علي ان يثبت ان الرصافي لقب لشاعر بغدادي لامع يدعى معروف الرصافي . وقد قرأت في مقال كتبه الاب لويس شيخو اليسوعي بعنوان ( الحماسة الدستورية ) في مجلته ( المشرق ) لعام 1909 ما يفيد  ان الرصافي الشاعر الوحيد الذي طالب بخلع السلطان عبد الحميد، بل دعا الى اسقاط الملكية واقامة الجمهورية في قصيدة (رقية الصريع).
     
ولم تلق المهمة التي قصدها الرصافي في الاستانة التوفيق، فقرر العودة الى وطنه، فمر ثانية ببيروت، يقول الاخطل الصغير:عادالرصافي في اواخر عام 1909 فاقبل توا على إدارة جريدة (البرق) - كان الاخطل يصدرها، وكنا ساعتئذ نهم بنزهة في الجبل، فلم يتردد الرصافي في قبول دعوتنا لاسيما وقد كان الريحاني في (الفريكة)، فأطبقنا به واحتللنا صيوانه وقد كان يصحبنا الاديب الفكه المرحوم الياس خليل يمتعنا بنكاته حينا وبصوته حينا . في الحق انها متعة الانفس ومشتهاها، الرصافي والريحاني يلتقيان للمرة الأولى تحت وابل من الاحاديث العلمية والاراء في الالوهية وتاثير القمر في الجاذبية ومكانة المرأة الشرقية من الرجل.
   
وزار الرصافي في زيارته الثاني الأخطل الصغير، الذي هيأ له مجلسا جمع فيه الرصافي مع الشيخ عبد الله البستاني، يصفها الاخطل بقوله : هي ليلة التقى فيها الرصافي بالبستاني .. وكان يوحشنا فيها شيخنا العازر لولا الذي انشده داود مجاعص واميل خوري من شعره ووقف له الرصافي إعجابا  وشرب البستاني نخب زميله فقال :
 
اني لأشربها على ذكر امرئ
هو بالبلاغة والنهى معروف
 
إن كنت تنكره فليس بضائر
ابدا عليه فانه (معروف)
 
فردّ عليه الرصافي بقوله:
  
إني لاشربها على شرف الذي
الفضل فيه ليس بالمتناهي
 
ان الفصاحة والبلاغة والنهى
والفضل اجمع عند (عبد الله)

 بين الرصافي والمس بيل
على ان الامر يبدو مختلفا في علاقة (الخاتون) المس بيل السكرتيرة الشرقية لدار المندوب السامي البريطاني في العراق المرحوم معروف الرصافي، وان وقعت الحادثة بعد سنوات، فعندما اقام المعهد العلمي ببغداد حفلة تكريم امين الريحاني عام 1932، القى الرصافي قصيدته المشهورة (تجاه الريحاني – شكواي العامة)، واعتبرت المس بيل – السكرتيرة الشرقية لدائرة المندوب السامي – القصيدة تحريضا للشعب على الثورة فارسل اليها الرصافي موضحا فيها حقه كمواطن في ابداء رأيه في اوضاع وطنه فاجابته المس بل برسالة هذا نصها: 
الى حضرة الفاضل الاديب معروف افندي الرصافي المحترم.. 
بعد التحية وجزيل الاحترام 
جوابا على كتابكم لي اود ان اوضح اني في اعتقادي شخصيا ان كل فرد له الحرية في التمسك بأي اراء سياسية حسبما يراه موافقا له ولكن هناك حدود للطريقة التي تعبر بها تلك الاراء ويجب ان لا تتعداها.. هذا مالزم ودمتم. 

المس كيرترود 
السكرتير الشرقي لفخامة المندوب السامي 
الرسالة في كتاب رسائل الرصافي للأستاذ عبد الحميد الرشودي
ومن معاركها مع ادباء العراق ومثقفيه وما وقع لها مع المرحوم داود السعدي الذي نعتته برسائلها بالفاظ بذيئة للغاية، فقد كان السعدي ينشر في جريدته (دجلة) كل ما يعد اساءة للوجود البريطاني. ومنها اخبار انتصار الاتراك في الاناضول. ولما كان المرحوم سعدون الشاوي – ابن عبد المجيد الشاوي – صديقا للسعدي ومن المشجعين له على الكتابة المناوئة للانكليز، فقد استدعت المس بيل عبد المجيد الشاوي واملت عليه مقالا عن الوضع في الاناضول وطلبت نشره في جريدة (دجلة) نفسها غير ان الجريدة لم تنشره فتم استدعاء داود السعدي الى مكتب المس بل وتهديده بالسجن اذا لم ينشر المقال فنشر السعدي المقال مع افتتاحية طريفة تحت عنوان (الحر ممتحن باولاد الزنا) وكانت المس بيل هي مقصودة بذلك! 
لماذا ترك الرصافي التدريس في دار المعلمين العالية ؟
كان المرحوم حامد مصطفى احد رجال القضاء في العراق قد ترك مذكرات على جانب كبير من الاهمية والطرافة ، لم تزل مخطوطة وهي جديرة بالصدور لما فيها من حقائق وطرائف تاريخية.
ومما ذكره عن الشاعر الرصافي مايلي :
 كيف ولماذا ترك الرصافي التدريس في دار المعلمين العالية؟ 
-
كنت قد سألت الاستاذ المرحوم مصطفى علي عن سبب ترك الرصافي التدريس في دار المعلمين العالية فذكر لي – رحمه الله – انه ترك التدريس فيها وخرج مغاضبا اثر مشادة وقعت بينه وبين حامد مصطفى احد طلاب الدار وبقيت على هذا الرأي حتى ظهر الاستاذ حامد مصطفى على شاشة تلفزيون بغداد في برنامج "سيرة وذكريات" الذي كانت تقدمه السيدة ابتسام عبد الله فعرض لهذه المشادة وذكر انها وقعت بين الرصافي وبين احد طلاب الدار – ولم يسمه – فاتصلت به هاتفيا مستسفرا عن ذلك الطالب فاجابني متفضلا بان الطالب الذي اغضب الرصافي هو المرحوم فخري العبيدي ونفى ان يكون بينه وبين الرصافي ما يوجب ذلك بل على العكس من ذلك فانه كان من الطلاب القلائل الذين حظوا برضا الرصافي وتشجيعه ومن محاسن المصادفات ان الاستاذ حامد مصطفى قد اماط اللثام عن هذه الحادثة فقال في (ص46) من مذكراته. 
"
اما السبب الظاهر والمباشر في ترك الاستاذ الرصافي التدريس في دار المعلمين العالية فهو على ما وقع وعلمته بحضوري ان زميلنا في الصف السيد فخري العبيدي الموصلي كان رجلا طيبا حسن النية لاتفارق الابتسامة والضحكة الخفيفة وجهه وكان مولعا بالرسم بقلم الرصاص وعلى سبورة الصف بالتباشير وكان اكثر ما يرسم الفتيات او المناظر المضحكة وكنا نانس بكل ما يرسم ثم يمحوه وقد كان عمل السيد فخري هذا يشغله عن متابعة الدرس وكلام الاستاذ. ولما كان الصف غرفة واحدة ضيقة وكان عدد الطلاب قليلا كان عمل السيد فخري ذلك ووضعه بين الطلاب ظاهرة لا حضارية ولا سائر يستره فما لبث نظر الاستاذ معروف ان وقع على اخينا فخري وما خطر بباله ان نظر الاستاذ قد علق به وما رأينا الا صوت الاستاذ يجلجل هادرا بصوته الحلو الجذاب يقول مخاطبا الصف كله: يا اخواني: انا والله محمول على تدريسكم حملا ، وما بودي ان اقوم بين ايديكم مدرسا ولكنني كنت مجبرا على ذلك ماذا تفعل ايها الاخ – مخاطبا السيد فخري – اهناك ما يضحكك مني؟ لماذا تضحك يا اخي ثم سكت والتفت نحو الباب حيث كان قد علق عصاه فتناولها ثم ادار وجهه وخرج من غرفة الصف ولم يعد بعدها. 
قصة لقاء الملك فيصل الاول بالرصافي



