الثلاثاء، 29 مارس 2016

حركة رشيد عالي الكيلاني - ثورة مايس 1941 في العراق والحرب العراقية -البريطانية ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ متمرس –جامعة الموصل





حركة رشيد عالي الكيلاني - ثورة مايس 1941 في العراق والحرب العراقية -البريطانية
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل

ثورة مايس سنة 1941 محطة مهمة من محطات تاريخ العراق المعاصر وقد ُعرفت هذه الثورة بتسمياتِ كثيرة ، فالمؤرخ الكبير الاستاذ عبد الرزاق الحسني ألف كتابا عنها سماه "الاسرار الخفية في حركة 1941 التحررية " .. وهناك من المؤرخين ومنهم الاستاذ عثمان كمال حداد سماها " ثورة رشيد عالي الكيلاني" .. وهناك من اطلق عليها عنوان : "الحرب العراقية –البريطانية 1941 " وهكذا فأن ثورة مايس أو ثورة نيسان-مايس سنة 1941 بكلمة أدق ُتعد من أبرز فترات التاريخ العراقي المعاصر ، لما تركته من أثار على الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ولعل من أبرز هذه الاثار وقوع العراق –مرة ثانية –تحت الاحتلال البريطاني الثاني ، والذي استمر حتى سقوط النظام الملكي الهاشمي في ثورة 14 تموز سنة 1958 .
ولمعرفة أسرار وخفايا ثورة مايس، والحرب العراقية –البريطانية في سنة 1941 لابد لنا من العودة قليلا الى الوراء والى ثورة 1920 الكبرى في العراق تلك الثورة التي ُعدت من مراحل الثورة الوطنية المعاصرة في العراق ومن معارك العراقيين مع المستعمرين الانكليز الذين جثموا على أرض العراق منذ بدء الحرب العالمية الاولى سنة 1941 وسخروا قدرات العراق كلها لخدمة مصالحهم الاستعمارية ، فأحتلوا العراق بين سنتي 1914و1918 ، وفرضوا على العراق نظام انتدابهم الذي انتهى بدخول العراق عصبة الامم سنة 1932 دولة مستقلة لكنها مكبلة بمعاهدة 1930 التي تتيح لهم العودة أي عودة قواتهم المسلحة كلما تهددت مصالحهم للخطر .
وكما سبق ان قلنا ، حين تحدثنا في حلقة سابقة عن ثورة 1920 الكبرى ، فأن الانكليز لجأوا بعد قمع ثورة 1920 الى اساليب تتميز بالمكر والخديعة والملاينة .. هذا الى جانب عدم تخليهم عن سياسة القسر بأعتبار ان السياستين يكُمل بعضها البعض ، وهذه السياسة صارت ثابتة ومميزة للسياسة البريطانية والمتتبع للسياسة البريطانية في العراق يرى بأن مصالحهم إقتضت أن يحكموا من وراء حكم "وطني" أو حكم " أهلي" شكلا أي انهم يضعون رجالا على سدة الحكم من اهل البلاد لكنهم يتحكمون بمقدرات البلاد من وراء ستار ومعنى هذا انهم لجأوا الى هذا الاسلوب لامتصاص نقمة العراقيين عليهم .. ومن ثم الالتفاف على الحركة الوطنية ثم ضربها متى تحين الفرصة المناسبة لذلك .
لقد عمل المستعمرون الانكليز على تثبيت الاقطاع وشجعوا هذه الطبقة وكانت فكرة إقامة الحكم الاهلي أو ما كان يسمى بالحكم الوطني دليل على انهم لم يكونوا يرومون ترك العراق ومن خلال الحكم الاهلي أو الوطني ُسنت قوانين وتشريعات عززت حضور طبقة الاقطاعيين ورؤساء العشائر الموالين لهم وإدخالهم الى المجالس النيابية .
