الثلاثاء، 22 مارس 2016

الرصافي والدكتور زكي مبارك بقلم : الاستاذ رفعت عبد الرزاق محمد






الرصافي والدكتور زكي مبارك
بقلم : الاستاذ رفعت عبد الرزاق محمد
عضو اتحاد كتاب الانترنت العراقيين
سبقت شهرة الدكتور زكي مبارك (1892ـ1952 ) مجيئه الى العراق عام 1937 ، فقد كانت كتبه ذائعة لدى مكتبات العراق ، وتهواه الاوساط الفكرية العراقية لجرأته في البحث والكتابة ، فضلا عن اسلوبه الادبي الشائق . ولما انتدب للتدريس في العراق ، كانت سعادة العراقيين به واهتمامهم لامزيد عليهما . فقد انتدب للتدريس في دار المعلمين العالية استاذا للادب العربي ، وكان يومذاك مفتشا في وزارة المعارف المصرية . ووصل بغداد في 23 تشرين الاول 1937 .
لقد ترك مبارك عند مكوثه في العراق من الذكريات الادبية الشيء الجزيل والجميل ، ومن محاسن الايام ان ينهد المرحوم الاستاذ عبد الرزاق الهلالي الى جمع هذه الذكريات الطيبة في كتاب قيم باسم ( زكي مبارك في العراق ) . ومن هذه الذكريات ، ما كانت بينه وبين شاعر العراق الكبير معروف الرصافي ، وهذا ما نعرضه في هذه السطور .
حفلة أدباء بغداد
اقام لفيف من ادباء بغداد وصحفييها حفلة تكريمية للدكتور زكي مبارك يوم 27 كانون الاول 1937 ، في قاعة فندق ( استوريا ) ، حضرها سفير مصر ببغداد عبد الرحمن عزام وعدد كبير من ادباء العراق ومثقفيه ، وادار الحفلة الصحفي المعروف يونس بحري . ومن المتحدثين رفائيل بطي وابراهيم حلمي العمر وانور شاؤل ( قصيدة ) ومحمود فهمي درويش وعباس حلمي الحلي وعبد الرحمن البناء ( قصيدة ) ، اما شاعرنا الرصافي فقد بعث من الفلوجة التي تديرها منذ عام 1933 ، قصيدة نشرتها جريدة الاستقلال البغدادية لصاحبها عبد الغفور البدري يوم 17 كانون الاول 1937 ، ثم نشرها زكي مبارك في كتابه ( ليلى المريضة في العراق ) ، ومنها :
اذا اطرى الانام فتى اديبا فلابن مبارك ادب غزير
وعلم لااشبهه ببحــــــــــر فقد نضبت بجانبه البحور
لقيـت به اخا ادب وعلم له شبه وليس له نظيـــــر
زكا نفسا فيل له زكي وبورك فالمبارك منه خير
يمج يراعه في الطرس ليلا يشق دجاه صبح مستنيــــر
لقام (بنثره الفني ) جسرا لمن في الفن اعجزه العبور
جلا بذكلئه سدف المعاني كأن ذكاءه للفهم نـــــــــور
وخاض عباب بحر من بيان تحوم عليه من بدع نســـور
اذا قرع المنابر يوم حفل رأيت الناس من فرح تمور
اصاخوا نحوه وقد اشرأبوا اكفهم تصفق او تشيــــــــــر
اذا افتخرت به مصر وتاهت فكل بني العراق به فخــــور
كيف رأى الرصافي ؟
وفي كتابه النفيس ( وحي بغداد ) ، كتب الدكتور زكي مبارك كلمة جميلة عن شاعرنا الكبير ، بعنوان ( كيف رأيت الرصافي ) ، جاء فيها :
كانت شواغلي في دنياي اضاعت علي كثيرا من الفرص النوادر ، فانا لم ار اسماعيل صبري شاعر الحب والوجدان ، وكنت استطيع ان اراه ولكني ضيعت الفرصة ، وانا لم ار الموسيقار سيد درويش وكنت استطيع ان اراه ولكني ضيعت الفرصة ، والشاعر جميل صدقي الزهاوي زار مصر وكنت استطيع ان اراه ولكني ضيعت الفرصة ... ولمل قدمت بغداد كنت انتظر ان يبدأ الرصافي بزيارتي ، ولكنه لم يفعل ، ثم علمت انه لايقيم في بغداد ، وانما يقيم في الفلوجة ، وهي قرية على شاطيء الفرات .
وتحدث المتحدثون انه عليل فرأيت من الذوق ان ابدأ انا بالسؤال عنه ، وتفضل الصديق الكريم السيد ثابت عبد النور فصحبني الى الفلوجة مع رفيقين كريمين ، ورأينا ان تكون الزيارة فجائية حتى لايتكلف الرصافي نحر الذبائح على الطريقة العربية .