اثبت الاستاذ عبود الشالجي في كتابه الكبير (موسوعة الكنايات العامية البغدادية) الذي صدر مؤخرا بثلاث مجلدات كبيرة، انه من المؤرخين الفولكلوريين الكبار، لاحاطته الواسعة بالتراث البغدادي الاجتماعي، ووصفه لجوانب طريفة من الحياة في بغداد خلال النصف الاول من هذا القرن، وبما يقابلها من تراثنا القديم – وكان مصيبا عندما اعتمد على ديوان الملا عبود الكرخي في اثراء موسوعته، فالديوان كنز كبير من الالفاظ البغدادية (الخاصة)، والمستعملة في اوساط معينة، استخدمها الكرخي في قصائده الذائعة بما وهب من قابلية شعرية فائقة جعلته امير الشعر الشعبي بلا منازع.
ومن استطرادات الاستاذ الشالجي، الذي يسكن جزيرة قبرص حاليا – ما ذكره عن الشاعر الكبير معروف الرصافي، عندما اورد ابيات الكرخي عن علة المصائب التي ميزت سيرة الرصافي وموقفه من الملك فيصل الاول. يقول الشالجي (ح2 ص 640) "ولعمري انالرصافي لم ينصف الملك فيصل رحمه الله في جميع ما هجاه به" ومازالت الاشراف تهجى وتمدح، ومما يؤثر ان الرصافي لما عاد الى بغداد واسند اليه ان يقابل الملك ليشكره على هذا التعيين، واستقبله الملك فيصل وعاتبه على ما سبق منه، وقال له: يا معروف انا الذي يعدد اياما ويقبض راتبا ، فلم يعتذر الرصافي ولم يتنصل بل اطرق وقال: هكذا يقولون يامولاي".
ومع ايماني بحسن نية الاستاذ الشالجي فيما ذكره، فان الرواية التي ساقها تدل بشكل قاطع على الصفة الاصيلة التي رافقت الرصافي، وهي الاعتداد بالنفس، وهي الصفة التي جلبت عليه غضب المسيطرين على مقاليد الحكم من سفارة وبلاط، وحكمت عليه بالفاقة والعوز والمهم هنا هو بيان حقيقة اللقاء المثير بين الملك والشاعر ، وتصحيح ما اورده الاستاذ الشالجين كما انها من الوقائع الطريفة التي تستاهل تذكير القراء بها.
الشيخ عبد العزيز الثعالبي، شخصية تونسية مجاهدة في سبيل الحرية والاستقلال وصل الى بغداد سنة 1925، على عهد وزارة ياسين الهاشمي، وكان الثعالبي على معرفة سابقة بالملك فيصل، فما ان وصل حتى عين مدرسا في جامعة (آل البيت)، كما انه كان على صلة طيبة بالرصافي منذ اقامتهما في اسطنبول قبل الحرب العاليمة الاولى.
وعندما استقر الثعالبي في بغداد ووقف على العلاقة السيئة بين الرصافي والملك قرر اصلاح ذات البين، ففاتح الملك اولا بضرورة رعاية الشاعر الرصافي واللطف به، واستحسن الملك الاجتماع به، ولم تكن دار الرصافي بعيدة عن دار الثعالبي، فقد سكن الاخير في الدار التي اتخذتها مطبعة (الزمان) في محلة الميدان الان اما الرصافي فقد كان يسكن في الزقاق الضيق المبتديء من سوق الهرج والمفضي الى الاعدادية المركزية، فاستدعى الثعالبي شاعرنا واخذه الى قصر الملك القرييب من داريهما، وهو اليوم قصر الثقافة والفنون، واجتمع الثلاثة اجتماعا وديا وكان الملك بشرا سرورا فقال:
-
يا معروف اني اعتبرك من الان احد افراد اسرتنا ولا اريد لك الا الخير.
وعند انصرافهما قال الملك لهما: اذا لم يكن احد سوانا حاضرا، ارجو ان تكون هذه الزيارة وهذا الحديث سرا مكتوما بيننا لايذاع لاحد، وبعد عشرة ايام استدعي الرصافي الى البلاد الملكي وقاده رئيس التشريفات الى غرفة الملك، وقبل ان يصافح الرصافي الملك، قال الاخير: لماذا يا معروف؟ اهذا هو السر وقدم لي مجلة عربية؟ لصاحبها محمد علي الطاهر، وكان الثعالبي مراسلها!! وذهل الرصافي عندما قرأ مقالا طويلا في وصف اجتماعه بالملك، فاقسم بانه لم يذع منه كلمة لاي بشر، ونبه الملك الى ان المقال قد كتب بشكل يفهم ان صاحبه، يقصد به الدعاية للشيخ الثعالبي. وقبل الملك اعتذار الرصافي وهو متاثر، ويقول الرصافي – في رواية الاستاذ سعيد البدري – انه عاد الى داره وهو بحالة عصبية وفي ثورة نفسية، وفي عصر اليوم نفسه زاره الثعالبي فعاتبه على فعلته ولم يقبل اعتذاره لقناعته الكاملة بانه هو الذي افشر سر الاجتماع.
ومما يروى عن هذا الاجتماع ان الملك عاتب الرصافي قائلا:
أنا يا معروف من يعدد اياما وياخذ راتبا.
-
ارجو ان لا تكون كذلك يامولاي..!!!
وكان الملك يقصد ما قاله في قصيدته (تجاه الريحاني) :
لهم ملك تابى عصابة راسه
لها غير سيف (التيمسيين) عاصبا
وليس له من امرهم غير أنه
يعدد اياما ويقبض راتبا
هذه الثقة التي اوردها في مواضع اخرى مثل رسالته الى الملك سنة 1923، وقد نشرت لاول مرة ضمن رسائل الرصافي التي حققها الاستاذ عبد الحميد الرشودي ونشرها في مجلة (المورد) .
ويعتقد ان هذه الرسالة لم تقدم للملك، وبقيت لدى عبدا للطيف المنديل (المتوفي سنة 1941) وذلك لاسلوبها الشديد وعدم لياقتها في مخاطبة الملك.
وحسبنا ان نشير الى ان الرصافي قال فيها: ".. فاستمراركم في الغضب علي على ما اعتقد من سوء الحالة هو الذي دعاني الى سلوك هذا المسلك الوعر مع جلالتكم ويجوز ان اكون على خطأ، ولكن يجب ان تقام الحجة على خطئي حتى يتبين لي الصواب ان كنت مخطئاً...". 
******************************************
*شكرا لاخي الاستاذ رفعت عبد الرزاق محمد الذي ارسل لي المقال مشكورا *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...