وحتى نكون دقيقين في هذا الجانب لابد لما ان نشير إلى أنه حين قامت ثورة 14 تموز سنة 1958 كان اكثر من 65% من النواب هم من الملاكين ورؤساء العشائر والمتنفذين والوجهاء والاعيان كما ان كل اراضي العراق الزراعية أي الصالحة للزراعة كانت متركزة بأيدي 16 عائلة وكانت العائلة الملكية الحاكمة من بينها بل في مقدمة تلك العوائل .
ولئن اشترك بعض رؤساء العشائر في ثورة 1920 - لدوافع دينية ووطنية - الا ان معظم هؤلاء لم يبق في المعارضة .. والدليل على ذلك ان عدد الذين عارضوا معاهدة 1922 كان ( 37) نائبا في حين أن عدد الذين عارضوا معاهدة 1930 لم يزد عن اربعة نواب .
وثمة مسألة اخرى.. وهي ان الحكومة العراقية خلال الفترة من 1921 وحتى 1958 شرعت قوانين زراعية حولت فيها الفلاح البسيط الى مجرد أجير عند الملاكين والملاكين الغائبين أي الذين يملكون الاراضي الزراعية ولهم حق التصرف فيها لكنهم يعيشون في المدن . ومن هذه القوانين "قانون حقوق وواجبات الزراع لسنة 1932 " وقانون اللزمة لسنة 1938 و"قانون إعمار واستثمار الاراضي الاميرية "لسنة 1954 .
نستطيع ان نورد الكثير من الامثلة على ماكان يعانيه الفلاح العراقي قبل ثورة 1958 ، واصدار قانون الاصلاح الزراعي في ايلول سنة 1959 ونستطيع ان نورد الكثير من الامثلة على مدى الظلم والاستغلال اللاإنساني الذي كان يعانيه الفلاح العراقي .
في الشأن الصناعي ، فأن بريطانيا عندما إحتلت العراق لم تبذل أية جهود لتشجيع الصناعة الوطنية وتركت الحكومة العراقية تواجه هذا التحدي بل بالعكس أقامت الكثير من العراقيل امام الصناعة الوطنية الناشئة كي تجعل هذه الحكومة ترضخ بأستمرار لما كانت تريد .. ولم تتوقف بريطانيا عن اثارة المشاكل أمام الحكومة العراقية الفتية ومن هذه المشاكل مشاكل الحدود مع الدول المجاورة . وقد كانت الحكومة العراقية طيلة سنوات في موقف لاتحسد عليه .. وبالشكل الذي جعلها عاجزة عن أن تتخذ أي تدبير جدي سريع للمحافظة على حدودها وكيانها الفتي .
ومع هذا تجلت إرادة العراقيين بتصميمهم على تشكيل جيش وطني منذ السادس من كانون الثاني سنة 1921 . وقد قام هذا الجيش بدور كبير في الاسهام الجدي والفاعل في نضال الشعب العراقي في سبيل الاستقلال والحرية .
ونحن نحاول التحدث عن ثورة مايس سنة 1941 والحرب العراقية –البريطانية ، ودور الجيش العراقي الباسل في الدفاع عن مكتسبات العراقيين بعد ثورة 1920 الكبرى .. لابد ان نُحدد البدايات الاولى لما سُمي في تاريخ العراق المعاصر ب"تدخل الجيش في السياسة " فأقول ان هذه المسألة كانت موضوعا لكتب ودراسات واطروحات كثيرة لعل من اكثرها تميزا أطروحة الباحث الفلسطيني الدكتور محمد طربوش والموسومة :"دور الجيش العراقي في الحياة السياسية "التي قدمها الى جامعة اكسفورد سنة
1978
وفي هذه الاطروحة حاول الباحث ان يفسر أسباب تدخل الجيش العراقي في الحياة السياسية فأشار الى ان طبيعة المجتمع العراقي ومكوناته والصراعات البينية والدوافع والعوامل السياسية، الداخلية والخارجية، هي التي لعبت دورا رئيسيا في رسم دور سياسي للجيش. ولذلك قدم خلاصة عن بناء وتطور نظام الحكم ، وتركيب سكان العراق وتوزيعه الجغرافي ورأى انها كانت عاملا رئيسا في خلق عدم الاستقرار في العراق في فترة البحث. ومن ثم بحث في احوال النخبة الحاكمة ووصف الجيش وتوسعه واعتماد الحكومة المتزايد عليه. وواصل البحث في تحليل الظروف التي ادت الى أول انقلاب عسكري في العراق والى سلسلة الانقلابات التي تبعته. وختمها باستنتاجاته عن الموضوع في الفترة الزمنية التي درسها.
كما أكد الدكتور محمد طربوش على أن تركيب المجتمع العراقي وتوزيعه الجغرافي سبب رئيس في عدم الاستقرار وفي فسح المجال للقوى العسكرية في التدخل في السياسة وكذلك في تعثر تشكيل دولة مدنية مستقرة. فسجل: "في الوقت الذي اصبح العراق دولة في العام 1920، كان عدد سكانه 2,847,000 .
ومهما يكن من أمر ، فأن المؤرخين والكتاب اختلفوا في تحديد السنة التي بدأ فيها تدخل الجيش في الحياة السياسية العراقية . ويشير بعضهم الى ان عددا من الضباط إقتنعوا بعد التصادم المستمر بين الحركة الوطنية والاستعمار البريطاني ، وتباين المواقف بين مؤيدي المعاهدات الجائرة مع بريطانيا ابتداء من معاهدة 1922 ومعارضيها بأن حكامهم ليسوا إلا صنائع للانكليز المحتلين لانهم عاجزين عن تحقيق امالهم وأمانيهم وأن العمل السياسي واجب وطني يقتضيه وضع البلاد خاصة بعد فشل السياسيين العراقيين في تحقيق مهمة تحرير البلاد من الهيمنة الاجنبية .
ويبدو ومن خلال ما توفر لدينا من وثائق ومصادر ومعطيات ان بداية التفكير في هذا الامر كما يقول المرحوم محمود شبيب في كتابه "محمود سلمان :طريق المجد الى ارجوحة الابطال " 1976 ، ابتدأت في ربيع سنة 1934 حين اجتمع قرابة 70 ضابطا في مقر جمعية الشبان المسلمين في الكرخ ببغداد لتشكيل جمعية سياسية للضباط وفي الحقيقة فأن هذا الاجتماع لم يتمخض عن اي نتيجة لافتقار الضباط الى منهج ورؤية واضحة لما يجب ان يفعلوه .
بعد وفاة الملك فيصل الاول (رحمه الله ) في 8 ايلول ستة 1933 وجيئ الملك غازي الى العرش انتقلت قيادة الامور إلى أيدي السياسيين الذين اتجهوا للفوز بالسلطة والاستئثار بها وكان على رأس هؤلاء السياسيين نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي المزمن الذي شكل في حياته السياسية وحتى مقتله يوم 15 تموز سنة 1958 (14 ) حكومة .
ومن الامور التي يجب أن نذكرها ، وهي مهمة، إن بعض السياسيين العراقيين إلتجأ الى الجيش وهو المؤسسة الوطنية التي ظلت في عهد الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة ، في منأى عن السياسة ، وكان هناك سياسيون عراقيون التجأوا قبل ذلك الى العشائر وهي المؤسسة الاجتماعية الوطنية التي ظلت كذلك في عهد الملك فيصل الاول بمنأى عن الالاعيب السياسية .
لقد التجأت وزارة علي جودت الايوبي 27 اب 1934 -23شباط 1935 .. وبعدها وزارة جميل المدفعي الثالثة 4 اذار -16 اذار 1934 الى (العشائر ) عندما تسلم ياسين الهاشمي الحكم بتأييد من اخيه الفريق طه الهاشمي الذي كان رئيسا لاركان الجيش.