دخلنا على الشاعر وهو شيخ جليل يقارب الخامسة والستين ، وكان في اعقاب علة اقام من اجلها شهرا يستشفى في لبنان ، فالتفت الى السيد ثابت عبد النور وقال : كيف جئتم على غير ميعاد ؟ اما تعرف انه كان يجب ان نحتفل بقدوم الدكتور زكي مبارك الى الفلوجة ، فقال السيد ثابت : نحن ما جئنا لزيارتك ، وانما جئنا لمشاهدة مطار سن الذبان ورأينا الفرصة سانحة للتسليم عليك . وكانت حيلة طريفة هربنا بها من كرم الرصافي .
وبدأ الشاعر فتحدث عن المازني ، المازني العظيم ، فانشدنا ابياتا قالها فيه وهو يشبه ادبه بشراب التةت ، وما ادري ما شراب التوت ، ولكن هكذا قال . ثم امر الشاعر فتاه بأن يحضر كتابه عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام والح الشاعر في ان القي نظرة على ذلك الكتاب وهو مخطوط في عشرة كراريس ، وكنت قضيت ساعة في هدوء ، فلما وقع بصري على بعض فقرات الكتاب ثرت ثورة عنيفة ، وانطلقت اجادله بلا ترفق ولا تلطف . وقابل الشاعر ثورتي بادب رائع دلني على انه من اقطاب العقل . وكان معنى ذلك انه سيفارق الفلوجة يوم ينتخب عضوا في مجلس النواب .
وبعد ايام اقام لي افاضل الادباء في بغداد حفلة تكريم ، وفي طريقيى الى مكان الحفلة اشتريت جريدة الاستقلال فرأيت في صدرها فصيدة رائعة اراد بها الرصافي ان يسبق اهل بغداد الى تكريمي ، وكذلك يكون الذوق في اكرام الضيف . ولم يقف الرجل عند هذا الحد ، بل تجشم الانتقال الى كلية الحقوق ليسمع احدى محاضراتي ، ثم جاء للسؤال عني في منزلي مرتين ، وعرض علي ان اقرأ كتابه عن الرسول وادون ما اشاء من الملاحظات ، فاعتذرت بضيق الوقت ، وبالغ في اللطف فدعاني الى التشرف بزيارته كلما شئت ، ولكن شواغلي حرمتني من لطفه فلم ازره في منزله غير ثلاث مرات ، ثم يئس من وفائي فلم يعد يسأل عني
فمن هو الصافي ؟
هومجموعة طريفة من العقل والادب والذوق والذكاء .
هو صورة صادقة للروح البغدادي ، الروح المرح الطروب .
هو عنوان الرجولة الصريحة التي تمقت الكذب والرياء .
هو بالتاكيد من اثمن ذخائر العراق .
والعراقيون يعزون شاعرهم كل الاعزاز ، ولما قدم لسماع محاضرتي بكلية الحقوق قابله الجمهور بتصفيق الاعجاب ، ويكفي ان يكون سعادة الاستاذ طه الراوي من رواة شعر الرصافي ، وطه الراوي من ائمة اللغة العربية ، اعزه الله ورعاه .
وللرصافي ديوان يقع في اكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير ، ولكن أي ديوان ؟ هوجذوات من الفكر والمنطق والوجدان ، وسيعيش هذا الديوان على التاريخ .
...وديوان الرصافي على عظمته ليس كل شعر الرصافي ، فله شاعرية لم يحوها الديوان ، هي ذلك الروح الطروب الذي يهزأ من احداث الزمان .
والرصافي مؤلفا غير معروف ، لكن كتابه عن النبي محمد كتاب هائل جدا وترجع اهميته الى مافيه من نقد الاخبار والاحاديث وقد لا تتسع الصدور لظهور هذا الكتاب ، وهذا هو الشاهد على ان اسلافنا كانوا اوسع صدرا واعلى مقاما .
اما بعد فما كتبت هذه الكلمة لأفي الرصافي حقه من الثناء ، فذلك يحتاج الى مؤلف ضخم تحدد به نواحي هذه العبقرية .
ما هذا بحثا مفصلا عن الرصافي ، وانما هي كلمة موجزة اردت ان اشرف بها نفسي فاقول اني زرت بغداد ورأيت الرصافي ولعلها تكون كفارة عن تقصيري في مودة هذا الشيخ الجليل ، واقسم ما انصرفت عن مودته طائعا ، وانما صرفني عن مودته ما القاه القدر على كاهلي من اعباء وتكاليف !
رسائل التعليقات
ذكر الاستاذ الكبير عبد الحميد الرشودي ، المؤتمن على تركة الرصافي ، ان الاستاذ الرصافي كان من القراء الجيدين ، وكان من عادته عندما يقرأ كتابا مهما في نظره ، ان يعلق على حاشية الكتاب ملاحظاته وتصويباته واستدراكاته على الكتاب ، ثم يعود الى ماسجله فيوسعه حتى يصبح بحثا او مقالا متكاملا . وكتابه الشهير ( رسائل التعليقات ) الصادر عام 1944 ببغداد ، هو في الاصل تعليقاته على عدد من الكتب المهمة ، وهي :
1 ـ التصوف الاسلامي للدكتور زكي مبارك . صدر الكتاب في القاهرة عام 1937 وهو رسالته للدكتوراه من الجامعة المصرية .
2 ـ النثر الفني للدكتور زكي مبارك ايضا ، صدر في القاهرة عام 1934 في جزءين ، وهو رسالته للدكتوراه من جامعة باريس .
3 ـ التاريخ الاسلامي للمستشرق الايطالي كايتاني ، اطلع الرصافي على النسخة باللغة التركية التي ترجمها حسين جاهد ، وقد استعارها من صديقه الاستاذ كامل الجادرجي وقرأها بامعان وعلق عليها .
اثار كتاب ( رسائل التعليقات ) ضجة فكرية كبيرة ، ولم تخل هذه الضجة من الاهواء الشخصية والسياسية ، حتى وصل الامر بالبعض الى اتهامه بالانحراف عن الدين الاسلامي ومهاجمة الرسول الكريم ، ووصمه آخرون بالكفر والارتداد . وانتقلت الضجة الى مصر ، وحمل لواء المعارضة ضد الرصافي الكاتب الناقد دريني خشبة ، فنشر مقالاته على صفحات مجلة ذائعة هي ( الرسالة ) لاحمد حسن الزيات ، ورد الرصافي عليه بمقالتين في المجلة نفسها ( حزيران وتموز 1944 ) .
لم يطلع الدكتور زكي مبارك على كتاب الرصافي في باديء الامر ـ كما يبدو ـ ، وعلم بامره من الضجة التي اثيرت حوله ، فكتب الى الرصافي رسالة بتاريخ 13 تموز 1944 ، اليك نصها كما وردت في كتاب الاستاذ الفاضل عبد الحميد الرشودي الموسوم ( رسائل الرصافي ) :
أيها الصديق العزيز
أقدم اليك اصدق التحيات ثم اقول
تتحدث اندية القاهرة بانك اخرجت مجلدا ضخما (*)في نقد كتاب النثر الفني وكتاب التصوف الاسلامي ويقال ان ذلك المجلد الضخم وصل الى كثير من اصحاب الجرائد والمجلات فهل يكون من حقي ان اعتب عليك لانك ضننت علي بنسخة من كتابك اعرف بها آراءك في نقد كتاب النثر الفني وكتاب التصوف الاسلامي ؟
انا حاضر لدفع خمسين دينارا في ثمن كتابك فمن المؤكد عندي انك اعلم مني وانك تقدر بسهولة على تفنيد آرائي وان كنت واثقا كل الثقة باني وضعت قدمي على الصخور لا على الرمال حين الفت كتاب النثر الفني وكتاب التصوف الاسلامي .
وقد اختلف القاهريون في كتابك ولا ادري ما الذي قال فيه البغداديون ولكن هناك حقيقة صحيحة وهي انك شغلت عقلك وفكرك وذوقك بنقد هذين الكتابين في آماد لاتقل عن خمس سنين . لايهمني الخطأ ولا الصواب فيما اتجهت اليه وانما يهمني ان اسجل انك شرفتني باهتمامك بنقد هذين الكتابين وليت الذين يهتمون بنقد مؤلفاتي يكونون دائما في منزلة الاستاذ معروف الرصافي . ثم ارجوك يا صديقي ان تبلغ تحياتي الى سعادة الاستاذ طه الراوي ومعالي الاستاذ رضا الشبيبي ، وان تذكر اني مشتاق الى محاورتك بالاسلوب الذي اوجب ان تنسخ بعض دفاترك من جديد .
احياني الله واحياك الى ان تراني واراك .
__________________________________________
زكي مبارك (**)
(*) لم يكن كتاب ( رسائل التعليقات ) بالمجلد الضخم وانما يتالف من 204 صفحات ، وقد طبع في مطبعة المعارف ببغداد .
(**) توفي الرصافي في آذار من السنة التالية ، وبهذا انتهت العلاقة بينهما . وقد ذكر الاستاذ الرشودي : انه كان ذا باع ويراع فصال وجال وخرج من مساجلاته القلمية معقود اللواء حتى لقبه الزيات صاحب الرسالة ب ( الملاكم الادبي ) ... توفي رحمه الله في اليوم التالي 23 كانون الثاني 1952 في مستشفى الدمرداش اثر عملية جراحية مستعجلة لم يكتب لها النجاح التام فخسر الادب العربي بموته اديبا بارزا ومنشئا مترسلا وناقدا جريئا وشاعرا ملهما قلما يجود الزمن بنظيره

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...