السبت، 29 يناير 2022

سوق الصفارين في الموصل




 



سوق الصفارين في الموصل

 

ا.د. ابراهيم خليل العلاف

استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

 

ومدينة الموصل كواحدة من ابرز مدن الشرق القديم تتميز بأسواقها المتخصصة ومنها (سوق الصفارين ) في الموصل ولازلت اتذكر انني عندما كنت أمر في شارعه افقد حاسة السمع واكاد لا اسمع شيئا بسبب حجم الطرق القوي من قبل الصفارين الذين تناثرت دكاكينهم على يمين وشمال السوق .

وسوق الصفارين من اقدم اسواق الموصل وتاريخه يعود الى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين حتى ان كثيرا من الرحالة ومنهم الرحالة المغربي ابن سعيد يقول في رحلته الى الموصل سنة 1250 ميلادية :" ان مدينة الموصل كانت فيها صنائع جمة اي كثيرة لاسيما اواني النحاس المطعم التي كان يحمل منها الى الملوك " . ويذكر الدكتور صلاح حسين العبيدي في بحثه عن (التحف المعدنية في الموصل ) نقلا عن المؤرخ ابن كثير في حوادث سنة 1258 ميلادية ان حاكم الموصل الملك العادل بدر الدين لؤلؤ كان يبعث في كل سنة الى مشهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام قنديلا ذهبا من مصنوعات الحرفيين الموصليين في سوق الصفارين زنته الف دينار .

وهكذا وصلت الينا مجموعة من التحف المعدنية التي تؤكد علو شأن الموصل في صناعات التحف الموصلية على درجة عالية من الاتقان والجودة والزخرفة وفي متاحف العالم المشهورة في لندن وباريس وموسكو ونيويورك الكثير من نماذج هذه التحف المتمثلة بالعلب والاباريق والشمعدانات والطشوت والآلات الفلكية والزهريات والصناديق والحقائب ومنها حقائب النساء اليدوية الجميلة التي تعتبر الموصل من اول المدن التي صنعتها وبرز الكثير من الصفارين الموصليين ممن وردت اسمائهم على التحف التي صنعوها ومنهم ابراهيم بن مواليا الموصلي وتلميذه اسماعيل بن ورد الموصلي وقاسم بن علي ويونس بن يوسف النقاش المولي وعلي بن عبد الله العلوي الموصلي وعلي بن حمود الموصلي وابراهيم احمد الذكي الذي صنع ابريقا يحمل تاريخ 620 هجرية – 1223 ميلادية .

ومن الطريف ان شيخنا واستاذنا سعيد الديوه جي فصل كل ذلك والف كتابا قائما بذاته عنوانه ( اعلام الصناع الموصلة ) وقف فيه عند مصنوعات الموصل النحاسية .

هذه الصناعة تواصلت في الموصل عبر السنوات التالية وسوق الصفارين الذي كان يحتل موقعا مهما من السوق الكبير في الموصل يعد استمرارا لسوق الصفارين عبر العصور ويمتد سوق الصفارين من سوق باب السراي في الجانب الايمن من مدينة الموصل وقيصرية خان الباليوز ( والباليوز)  كلمة فرنسية تعني القنصل  .

والسوق الذي ادركناه كان مختصا بصنع الاواني المنزلية التي يحتاجها البيت الموصلي وتبيضها لكنه ولفترة تحول الى سوق لبيع اواني الفافون اي الالمونيوم المستوردة اذ انحسرت عملية الصناعة واقتصرت على البيع .

وقد وقف الدكتور ذنون الطائي في كتابه ( مهن وحرف موصلية قديمة )2014 عند مهنة (الصفار ) فتحدث عنها وقال ان الصفار هو من يصنع الاواني المنزلية والتحف المعدنية في سوق الصفارين وحتى الاربعينات من القرن الماضي ظلت عملية صناعة الأباريق والطشوت والقدور والصحون والملاعق وكل ما يحتاجه البيت الموصلي تتم في هذا السوق لكن ما ان دخلت الاواني المنزلية المصنوعة من الفافون والستيل والتيفال والزجاج اسواق الموصل حتى انحسرت عملية الصنع وتوقفت الى حد ما مع بعض الاستثناءات التي نجدها اليوم ان زرنا سوق الصفارين فهناك والحمد لله رجال يحرصون على ان تستمر المهنة ويستمر توارثها ابا عن جد وهذا مما يُفرح حقا .

لكن هناك من يرى ان الاسباب في توقف عملية صنع الادوات والاواني المنزلية من النحاس هو قلة المادة الخام من النحاس وصعوبة الحصول عليها ورخص الأدوات والاواني المستوردة قياسا للمصنعة محليا هذا فضلا عن سوء الامداد بالكهرباء وقلة الايدي العاملة الماهرة المتدربة التي من الممكن ان تعمل في هذه الصناعات وعدم وجود حماية للمنتج المحلي وغزو المستورد

نعم كانت الاواني المنزلية من قدور وصحون وطشوت وابريق وحتى الشمعدانات ومستلزمات الاعراس من اوان وما يسمى (اللكن ) والابريق تصنع من مادة ( الصفر ) اي النحاس لهذا سمي السوق بسوق الصفارين وفي بغداد سوق مماثل لكنه يسمى (سوق الصفافير)    .

لازلت اتذكر ان من ابرز الصفارين في الموصل في الخمسينات كان السيد محمود الصفار واحمد الصفار ومحمد الصفار والسيد ايوب الصفار وقد كتبت مرة عن اشتراكه في المعرض الصناعي الزراعي الذي اقيم في الموصل سنة 1957 وكان صديقا لعمي السيد محمود الحامد العلاف ولدي صورة تجمعهما وقد نشرتها في صفحتي في الفيسبوك وقلت معلقا عليها :" في سنة 1957 أٌقيم في الموصل " المعرض الزراعي - الصناعي" .. ومن بين ماعرض فيه (السخانات النفطية ) التي قام بصنعها السيد ايوب حسن الصفار وقد نالت الاعجاب لأنها عرفت بين الناس لأول مرة ، وبدأوا بادخالها في بيوتهم التي كانت تفتقد الى الحمامات حيث كانوا في وقتها يرتادون الحمامات الشعبية العامة .....وكان الناس من قبل ذلك يذهبون -رجالا ونساء -الى الحمامات العامة ..وقد كرم السيد ايوب حسن الصفار بكأس كبير من قبل القائمين على ادارة المعرض ..في هذه الصورة التذكارية يجلس المرحوم السيد ايوب الصفار ( يسار الصورة ) وخلفه الكأس وبعض نماذج من السخانات في دكانه بالموصل ويجلس الى جانبه الاول من اليمين صديقه (عمي ) المرحوم السيد محمود الحامد العلاف " .                                

ان مما ينبغي ان اقوله ان السوق اليوم وبعد ان اعيد افتتاحه من جديد بعدما تعرض اليه من تدمير خلال سيطرة عناصر داعش على الموصل 2014-2017 ومعارك تحرير الموصل اصبح يعاني من الصمت المطبق فكثير من اصحابه لم يعودوا ومن عاد اليوم يكتفي ببيع الاواني المنزلية المستوردة ودعوة لكل اصحاب السوق ومرتاديه ان يعودوا الى السوق لترتفع اصوات الطرق على النحاس وتعود الحركة الى هذا السوق التاريخي العريق ان شاء الله .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...