ولم يلبث ان أدى انقسام المعارضة فيما بينها على عهد وزارة ياسين الهاشمي 17 اذار 1935-29 تشرين الاول 1936 إلى التجاء بعضها الى (الجيش ) كوسيلة للتغيير .
يقول الاستاذ الدكتور خلدون ساطع الحصري في تقديمه مذكرات طه الهاشمي انه يمكن ايضاح التصنيف الزمني لتسلسل مراكز القوى السياسية في العراق بين سنتي 1921و1958 الى مايلي :

• 1920-1933 المندوب السامي والملك فيصل الاول
• 1933-1936 عشائر الفرات الاوسط
• 1936-1941 الجيش
• 1941-1958 البلاط والانكليز من ورائه
هناك من المؤرخين من يقول إن الجيش إضطر بقيادة الفريق الركن بكر صدقي رئيس اركان الجيش الى العمل ضد النظام القائم انذاك وذلك بالقيام بانقلاب عسكري هو الاول في الشرق الاوسط والوطن العربي في 29 تشرين الاول سنة 1936 ، حيت فرض الجيش حكمت سليمان على الملك غازي 1933-1939 .واذا تركنا الطموح الشخصي لكل من بكر صدقي ، وحكمت سليمان جانبا لوجدنا ان الانقلاب هو حصيلة تطورات سياسية معقدة حدثت منذ تحررالعراق من الانتداب البريطاني بدخول عصبة الامم سنة 1932 حيث لم تستسغ القوى الوطنية احكام معاهدة 1930 الجائرة بين العراق وبريطانيا .
كما أن الطموحات السياسية لبعض القياديين السياسيين وسعيهم المستميت للتسابق على الكراسي ، والمناصب الوزارية قد ازدادت بعد وفاة الملك فيصل الاول وتولى ابنه غازي العرش بعده ومما ساعدهم على ذلك افتقار الملك غازي 1933-1939 الى حنكة ابيه وخبرته .
إن أية مراجعة لاوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك الفترة يلحظ –وبوضوح – انه كان هناك تذمر حقيقي من الفساد الاداري والمالي الذي كان يعم الحياة السياسية في العراق .فالوزارات سريعة التقلب والسقوط ، والمجالس النيابية تتعرض للحل قبل ان تكمل دورتها ، وتسوية حقوق الاراضي الزراعية كانت تنقل مساحات كبيرة من أراضي الدولة الى المتنفذين من اصحاب المضخات من السياسيين واصدقائهم .كما ان الاراضي التي كانت ملكا للعشيرة اصبحت ملكا للشيخ وكان الطمع في الحصول على الاراضي الزراعية سببا لحركات العشائر التي شهدها العراق قبل حدوث انقلاب سنة 1936 بقيادة الفريق الركن بكر صدقي .
كما كان سوء الادارة ، وتصرفات بعض الوزراء قد دفعت حتى انصار ياسين الهاشمي رئيس الوزراء الذي حدث الانقلاب عليه الى التذمر .
وكان ضباط الجيش يشكون –على ما ينقله طه الهاشمي في مذكراته – من سياسة التأني في توسيع الجيش ، وتطوير معداته ، وتنويع مصادر تسليحه ، ومن تكرار استخدامه في ضرب حركات العشائر التي كانت تركها دسائس السياسيين في بغداد ...لنسمعه يقول بالنص :" ان الحكومة لم تعمل بسرعة بينما الامم الاخرى تعمل بسرعة زائدة ، وإن الوزراء كانوا لاهين مشغولين بمصالحهم الخاصة ..وكان الفريق الركن بكر صدقي رئيس اركان الجيش يرى ان مستقبل الجيش وتحقيق مطالبه يتوقف الى حد كبير على اسناده لحكومة ذات اسس ايديولوجية كجماعة الاهالي " .
ولقد برهن الجيش باسلحته ، وقوة النار ألاشد التي يملكها على أنه القوة الفعالة الحقيقية في البلاد وإلى شيء من هذا القبيل يشير حكمت سليمان رئيس الوزراء الذي جاء به انقلاب بكر صدقي سنة 1936 فيقول :
" إيش نعمل ؟ يجب إحداث انقلاب ..زين ..ولكن وسائل الانقلاب الدستورية أي بالوسائل الديموقراطية القانونية مفقودة ..فالمجلس النيابي صنيعة الهاشمي ..واخيرا بقي أمامنا الانقلاب الثوري ..إيش نعمل ..؟ الثورة أشكال .هل نحرض القبائل كما حرضوها ؟ ان هذه المجازفة المجرمة تنتهي الى (سفك ) الدماء العراقية بسلاح العراقيين ...إذا ايش نعمل ؟ لم يبق امامنا الا الالتجاء الى الجيش ،وكان الجيش عند حسن ظننا " .
ومع ان هذا الانقلاب جاء إنعكاسا لمرحلة السخط الشعبي الجماهيري ضد الفساد في اجهزة الحكم وضد السيطرة الاستعمارية البريطانية في مختلف شؤون البلاد ومرافقها السياسية والاقتصادية والثقافية .لكن الفريق الركن بكر صدقي قائد الانقلاب سرعان ما أظهر فيما بعد نزعة دكتاتورية واضحة واختلف مع الوزراء اليساريين فأضطرهم الى الاستقالة ومنهم كامل الجادرجي زعيم جماعة الاهالي اليسارية ومؤسس الحزب الوطني الديموقراطي فيما بعد اي في سنة 1946 .
كما أن قادة الانقلاب فشلوا في تطبيق برنامج اصلاحي مما أدى إلى أن تنعزل الحركة الانقلابية عن الشعب والى ان يعمل الضباط القوميين على تدبير انقلاب عسكري مضاد في 14 اب سنة 1937 حين امتنع أمر حامية الموصل أمير اللواء الركن محمد أمين العمري على اطاعة أوامر حكومة حكمت سليمان في بغداد في تسليم المتهمين بأغتيال الفريق الركن بكر صدقي في الموصل يوم 11 اب سنة 1937 وعندما أمرت الحكومة قيادة معسكر الوشاش في بغداد بالزحف على الموصل واحباط الانقلاب الثاني المضاد تمرد القادة ورفضوا الانصياع لاوامر الحكومة ، فأضطر حكمت سليمان الى الاستقالة .
وفي أواخر اب سنة 1937 ألف جميل المدفعي الحكومة الجديدة وكان المدفعي يلقب بالاطفائية فهو يُكلف برئاسة الحكومة ليُنهي الازمة ويُطفئ أوارها ولكن مما تؤكده المصادر والوثائق التي بأيدينا تؤكد ان القوة الحقيقية لم تكن بيد جميل المدفعي رئيس الوزراء وانما بيد العقداء القوميين الاربعة صلاح الدين الصباغ ، ومحمد فهمي سعيد ، وكامل شبيب ، ومحمود سلمان والذين قُدر لهم أن يلعبوا دورا مهما في تاريخ العراق المعاصر عندما فجروا ثورة مايس سنة 1941 .
لم يكن أمرا معقولا ولا منطقيا أن يبقى الجيش العراقي وضباطه بعيدين عن ما يجري في بلدهم ومجتمعهم .. وقد عبًر عن هذا الموقف طه الهاشمي فيما كتبه في مذكراته يوم 10 نيسان سنة 1940 قائلا :" ان ضباط الجيش ليسوا خشبا ، بل هم أبناء البلاد ،وبإتصال مستمر بكل ما يجري فيسرهم ما يسرها ويحزنهم ما يحزنها " .
ان ثورة مايس 1941 نتيجة حتمية للاضاع الفاسدة المتهرئة التي عاشها العراق منذ وفاة الملك فيصل الاول سنة 1933 ، وظهور مراكز قوى سياسية متعددة أربكت البلاد وعلى مستوى الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ..كما كانت تعبيرا عن السخط الشعبي العميق الذي كان يحسه العراقيون ضد اساليب القمع والقهر الذي كانت تمارسه القوى الحاكمة انذاك .
ولئن كان بعض من المؤرخين يرى بأن ثورة مايس 1941 ترجع في أبعد الاحوال الى اختلاف وجهات نظر السياسيين العراقيين حول تفسير مواد معاهدة سنة 1930 الجائرة بين العراق وبريطانيا ، فأن الحقيقة تكمن في ان جذور تلك الثورة ظلت تعتمل في اعماق المجتمع العراقي اولا والى تفاقم حدة التناقضات بين السلطة الحاكمة والشعب ثانيا .
إن جذور التخطيط لثورة مايس ترجع الى سنة 1929 حين إتصل عدد من الضباط القوميين ومنهم صلاح الدين الصباغ ومحمد فهمي سعيد بالكاتب السياسي محمد يونس السبعاوي وأخرين من الشباب القوميين وراح هؤلاء يتدارسون في لقاءاتهم السرية اماني العراق الوطنية ورسالته القومية في تحرير العراق من النفوذ الاجنبي وقد عبر العقيد محمود سلمان عن هذه الحقيقة لرئيس المحكمة التي حاكمته فيما بعد العقيد مصطفى راغب اذ قال :" الموت لايرهبنا لاننا ارتضيناه فاذا لم نمت في مشانق الخونة نموت في ساحات الجهاد والدفاع عن كرامة الامة والبلاد ....اننا عندما رأينا كفة المستعمر رجحت على كفة المواطن أردنا ان نعيد التوازن ، لاننا قوة وطنية مسؤولة "
بالرغم من أولئك الرجال الذين قاموا يالثورة لايمتلكون برنامجا واضحا وتصورا دقيقا لما كانت تنتظره البلاد من تغيير بعد قيامهم بالثورة واصطدامهم بالانكليز والقوة الحاكمة الا انهم عبروا عن معتقداتهم ورسالتهم الوطنية والى شيء من هذا القبيل يشير العقيد الركن صلاح الدين الصباغ في مذكراته :"فرسان العروبة في العراق " إذ يقول :"
أنا لاأؤمن بديموقراطية الانكليز .. ولا بنازية الالمان .. ولا ببلشفية الروس ..أنا عربي مسلم لا أرضى دون ذلك بديلا من مزاعم وفلسفات "
كان اولئك الرجال يحاولون الاستفادة من الموقف الدولي الناشيء من قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939 وانقسام العالم الى قوى حليفة وقوى محورية لصالح العراق أو قل هكذا كانوا يعتقدون وكانوا يظنون إنهم قد يصححوا خطأ وقعت فيه الحركة العربية القومية في الحرب العالمية الاولى حين تحلفت مع الانكليز ضد الدولة العثمانية فأنقلب عليها الانكليز وحلفائهم بعد الحرب فأقتسموا البلاد العربية وأعطوا لليهود وعدا بأقامة وطن قومي لهم في فلسطين على حساب سكانها الاصليين وهم الفلسطينيون .ويبدو ان اولئك الرجال لم يفكروا في عدم تكافؤ قوتهم مع قوة الانكليز
كان اولئك الرجال وهم العقداء الاربعة ومعهم محمد يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني واخرين يرون في إلتزام سياسة الحياد وسيلة للمحافظة على سلامة البلاد ، وعدم زجها في حرب لامصلحة لها فيها واستمرارا على إداء دورها الوطني والاقليمي والدولي .
أما الجهة الاخرى واقصد نوري السعيد وجماعته فكانوا يرون في ان يذهب العراق الى مسايرة بريطانيا في الحرب دون قيد أو شرط .ومما يؤكد ذلك ان نوري السعيد اراد في يوم 13 شباط سنة 1940 إعلان الحرب على ألمانيا وعند الضرورة إرسال فرقتين من الجيش العراقي للقتال في ليبيا أو البلقان للقتال ضد قوى المحور ..ولكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض الشديد من قبل قادة الجيش الذين اتجهت انظارهم الى رشيد عالي الكيلاني رئيس الديوان الملكي في بغداد ووجدوا فيه خير منقذ للبلاد في تلك الظروف .
كان لهذا الموقف من ضباط الجيش ان اضطر نوري السعيد الى تقديم استقالة وزارته في 31 اذار سنة 1940 وقد كلف الوصي على عرش العراق الامير عبد الاله ، رشيد عالي الكيلاني بتشكيل الحكومة ، فتفاقمت الامور ، وتأزمت العلاقات بين العراق وبريطانيا بسبب اختلاف وجهات النظر حول قطع العلاقات مع ايطاليا حليفة أمانيا وقوى المحور . وكان من الطبيعي أن ينزعج الانكليز ويزداد غضبهم على حكومة رشيد عالي الكيلاني وهم يخوضون حربا شرسة ضد قوى المحور الى درجة ان السفير البريطاني كينهان كورنواليس طالب من الوصي عبد الاله صراحة تنحية رشيد عالي الكيلاني من رئاسة الحكومة .
إضطر رشيد عالي الكيلاني الى الاستقالة في 31 كانون الثاني سنة 1941 وألف طه الهاشمي الحكومة التي قوبلت بمعارضة العقداء الاربعة والذين باتوا يسمون "المربع الذهبي " ويبدو أن سبب المعارضة يرجع الى شعور العقداء الاربع بأن ذلك مقدمة لتشتيتهم ونقل بعضهم تمهيدا للقضاء على نفوذهم ومن ثم تصفيتهم .
تطورت الامور وتتابعت الاحداث بشكل حاد وخطير ، ففي الاول من نيسان سنة 1941 استولى العقداء الاربعة على السلطة وأرغموا طه الهاشمي على تقديم استقالته ليحل محله في رئاسة الحكومة رشيد عالي الكيلاني وليعلن الكيلاني عن تشكيل حكومة جديدة بأسم "حكومة الدفاع الوطني " في 3 نيسان سنة 1941 وعندئذ هرب الوصي على عرش العراق الامير عبد الاله الى الحبانية حيث القاعدة العسكرية البريطانية ومن ثم الى البصرة والى بارجة بريطانية راسية في الخليج العربي بعد ان ادرك بأن الامور أفلتت من يديه ولم يعد قادرا على إدارتها بالشكل المطلوب ويبدو أنه أراد إحراج حكومة الدفاع الوطني وان الانكليز لربما كانوا قد نصحوه بذلك .
بعد هروب الوصي عبد الاله لم يجد القادة العسكريين بُدا من ان يتولوا الامور وبالتعاون مع رشيد عالي الكيلاني رئيس الحكومة وكان أول اجراء اتخذوه دعوة مجلس النواب الى الاجتماع في العاشر من نيسان 1941 ليناقش مسألة الفراغ الدستوري.. وقد اتخذ المجلس قرارا بتعيين الشريف شرف وصيا على العرش اي وصيا على الملك فيصل الثاني الذي لم يتسلم سلطاته الدستورية الا بعد بلوغه السن القانونية سنة 1953 .وكان في حيثيات القرار ان الامير عبد الاله لم يحترم حدود واجباته الدستورية، واندفع لشق وحدة العراق وإضعاف الجيش تحقيقا لاهداف دولة أجنبية ويقصد بريطانيا .
في الثالث من نيسان 1941 أعلن رشيد عالي الكيلاني برنامج حكومته الذي كان من اسسه عدم توريط العراق في اخطار الحرب ومنعه من القيام بما يتطلبه أمنه الوطني .
إزاء ذلك كله أقدمت بريطانيا بريطانيا على إنزال قوات كبيرة في البصرة يوم 19 نيسان 1941 مستندة في ذلك على مواد في معاهدة 1930 ودون ان توافق الحكومة العراقية وقد عسكرت القوات البريطانية في البصرة وبدأ الاصطدام بين القوات العراقية والقوات البريطانية في الحبانية عندما اطلقت القوات البريطانية النيران على القوات العراقية صباح يوم 2 مايس ايار سنة 1941 .
وقف الشعب العراقي بعد وقوع الصدام وراء جيشه يدافع عن حريته، واستقلاله ، وكرامته .
إستمر الصدام بين القوات العراقية والبريطانية شهرا كاملا ، وتطور القتال لتشترك قاذفات القنابل البريطانية في تحطيم الطائرات العراقية وهي جاثمة على أرض مطاراتها .. كما استهدفت مواقع القوات البريطانية وحتى بعض المدن ومنها الموصل التي قصفتها الطائرات البريطانية بالقنابل وخاصة في منطقة رأس الجادة وقد ذهب نتيجة القصف عدد كبير من الشهداء حتى ان البعض من الموصليين فسر الحقد البريطاني على الموصل انه جاء انتقاما لمقتل القنصل البريطاني في الموصل مونك ميسن سنة 1939 على ايدي متظاهرين موصليين احتجاجا على مقتل الملك غازي في نيسان 1939 بحادث سيارة واتهامهم الانكليز بأنهم كانوا وراء مقتله لمواقفه الوطنية والقومية المعادية للانكليز .
في 19 مايس 1941 احتلت القوات البريطانية بغداد ثانية حيث كانت قد احتلتها في 11 اذار 1917 خلال الحرب العالمية الاولى وها هي تحتلها في الحرب العالمية الثانية حتى ان المؤرخين يسمون ماقام به الانكليز في 19 مايس 1941 ب" الاحتلال البريطاني الثاني للعراق " .
لقد حاول محمد يونس السبعاوي وزير الاقتصاد في حكومة رشيد عالي الكيلاني .. وأحد قادة الثورة تنظيم مقاومة شعبية مستعينا بالقوة التي شكلها بأسم "كتائب الشباب " و"حرس السبعاوي الفدائيون " معلنا نفسه حاكما عسريا في بغداد واطرافها بعد ان انسحب القادة العسكريون ورشيد عالي الكيلاني الى ايران الا انه لم يوفق .
لقد فشلت ثورة مايس 1941 عسكريا بسبب عدم وجود التكافؤ بين القوات العراقية والقوات البريطانية من النواحي التنظيمية ، والعسكرية ، والفنية ، والادارية .
ولئن فشلت الثورة عسكريا لكنها أججت الشعور الوطني في العراق خاصة بعد ان عاد الوصي والقي القبض على قادة الثورة وشنقهم واحدا تلو الاخر وقد صعد اولئك الرجال المشانق وهم ينددون ببريطانيا وعملاءها ..ومن المؤكد انهم خاضوا معركة غير متكافئة ، وتحدوا بريطانيا وهي في عز قوتها ، وضحوا بأرواحهم من أجل التحرر والاستقلال .
وكان لثورة مايس 1941 تأثيراتها في العراق والبلدان العربية فقد ايقظت العراقيين والعرب على ان لاسبيل الى الحرية الا بالصمود والبناء الصحيح للجيش للمواجهة .. وهكذا وقر في ذهن الضباط العراقيين وزملائهم في مصر واليمن وسوريا وغيرها من البلدان ان من الضروري تنظيم انفسهم والتهيئة للتغيير .


وهكذا كانت في العراق ثورة 14 تموز 1958 التي اسقطت النظام الملكي واقامت جمهورية العراق وثأرت لقادة الجيش كما تأثر الضباط في مصر بثورة مايس 1941 فنظموا انفسهم وقاموا بثورة 23 يوليو –تموز 1952 وهكذا ثارت اليمن وغيرها من البلدان العربية ودخل العراق مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر وهو يستذكر في مايس من كل سنة ذكرى اولئك الرجال الذين ثاروا من اجل بلدهم وعزته وكرامته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...