العبقرية الألمانية
بقلم : محمد عارف*
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=86351
«إرثان خالدان يمكن توريثهما لأطفالنا؛ أولهما جذور، والثاني أجنحة»، قالها الشاعر جوته. وعجزت عن تخريب ذلك حربان عالميتان دَمّرتا ألمانيا، وقطّعتا أوصالها. واليوم يتابع العالمُ مشدوهاً إعلان ألمانيا قبول 800 ألف لاجئ هذا العام، معظمهم عرب ومسلمون. وكتمتُ دموعي على حال كِرام قوم أذلّهم اللجوءُ، لكن أجهشتُ عندما رأيت كيف يستقبلهم الألمان بالتصفيق والزهور ولُعب الأطفال. سوريون وعراقيون فرّوا من بلدان تنحرهم، ومات بعضهم غرقاً في البحر المتوسط، وحاصرتهم الشرطة الهنغارية بالأسلاك الشائكة، والهراوات، وإذا بالألمان يحتشدون لاستقبالهم في مداخل مدنهم وقراهم، وبعضهم يشاركونهم منازلهم، إلى أن توفر لهم الدولة سكناً.
«خمسة طرق ملهمة يدعم بها الألمان اللاجئين»، عنوان مقالة في «واشنطن بوست». وأول الطرق هي الطبخ مع اللاجئين. وحصيلة ذلك كتاب وصفات الأطعمة في البلدان التي قدموا منها، وحكاياتهم عن الطعام. وأعلنت 60 جامعة وكلية، بينها جامعة النخبة «ميونيخ»، استعدادها لاستضافة الطلاب اللاجئين، والسماح لمن لم يستكمل بعد إجراءات لجوئه بحضور المحاضرات الخاصة باختصاصه، وتعلم اللغة، والاندماج في المجتمع الألماني.
وأقوى الدوافع الإنسانية هي التي تدعمها المصالح، وقد التقيا في موقف «ميركل» الذي أيدّه اليسار واليمين الألمانيان، ويذّكر بحقائق منسية، وهي أن ألمانيا ليست الغرب، ومع ذلك فهي القوة العظمى الأوروبية، ليس في الاقتصاد فحسب، بل في السياسة أيضاً، وفي الفكر والفن والعلم. يعرض تفاصيل ذلك كتاب «العبقرية الألمانية»، وعنوانه الإضافي «ألمانيا أشادت عصر النهضة الأوربية الثانية والثورة العلمية الثانية». ويسخر المؤلف الإنجليزي «بيتر واتسن» من جهل الإنجليز بعبقرية الألمان، والتي لا تقتصر على أدبائهم مثل: غوته وشيلر وهاينه.. وموسيقييهم مثل: باخ وبتهوفن وبرامز وفاجنر وشتراوس.. وفلاسفتهم مثل: هيغل وكانط وماركس وكلاوزفيتس.. وعلمائهم مثل: كبلر وهامبولد وبلانك وأنشتاين وبراون.. بل عبقرية الشعب الألماني الذي حقق المعجزة الاقتصادية بعد دمار بلده بالكامل، وأعاد توحيدها بعد تجزئتها.
ويشيطن الغربُ الألمان أكثر مما يشيطن العرب، وكلا الشيطنتان صناعات ضخمة، سينمائية وثقافية وأيديولوجية وإعلامية. وقلّما نعرف أن ألمانيا ثاني أكبر دولة في العالم بعد الولايات المتحدة في عدد المهاجرين لديها، إذ أن واحداً من كل خمسة من سكانها أصوله غير ألمانية. وقد فتحت ألمانيا أبوابها للعاملين الأجانب خلال «المعجزة الاقتصادية» في خمسينيات القرن الماضي، وعقدت آنذاك اتفاقيات استقدام العاملين مع بلدان عدة، بينها تركيا والمغرب وتونس.. ويحمل معظم العاملين الأجانب حالياً الجنسية الألمانية. كما استقبلت في منتصف الثمانينيات لاجئين أكثر من أي بلد أوروبي آخر. وفي عام 1992 قبلت ألمانيا نصف مليون لاجئ، مقابل 100 ألف فقط قبلتهم الولايات المتحدة.
«ترقبوا النهضة الألمانية القادمة مع نصف مليون مهاجر، معظمهم سوريون مؤهلين». يذكر ذلك المعلق البريطاني «سيمون جنغنز» في مقالة له في «الجارديان» عنوانها «إذا كان هذا أفضل ما يمكن أن تفعله بريطانيا فهو مقزز». والمقزز مشاركة بريطانيا في غزو العراق وأفغانستان وتدمير ليبيا وقصف سوريا وتشريد معظم سكان فلسطين.. فيما يقل عدد لاجئي هذه البلدان في بريطانيا عن السويد، وحتى عن سويسرا.. مع ذلك حذّر رئيس وزرائها «كاميرون» من «أسراب» اللاجئين العابرين من «كاليه»!
وإذا صدّقنا اتهام الألمان بأنهم يُغَطُّون باحتضانهم اللاجئين على جرائمهم في الحرب العالمية الثانية، فلنتوقع أن ينام الليلة لاجئون فلسطينيون وسوريون وعراقيون ومصريون وسودانيون وجزائريون في قصر «بكنغهام بالاس» في لندن، و«الأليزيه» في باريس! «ديفيد كاميرون عار عليك.. اللاجئون بشر أيضاً». هذه الأهزوجة المقفّاة بالإنجليزية ردّتتها «نواره» حفيدتي (7) و«لونا» (6) حفيدة شقيقي في أول مظاهرة شاركن فيها الأسرةَ، ونحو 100 ألف متظاهر في لندن السبت الماضي.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا
بقلم : محمد عارف*
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=86351
«إرثان خالدان يمكن توريثهما لأطفالنا؛ أولهما جذور، والثاني أجنحة»، قالها الشاعر جوته. وعجزت عن تخريب ذلك حربان عالميتان دَمّرتا ألمانيا، وقطّعتا أوصالها. واليوم يتابع العالمُ مشدوهاً إعلان ألمانيا قبول 800 ألف لاجئ هذا العام، معظمهم عرب ومسلمون. وكتمتُ دموعي على حال كِرام قوم أذلّهم اللجوءُ، لكن أجهشتُ عندما رأيت كيف يستقبلهم الألمان بالتصفيق والزهور ولُعب الأطفال. سوريون وعراقيون فرّوا من بلدان تنحرهم، ومات بعضهم غرقاً في البحر المتوسط، وحاصرتهم الشرطة الهنغارية بالأسلاك الشائكة، والهراوات، وإذا بالألمان يحتشدون لاستقبالهم في مداخل مدنهم وقراهم، وبعضهم يشاركونهم منازلهم، إلى أن توفر لهم الدولة سكناً.
«خمسة طرق ملهمة يدعم بها الألمان اللاجئين»، عنوان مقالة في «واشنطن بوست». وأول الطرق هي الطبخ مع اللاجئين. وحصيلة ذلك كتاب وصفات الأطعمة في البلدان التي قدموا منها، وحكاياتهم عن الطعام. وأعلنت 60 جامعة وكلية، بينها جامعة النخبة «ميونيخ»، استعدادها لاستضافة الطلاب اللاجئين، والسماح لمن لم يستكمل بعد إجراءات لجوئه بحضور المحاضرات الخاصة باختصاصه، وتعلم اللغة، والاندماج في المجتمع الألماني.
وأقوى الدوافع الإنسانية هي التي تدعمها المصالح، وقد التقيا في موقف «ميركل» الذي أيدّه اليسار واليمين الألمانيان، ويذّكر بحقائق منسية، وهي أن ألمانيا ليست الغرب، ومع ذلك فهي القوة العظمى الأوروبية، ليس في الاقتصاد فحسب، بل في السياسة أيضاً، وفي الفكر والفن والعلم. يعرض تفاصيل ذلك كتاب «العبقرية الألمانية»، وعنوانه الإضافي «ألمانيا أشادت عصر النهضة الأوربية الثانية والثورة العلمية الثانية». ويسخر المؤلف الإنجليزي «بيتر واتسن» من جهل الإنجليز بعبقرية الألمان، والتي لا تقتصر على أدبائهم مثل: غوته وشيلر وهاينه.. وموسيقييهم مثل: باخ وبتهوفن وبرامز وفاجنر وشتراوس.. وفلاسفتهم مثل: هيغل وكانط وماركس وكلاوزفيتس.. وعلمائهم مثل: كبلر وهامبولد وبلانك وأنشتاين وبراون.. بل عبقرية الشعب الألماني الذي حقق المعجزة الاقتصادية بعد دمار بلده بالكامل، وأعاد توحيدها بعد تجزئتها.
ويشيطن الغربُ الألمان أكثر مما يشيطن العرب، وكلا الشيطنتان صناعات ضخمة، سينمائية وثقافية وأيديولوجية وإعلامية. وقلّما نعرف أن ألمانيا ثاني أكبر دولة في العالم بعد الولايات المتحدة في عدد المهاجرين لديها، إذ أن واحداً من كل خمسة من سكانها أصوله غير ألمانية. وقد فتحت ألمانيا أبوابها للعاملين الأجانب خلال «المعجزة الاقتصادية» في خمسينيات القرن الماضي، وعقدت آنذاك اتفاقيات استقدام العاملين مع بلدان عدة، بينها تركيا والمغرب وتونس.. ويحمل معظم العاملين الأجانب حالياً الجنسية الألمانية. كما استقبلت في منتصف الثمانينيات لاجئين أكثر من أي بلد أوروبي آخر. وفي عام 1992 قبلت ألمانيا نصف مليون لاجئ، مقابل 100 ألف فقط قبلتهم الولايات المتحدة.
«ترقبوا النهضة الألمانية القادمة مع نصف مليون مهاجر، معظمهم سوريون مؤهلين». يذكر ذلك المعلق البريطاني «سيمون جنغنز» في مقالة له في «الجارديان» عنوانها «إذا كان هذا أفضل ما يمكن أن تفعله بريطانيا فهو مقزز». والمقزز مشاركة بريطانيا في غزو العراق وأفغانستان وتدمير ليبيا وقصف سوريا وتشريد معظم سكان فلسطين.. فيما يقل عدد لاجئي هذه البلدان في بريطانيا عن السويد، وحتى عن سويسرا.. مع ذلك حذّر رئيس وزرائها «كاميرون» من «أسراب» اللاجئين العابرين من «كاليه»!
وإذا صدّقنا اتهام الألمان بأنهم يُغَطُّون باحتضانهم اللاجئين على جرائمهم في الحرب العالمية الثانية، فلنتوقع أن ينام الليلة لاجئون فلسطينيون وسوريون وعراقيون ومصريون وسودانيون وجزائريون في قصر «بكنغهام بالاس» في لندن، و«الأليزيه» في باريس! «ديفيد كاميرون عار عليك.. اللاجئون بشر أيضاً». هذه الأهزوجة المقفّاة بالإنجليزية ردّتتها «نواره» حفيدتي (7) و«لونا» (6) حفيدة شقيقي في أول مظاهرة شاركن فيها الأسرةَ، ونحو 100 ألف متظاهر في لندن السبت الماضي.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا
تاريخ النشر: الخميس 17 سبتمبر 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق