الموصل :فذلكة تاريخية
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس – جامعة الموصل
الموصل ليست مدينة عادية ، ونينوى ليست محافظة عادية ..الموصل مدينة ، وتاريخ
، وحضارة ، وموقف .وهي ونينوى عاصمة الامبراطورية الاشورية توأمان لاينفصلان ، وتاريخهما
مرتبط بعضه بالبعض الاخر .وكما هو معروف ، فأن المصادر المتداولة ، تشير الى ان
الموصل ٌسميت هكذا لأنها تصل العراق بالشام والجزيرة ، وقد سكنتها ، منذ أقدم الازمنة ، قبائل عربية
عديدة حتى انها لاتزال منقسمة الى محلات وأحياء وميادين مسماة بأسماء تلك القبائل
ومنها الاوس ، والخزرج ، والشهوان ، والمشاهدة
، وكندة، والعقيدات ، وبني ثقيف ، وغسان ، وطي ، والخاتونية . وكان للموصل ابواب عديدة
موزعة على أحيائها جريا على العادات العربية عند تمصير المدن .
تقع الموصل ، وهي من أكبر المدن في
العراق بعد العاصمة بغداد ، في القسم الشمالي من العراق عند تقاطع خطي طول
4308 شرقا وعرض 36012 شمالا ،وهي بموقعها هذا تتوسط المنطقة المعتدلة
الشمالية .وترتفع عن مستوى سطح البحر بمقدار 300-400 متر .مناخها معتدل في فصلي
الخريف والربيع لذا عرفت ب"أم الربيعين " وسميت ب" الحدباء "
لاحديداب نهر دجلة عند دخوله اليها .والموصل جزء مهما من منطقة السهول المتموجة
المحصورة بين الاقليم الجبلي في الشمال ، والشمال الشرقي، والشرق ،وهضبة الجزيرة
من الغرب والجنوب الغربي .وهذا التمايز الواضح في موقع المدينة ،وفي المناطق
المجاورة لها ،جعلها نقطة ارتكاز اساسية للمنطقة الجبلية ،وبوابة دخول مفتوحة باتجاه
أرض الجزيرة وعالم البحر المتوسط ،الامر الذي جعلها تتمتع بموقع جغرافي عقدي رسمته
ظروف البيئة الطبيعية . ومن المؤكد ان هذا الموقع والإطار المساحي الكبير للموصل
كان وراء نمو وتطور المدينة الحضاري
،وتنوع تركيبتها السكانية ، وانسجام في التشابك الاجتماعي بشكل لانجده في الكثير
من المدن العراقية الاخرى .
لقد
اتخذ الاشوريون من الموصل في القرن الحادي
عشر قبل الميلاد ، قلعة ُعرفت في كتاباتهم ب" الحصن الغربي " وكان هدفهم
من ذلك تأمين عاصمتهم نينوى ، والتي كانت تمثل " الحصن الشرقي " .لكنها أصيبت بالإهمال والتدمير بعد سقوط نينوى سنة 612 قبل الميلاد
ولم ترجع اليها حيويتها الا بعد ظهور الاسلام ، وفتحها في عهد الخليفة الراشدي
الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ودخولها تحت حكم الدولة العربية الاسلامية
سنة 16 للهجرة-637 للميلاد .وقد وجد ابناء القبائل العربية عند دخولهم الموصل ، العون من اخوانهم الذين كانوا يعيشون
فيها . وكان على رأس الجيش الذي فتحها ربعي بن الافكل العنزي ، وكان الخليفة عمر
بن الخطاب رضي الله عنه كما يذكر المؤرخ
الطبري –في كتابه "تاريخ الرسل والملوك " قد عهد للقائد سعد بن ابي وقاص
قائد جبهة فتح العراق ،بأن يوجه ربعي بن
الافكل العنزي الى الحصنين أي الموصل بحصنها الغربي ، والشرقي أي نينوى حيث يقع
جامع النبي يونس في الوقت الحاضر . وكان يعمل الى جانب ربعي بن الافكل العنزي على
خراج الموصل ، هرثمة بن عرفجة البارقي .
وكان
للموصل سور عظيم لاتزال بعض اجزائه شاخصة للعيان حتى يومنا هذا . ومن ابواب الموصل
: باب سنجار، والباب العمادي ،وباب السراي ، وباب الميدان، وباب الجسر ،وباب
العراق ،وباب الجسر ،وباب لكش، وباب الطوب ، والباب
الجديد ، وباب الشط، وباب البيض . وٌيعد
سور الموصل من أمنع الاسوار في الحواضر الشرقية .يقول الرحالة ابن جبير الذي زار
الموصل سنة 580 للهجرة 1184 للميلاد ان
مدينة الموصل حصينة ، وان ابراجها تلتقي انتظاما لقرب المسافة بين بعضها البعض ، وفي
أعلى المدينة قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصا ويقصد بهذه القلعة منطقة (قليعات ) وهي أعلى
منطقة في الموصل ، وتطل على نهر دجلة الخالد ولها امتداداتها وتنتهي عند القلعة
الرئيسة او باشطابيا . وتقابل قليعات
في الجانب الايسر لمدينة الموصل مدينة نينوى وأسوارها وأبوابها التاريخية
ومنها باب أدد ، وباب المسقى ، وباب نركال ، وباب شمش .
في
قليعات ، وفي اسفلها محلة رأس الكور أو الكوازين، بنى العرب أول جامع لهم هو المسجد الجامع . وقد سمي بالجامع الاموي بعد ذلك ويسمى اليوم بجامع مصفي الذهب الذي يشتهر
بمنارته المتفردة عمرانيا .اسس هذا المسجد القائد هرثمة بن عرفجة البارقي الذي
عينه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الموصل بعد القائد عتبة بن فرقد
السلمي .وفد وسعه وأعاد بناؤه في العصر الاموي ،مروان بن محمد فٌسمي منذ ذلك الوقت
بالجامع الاموي وكان هذا المسجد ملاصقا لدار الامارة وحوله الاسواق التي ٌهدمت
فيما بعد في العصر العباسي ، واضيفت مساحتها الى المسجد .وكان بناء المسجد على نشز
من الارض وبينه وبين نهر دجلة الخالد مسافة قريبة جدا .وكان له اربعة ابواب الاول
شمالي ويؤدي الى سوق البزازين ، والثاني جنوبي ويسمى باب جابر ويؤدي الى سوق
السراجين والثالث شرقي ويؤدي الى جهة النهر .
ومما
يلحظ أن الموصل أصبحت في عهد الخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب رضي الله
عنهما ، من أهم القواعد العسكرية والاقتصادية الاسلامية ، وزادت هجرة القبائل
العربية اليها كالازد وطي وعبد قيس وكنده .واهتم الخلفاء الامويون والعباسيون بها ،
وظهرت فيها امارات كبيرة كأمارة
الحمدانيين والعقيليين والسلاجقة والاتابكة ، لكنها تعرضت –شأنها شأن اجزاء اخرى
من العراق ، ومنها بغداد للغزو المغولي سنة 1260 م .
الموصل
مدينة زراعية مهمة وفيها ظهرت اولى القرى
الزراعية في الموصل . كما انها لموقعها الاستراتيجي أصبحت مركزا تجاريا وموطنا للصناعات وخاصة صناعة
النسيج . وقد ازدهرت الموصل في عهد الاتابكة 521- 660للهجرة -1127-1260 للميلاد . ونشطت فيها الحركة العلمية والثقافية
والعمرانية ، وتوسعت التجارة ، واتسعت الصناعة ، وشيدت المدارس ، والجوامع ، والقصور
، والخانات ، وصارت من الاسواق المهمة ووصلت سلعها المصنعة وصادراتها الى اوربا
غربا والصين شرقا . كما تميزت بفنونها وصناعاتها النسيجية والمعدنية والخشبية
والفخارية ولايزال الناس في العالم
يتحدثون عن قماش الموسلين القطني الموصلي الشهير .
لقد برزت في الموصل ، وخاصة بعد وقوعها تحت حكم الدولة العثمانية وعاصمتها
استانبول في مطلع القرن السادس عشر الميلادي ، اسواق وخانات وقيصريات على جانب
كبير من الانتظام والتنسيق والتخصص حتى
اطلق عليها أحد الرحالة الاجانب اسم
"كجك استانبول " أي استانبول الصغيرة لتشابه خاناتها وأسواقها
وقيصرياتها بما كان موجودا في استانبول من خانات وأسواق وقيصريات . ومن أسواقها التاريخية سوق الاربعاء ، وسوق القتابين، وسوق الشعارين .ومن قيصرياتها قيصرية السبع
ابواب . ومن خانات الموصل خان الغزل ، وخان
الباليوز وخان حمو القدو .وفي الموصل
جوامع اثرية منها فضلا عن المسجد الجامع ، الجامع النوري الكبير المشهور
بمنارته الحدباء ، والجامع الاحمر أو
جامع الخضر عليه السلام ،وجامع النبي يونس وجامع النبي شيت ،وجامع النبي جرجيس .
فضلا عن عدد من المراقد المقدسة في الموصل منها مرقد الامام ابراهيم ،ومرقد
الامام محسن ،ومرقد الامام عبد الرحمن عليهم السلام .كما ان فيها كنائس وأديرة
شهيرة منها كنائس وأديرة يرتقي تاريخ بعضها الى القرن الخامس للميلاد .ومن كنائس وأديرة
الموصل كنيسة مار توما ،و كنيسة مار شعيا ، وكنيسة شمعون الصفا ،ودير مار ميخائيل ،
ودير ما بهنام ودير مار كوركيس ودير الشيخ متي وكنيسة مار حوديني .ومن اربطة
الموصل العلمية التي كان يقصدها الطلبة للتعبد والاشتغال بالعلم رباط سيف الدين
غازي بن عماد الدين زنكي وتقع في عيسى دده بمحلة الشفاء ، ورباط ابن الشهرزوري قرب
قضيب البان والرباط المجاهدي الذي بناه مجاهد الدين قيماز في الربض الاسفل على نهر
دجلة ،ورباط الشيخ قضيب البان الذي بناه ابو عبد الله الحسين قضيب البان الموصلي
471-572 للهجرة 1078-1177 للميلاد ،ويقع ظاهر مدينة الموصل خارج باب سنجار .
وقد
ٌعرفت الموصل بمدارسها ،ومعاهدها العلمية وبخزائن كتبها . ومن مدارس الموصل
المدرسة الزينية والمدرسة الطغرائية والمدرسة العزية والمدرسة البدرية والمدرسة
المجاهدية والمدرسة الكمالية والمدرسة الفخرية والمدرسة النظامية والمدرسة
النفيسية والمدرسة القاهرية والمدرسة العلائية .
واشتهرت
الموصل ،عبر تاريخها الطويل ،بظهور رموز في الادب والشعر والتاريخ والنحو والفقه
والحديث والخط والتصوير والمسرح . من منا لايذكر أبي تمام الحبيب بن اوس الطائي الشاعر الموصلي
الكبير ، ومن منا لايذكر ابن جني النحوي و الفقيه محمد بن علوان بن مهاجر الموصلي
وعالم الحديث ابو عبدالله بن محمد الرسعني
، وابن الاثير المؤرخ ، وابن الدريهم الرياضي ،وابن دانيال الذي ابتدع
تمثيليات خيال الظل والشيخ خليل بن عمر خداده الموصلي في الخط
ومحمد بن قاسم العبدلي في الطب وياسين بن خير الله الخطيب العمري في
التاريخ والملا عثمان الموصلي في الموسيقى والمقام والموشحات الدينية.
وفي
العصر الحديث انشأت في الموصل اول مطبعة
في القرن التاسع عشر ،وظهر فيها لأول مرة في العراق التصوير الفوتوغرافي ،وصدرت
فيها اول مجلة في العراق هي "مجلة أكليل الورود " سنة 1902 ،وصدرت فيها
اول جريدة بعنوان " موصل " في
25 حزيران 1885 وتأسست فيها اول بلدية سنة 1869 . وبنيت اول بناية حديثة لمدرسة هي
الاعدادية الشرقية 1908 .كما فتحت فيها المدارس الحديثة والمستشفيات الحديثة
والمحاكم الحديثة منذ القرن التاسع عشر ، والذي يعد قرنا للنهضة الادبية والفكرية
في الموصل . وقد ازدهر فيها الشعر الحديث، والقصة ، والرواية ، والفنون التشكيلية .كما ازدهرت فيها الكتابات التاريخية ، وظهر أعلام
بارزون في هذه الميادين .
الموصل
عصية على من يريد تدميرها ، واحتلالها ، وتغيير نسيجها الاجتماعي . ومما
يمكن ذكره في هذا المجال صمودها أمام غزو نادرشاه 1156 للهجرة -1743 للميلاد ، ودفاعها
المستميت خلال اكثر من 40 يوما من الحصار .كما وقفت محافظة على اصالتها ، وحفظت لغتها
العربية ، وتراثها جيلا بعد جيل ولم يستقم الامر للمحتلين الانكليز بعد الحرب
العالمية الاولى فثارت مع المدن العراقية
الاخرى " الثورة الكبرى في سنة 1920 " ، وابتدأت الثورة في تلعفر يوم 4 حزيران 1920 ، واتسعت حتى وصلت الرميثة يوم 30 حزيران 1920 ، واضطر المحتلون
الانكليز لإقامة الدولة العراقية المستقلة .
وعندما
اثار الاتراك ماعرف ب" مشكلة الموصل " سنة 1921 وقالوا بان الانكليز
احتلوا الموصل بعد اعلان الهدنة بين الدولة العثمانية وبريطانيا ، وقف الموصليون
وقفتهم المشهودة ، وتدخلت عصبة الامم وأرسلت لجنة انتهى حكمها سنة 1926 بعد زيارة الموصل بأن تظل ولاية الموصل
كلها - وكانت تشمل انذاك الموصل وكركوك واربيل والسليمانية - ضمن الدولة العراقية
الحديثة .
وكان
للموصليين دورا بارزا في تكوين الدولة ، وتأسيس الجيش العراقي ، والإدارة الحديثة ،
والمؤسسات التعليمية والصحية والقضائية ، وذلك من خلال ابناءها الذين اخلصوا في
موقفهم الوطني تجاه دولتهم ، وترسيخ أٌسسها .
وهي اليوم تواصل مسيرتها في اعادة
البناء من جديد وما تقدمه جامعة الموصل من خلال كلياتها ومراكزها البحثية
والاستشارية ماهو إلا استمرار للجهد العلمي والحضاري والوطني الذي عرفت به الموصل ، وعرف به اهلها منذ القدم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق