الأربعاء، 12 يناير 2022

العولمة ومسوؤلية تجديد وظائف التعليم العالي العربي بقلم : أ.د. إبراهيم خليل العلاف

          



                                                                  ا.د.ابراهيم خليل العلاف


العولمة ومسوؤلية تجديد وظائف التعليم العالي العربي

 

                                                   أ.د. إبراهيم خليل العلاف

                                             أستاذ  -مركز الدراسات الإقليمية-جامعة الموصل

 

      عرفت العولمة Globalization  تعريفات عديدة(1).. ولسنا هنا بصدد التطرق إلى هذه التعريفات إلا بقدر ما يتعلق الأمر بموضوع البحث وهو: " العولمة ومسؤولية تجديد وظائف التعليم العالي العربي" فالعولمة "لفظاً واصطلاحاً" تستخدم لوصف مايحدث في العالم اليوم من تضاؤل سريع في المسافات الفاصلة بين المجتمعات الإنسانية سواء في مايتعلق بانتقال السلع أم الأشخاص أم رؤوس الأموال والاستثمارات أم المعلومات أم الأفكار أم القيم والعادات.

        ومعنى هذا أن للعولمة أبعاد سياسية واقتصادية وفكرية وثقافية(2). وثمة من يقول أن العولمة كشعار ليست جديدة، لكن الظاهرة قديمة ترجع جذورها إلى أول يوم بدأ فيه الغرب الاستعماري بغزو أسواق العالم بسلعه، وبضائعه، ونتاجات فكره بقصد الاستحواذ على مقدرات الأمم والشعوب وإرضاء نزعاته القائمة على تصوراته في الاستعلاء والتفوق الحضاري.

        أولا: العولمة : تاريخها.. أهدافها.. ركائزها.. مخاطرها:

        شهد وطننا العربي أول محاولة غربية من هذا القبيل عندما وطئت أقدام الغزاة الفرنسيين ارض مصر 1798، وكان من نتائج ذلك خلق مناخ ملائم لانتشار أفكار وقيم وعادات (الآخر) أي الغرب، وحدوث الصراع بين (القديم) و(الجديد) في ضوء ماسمي آنذاك بحركة (التحديث) Modernization  إن لم نقل (التغريب) Westernization .

        ومما نلحظه أن الغرب، منذ أواخر القرن الثامن عشر، وحتى الوقت الحاضر، لم يتوقف لحظة واحدة عن طرق أبواب الوطن العربي ابتداءً من غزو فرنسا لمصر سنة 1798 وانتهاء بما يسمى اليوم بـ (الانتفاخ) و(محاولات الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي)(3) . ويشير احد الباحثين إلى أن سياسات الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، تدفع الحكومات في مختلف أنحاء العالم للأخذ ببرامج العولمة ومنها: السعي باتجاه تكريس مفهوم الخصخصة Privatization ، والعمل على تحرير التجارة الدولية من خلال فتح أبواب الاقتصاد، أكثر من أي وقت مضى، أمام تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال آلاتية من الغرب، ويضيف أن الخصخصة التي تؤخذ عادة بمعنى تغيير نظام الملكية من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، تعنى في التطبيق العلمي، نقل الملكية من (الدولة العربية) إلى الشركات (الغربية) المتعددة الجنسية والعملاقة(4) .

        ومما يخيف في هذا المجال أن الغرب، يعمل حاليا على خلق وسيط جديد ليكون مسؤولاً عن إتمام حركة التغريب في هذا الجزء المهم من العالم ، لكي يحل محل أوربا و الولايات المتحدة الأمريكية وتحت تسميات جديدة منها مثلا(السوق الشرق أوسطية) أو ( النظام الشرق أوسطي الجديد)، والوسيط هذا ليس إلا إسرائيل .

        ومثلما فعل نابليون بونابارت عندما دخل القاهرة منذ  أكثر من مائتي عام (1798 )، حين ادعى انه جاء مدفوعا فقط بالرغبة في نشر مبادئ التنوير والحرية والمساواة. ومثلما فعل الجنرال ستانلي مود  Stanly Moudالذي دخل بغداد في مطلع القرن العشرين (1917 )، وقال انه جاء (محررا) و(منقذا) للعراق من العثمانيين وساعيا من اجل التقدم والنهضة ، يجئ الاميركيون بعد ذلك ليدعوا أنهم يأتون إلى المنطقة بـ ( التنمية الاقتصادية) و(السلام)، ولعل ما جاء في كتاب (شيمون بيريز) رئيس دولة اسرائيل الحالي  الموسوم "الشرق الأوسط الجديد" يعبر عن هذه الأفكار اصدق تعبير(5) . يقول شيمون بيريز:"ان التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي معيار نجاح إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط :أن ستين في المائة من الموارد  النفطية العالمية تتركز هنا . ويتميز الشرق الأوسط بامكانات سوق هائلة ، وان بناءه يؤلف تحديا كبيرا ،وبخاصة يفتح فرصة لا نهاية في المنطقة. ان الديمقراطية سوف تضع حداً للخطر الذي يهدد سلام المنطقة والعالم... (الإسلامي) أن الحركة ضد التحديث تنبع من الهوة بين أخلاقيات الغرب وآماله الاقتصادية من جهة، والواقع الفعلي من جهة أخرى"(6) . ويضيف إلى ذلك قوله:" لقد بدأت العلاقات بين الأمم تأخذ، في أعقاب نهاية القرن العشرين، بعدا نوعيا جديدا، فهناك تزايد في أهمية التقدم العلمي ، والاتصالات السريعة، وطرق جمع المعلومات ، والتعليم العالي، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتطورة، وتعزيز البيئة السليمة التي تخلق الثروة، وحسن النية، تلك هي عناصر القوة المعاصرة... زد على ذلك انه لا يسعنا أن ننسى الصعوبة المتناهية ابدا للاحتفاظ بجيش عرمرم... (7) .

        ويقف في نهاية كتابه ليطرح نفسه ممثلاً عن الغرب ومدافعا عن مصالحه قائلا:" أن استطالة أمد الصراع العربي- الإسرائيلي أدت إلى استمرار بؤس الملايين، وتحول الكثيرين ، انطلاقا من الشعور بالإحباط إلى الغيبيات والعالم الآخر رافضين الدولة الحديثة، غارقين في الأصولية الدينية، وهذه هي العوامل التي تهدد الآن استقرار وسلم المنطقة، وتنذر المصالح العالمية بالخطر!!"(8).

        وهكذا وبعد انقضاء مئتي عام من التجارب في (التقدم الاقتصادي) و(الاستقلال الاقتصادي) و(الاغتراب الحضاري والثقافي) وصلنا إلى نقطة، يقول الدكتور جلال احمد أمين ،لم يعد فيها من الصعب أن نتكهن بما يمكن أن تسفر عنه هذه "الحقبة الجديدة "من " التغريب " الذي يسعى الإسرائيليون اليوم إلى الإمساك بزمامه . إن الثمن الباهظ حقا الذي سوف يدفعه العرب هو مزيد من المسخ لهويتهم ،والمزيد من الاستقلال .والمزيد من التفاوت في الدخول ،والمزيد من التبعية للغرب ، والأخطر من ذلك الخروج من التاريخ ،وهذا يلقى على عاتق المربين وأساتذة الجامعات والمثقفين،قبل المسؤولين الرسميين ،مسؤولية كبيرة ليس في العمل من اجل الوقوف عند معالجة تأثيرات العولمة في مستويات الاستهلاك، ومعدلات النمو،ومستوى الأيدي العاملة ،وتوزيع الدخل ،وأنماط استهلاك البيئة ،وإنما للحفاظ على الثقافة الوطنية والهوية القومية .(9)   فكما هو معروف ،فأن الهدف الرئيس للنظام الرأسمالي هو تغييب النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب لكي يسهل للشركات العالمية  التسلل بسلعها ونفوذها المالي و السياسي لتأخذ دورا قياديا في نهب ثروات الشعوب ، وشل إرادة النهضة فيها(10)" وتتفق  معظم الدراسات والبحوث التي كتبت عن العولمة مع وجهة النظر هذه ،خاصة بعد أن أتضح البعد ألتدميري للعولمة في اقتصاديات دول كثيرة . إن العولمة التي بدأت الرأسمالية العالمية ، تدعو إليها وتخطط من اجل أقامتها ، ليست " إلا توحد العالم بالقوة الجديدة المتفردة  وإجبار الدول والشعوب على الاعتراف لها بالزعامة في قيادة العالم "(11) . ويضع الأستاذ حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة ،العولمة في إطار فلسفي وتاريخي عندما يصل إلى نتيجة مفادها : " إن أشكال الاستعمار الجديد،بدأت في الظهور باسم الشركات متعددة الجنسية ، واتفاقية تعريف التجارة الخارجية ،واقتصاد السوق، والعالم ذي القطب الواحد، وثورة الاتصالات وشيوع فكرة أن العالم  قرية كونية  واحدة .كما تظهر العولمة في أحكام الحصار حول مناطق الاستقلال السياسي والاقتصادي والحضاري عن (المركز) (12)" وإذا كانت العولمة هذه تربط بالقوى الاقتصادية الفاعلة وهي الدول الصناعية الكبرى ، فأن للعولمة ركائز ومقومات أبرزها الخصخصة ، والشركات العملاقة متعددة الجنسية ، والمصارف الكبيرة ، وحرية التجارة ، والأسواق المالية ،والاهم من ذلك كله السعي لفرض الأفكار الرأسمالية وقيمها على الدول والشعوب وأبرزها نشر أفكار ( صراع الحضارات ) و ( نهاية التاريخ ) وانتهاءا بسيادة نمط الحياة الاميركية ، وخاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في كانون الاول 1991 ، وشيوع العلمانية ،وحماية الأقليات ،وتنمية مفاهيم الفكر المدني وحقوق الإنسان والملكية الفكرية وما شاكل (13)وللعولمة أهداف كثيرة أبرزها الهيمنة على اقتصاديات العالم ،والتحكم في مراكز صنع القرار السياسي العالمي ، وفرض السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الغربية على الشعوب وتدمير شخصيتها الوطنية والقومية وتسهيل أمر تفكيكها وتجزئتها وجعل الدول التي لا تدور في فلكها دول مستهلكة ، ضعيفة ،مسلوبة الإرادة ، وليست العولمة إذا قدرا لا مفر منه ، أو مخرجا جيدا من الواقع المظلم الذي تعيشه الشعوب، حيث الفقر  والبطالة والمرض والتخلف بكل أنواعه مثلما يحاول بعض الكتاب الغربيين الإيحاء به، بل هي نزعة جديدة للهيمنة الأمريكية، على الدول والشعوب، ومحاولة لاختراق الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، خاصة في الجنوب والشرق والسعي لهدمها وإحلال نظم وهياكل ومفاهيم أمريكية تقوم على الذرائعية، والتسلط ، وإرضاء النزعات الفردية.(14) لذلك لابد من مواجهتها، والتعليم العالي واحد من أبرز ميادين المواجهة كما سنرى.

ثانيا: مسؤولية تجديد وظائف التعليم العالي في الوطن العربي:

        لم تعد الجامعات في عالمنا المعاصر، والذي وقفنا قبل قليل عند أبرز ملامحه وتطوراته، وخاصة بعد انتشار وذيوع بعد ظاهرة العولمة، ميدانا للتدريس فحسب، بل اتسمت مهامها لتكون مراكز للبحث العلمي،ولتطوير المعرفة، والتخطيط للمستقبل باتجاه خلق القاعدة العلمية الرصينة للمجتمع بالشكل الذي يساعده على مواجهة التحديات لذلك أصبح من الضروري أن تقوم الجامعة، بدور بارز ورئيس، وان تتوطد علاقتها بالمجتمع ومؤسساته على كافة الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويقوم الأستاذ الجامعي بمهام متعددة لعل في مقدمتها سعيه المستمر في نقل أحداث التطورات العلمية في اختصاصه إلى الطلبة وغيرهم . عن طريق التدريس والبحث والعمل في المختبرات والمصانع التابعة لمؤسسات الدولة والمجتمع(15) .

        وبقدر ما يتعلق الأمر بسياسة التعليم العالي في وطننا العربي، فان من الحقائق التاريخية المعروفة، أن عمر المؤسسات الجامعية العربية ليس طويلاً بالقياس إلى ماهو معروف عن المؤسسات الجامعية في العالم المتقدم(16) . فعلى سبيل المثال، بدا التعليم  الجامعي في العراق ومصر 1908. أما تاريخ التعليم العالي في منطقة الخليج العربي فانه يرجع إلى السبعينات من القرن العشرين. وكذلك الحال في بعض الجامعات في المغرب العربي، حيث أن الجامعة التونسية مثلاً تأسست سنة 1960،في حين أن جامعة طرابلس في ليبيا تأسست في 1974، هذا اذا ما استثنينا  الجامعات التقليدية التي ترجع جذورها إلى عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كالجامعة المستنصرية في العراق ،وجامعة الأزهر في مصر، وجامعة الزيتونة في تونس (17).

        وثمة حقيقة لابد من ملاحظتها وهي أن النقلة النوعية في عدد الجامعات العربية جرت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على ذلك جملة من التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدها الوطن العربي آنذاك. وفي مقدمتها : تعاظم الوعي القومي العربي، وتنامي الحركات الوطنية، ونشوء كيانات سياسية عربية مستقلة، وتبلور الأفكار والديمقراطية، واعتبار التعليم العالي من مظاهر استكمال الاستقلال الوطني(18) .

        كان عدد الجامعات قبل الحرب العالمية الأولى بضعة جامعات، وفي المدة ما بين 1953-1959 أصبح (22) جامعة، أما في أواخر سنة 1997 فقد بلغ عد مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي(175)  جامعة، و(137) كلية جامعية و(473) كلية مجتمع(19)

        وهناك حقيقة لابد من أخذها بنظر الاعتبار، وهي أن جميع الدلائل تشير إلى أن التعليم العالي العربي (الرسمي والأهلي) سوف يشهد خلال السنوات القليلة القادمة تطوراً كبيراً وبوتائر متصاعدة لعوامل ثلاثة هي(20):

  1_ استمرار تدفق أعداد من خريجي المدارس الثانوية (وصل عددهم سنة 1996 اكثر من 7 مليوناً)

   2_ استمرار تبني الدول العربية لسياسة الباب المفتوح في القبول بالجامعات.

   3_ السماح للقطاع الأهلي (الخاص) بولوج ميدان تأسيس وإدارة وتمويل مؤسسات تعليمية عالية.

        وتشير بعض الدراسات إلى أن 60% من البلدان العربية سمحت للقطاع الأهلي بإدارة وتمويل مؤسسات التعليم العالي. فلقد بلغ نصيب القطاع الأهلي في سنة 1997 مانسبته 34% من مجموع عدد الكليات الجامعية و 27% من الجامعات و22% من مجموع المعاهد الفنية(21).

        كما حققت استشارات البلدان العربية في التعليم العالي أرقاما قياسية في سنة 1996، اذ بلغت (6,9) مليار دولار امريكي مقابل (4) مليار دولار في سنة 1990 أي بزيادة سنوية قدرها 15% ويعادل هذا الرقم مايقارب 1,8% من مجمل الدخل القومي العربي(22).

        وشهدت الجامعات تطورا في أهدافها العلمية والتربوية، وازداد عدد المتخرجين في التعليم العالي بصورة مطردة. فقد أصبح عددهم في منتصف التسعينات قرابة ثلاثة ملايين متخرج بعد ان كان عددهم قبل الحرب العالمية الثانية لايزيد كثيرا عن عشرة آلاف  متخرج. وازداد عدد الأساتذة ، وحدث تطور في النظرة إلى التعليم العالي من حيث انه عملية إنتاجية وليس خدمية(23).

        ولكن هذا كله لم يمنع من تعرض سياسة التعليم العالي في الوطن العربي وخاصة في السنين  القليلة المنصرمة إلى نقد شديد. وشخصت الكتابات والوثائق التي نشرت ، النواقص والسلبيات التي يعاني منها التعليم العالي وفي مقدمة ذلك:

1_ إن الجامعات لاتزال تخرج سنويا الأعداد الكبيرة من الطلبة الذين لايمكن للمجتمع الإفادة من مؤهلاتهم فائدة ملموسة في المشاريع والخدمات.

2_ إن الجامعات ما تزال تمارس دورا تقليديا يقتصر على نقل العلم والمعرفة وإعداد الكوادر ، لكنها لم تقم بدورها في تغيير الأسس الاقتصادية والفكرية للمجتمع العربي(24) .

3_ عجز الجامعات العربية عن مواكبة التطورات العلمية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة ، وذلك لجمود مناهجها واحتشاد صفوفها بالطلبة وتخلف الأجهزة الإدارية والتدريبية فيها وخضوعها للسلطات السياسية وتدني مستوى الرواتب والحوافز المالية للعاملين فيها(25) .

        يقول الدكتور ادوارد سعيد: أن بعض الجامعات في بلدان الوطن العربي لا تزال تدار، بشكل عام، تبعا لنسق ما موروث عن أو مفروض مباشرة من قبل قوة مستعمرة سابقا(26) .

        أما الدكتور انطوان زحلان فيكشف عن غياب الأبحاث المتقدمة التي تقوم بها الجامعات العربية ، فضلا عن النطاق المحدود للنشاط العلمي بصورة عامة(27). ويشير تقرير اليونسكو لسنة 1997 إلى أن أعداد العلماء العرب، بالنسبة لعدد السكان لايتجاوز الـ (10%) من نسب الدول الصناعية. كما أن الإنفاق على (البحث والتطوير) لايتجاوز 3_5 في الألف من الدخل القومي، بينما تصل النسبة الى حوالي 20_30 في الالف في حالة الدول الصناعية المتقدمة.(28)

        ويرى الدكتور اسامة عبد الرحمن أن الجامعات العربية لم تحقق بعد الحد الأدنى من رسالتها وهو أعداد المتخصصين لمواجهة احتمالات التنمية، ويقول أن الجامعات العربية لاتزال إلى حد كبير رهينة الدور التقليدي وتكاد تعيش في عزلة عن المجتمع ومؤسساته الأخرى.فهي لاتمارس الدور النشط والفعال الذي تمارسه الجامعات في الدول المتقدمة من الخروج ببعض البرامج إلى خارج أسوارها ومد خدماتها الى المجتمع مباشرة، وربما كان مرد تلك العزلة، النظرة التقليدية الى العملية التعليمية من جهة، والفجوة الكبيرة بين الجامعات ومؤسسات الدولة والمجتمع من جهة ثانية، وانعدام قنوات الاتصال مع الجامعات المتقدمة في العالم ومايجري من تطور وتقدم علمي متسارع من جهة ثالثة   (29).

        ويناقش الدكتور عبد الهادي الدرة واقع التعليم العالي من حيث غياب برامج خدمة المجتمع وانفصال معارف الخريجين ومهاراتهم عن حاجات المجتمع والسوق(30) .

        ويتطرق الدكتور الياس زين الى ظاهرة هجرة العقول Drain Brain   فيقول ان 70% من المبعوثين العرب لايعودون إلى بلادهم بعد إكمال دراساتهم خارج الوطن العربي وأسباب ذلك معروفة منها مايرجع الى عوامل سياسية واجتماعية، ومنها مايرجع الى عجز الجامعات العربية عن تأمين بيئة علمية ونفسية ملائمة لابنائها من العلماء، ناهيك عن عدم توفر مستلزمات البحث(31) .

        ويأخذ الدكتور عبد المالك التميمي على الجامعات أنها تفتقر فلسفة تعليمية وتربوية محددة ، وانها غير مستقلة، ولن تتاح لها الفرص الكاملة لممارسة حرية البحث وحرية النقد. ويعتقد الدكتور صبحي القاسم أن هناك ضعفا في مواكبة مؤسسات التعليم العالي للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في العالم، وتكييف مخرجاتها مع تلك المتغيرات ، واستمرار ضيق قاعدة التخصصات العلمية المتاحة للطلبة وتدني مؤشرات التعليم العالي من حيث كفاية الموارد المخصصة لعمل مؤسساته واتساع الفجوة مع مرور الوقت بين ما تخصصه الحكومة لمؤسسات التعليم العالي، وتضم حجم مسؤولية هذه المؤسسات من ناحية، وضمان الحد الادني لنوعية أداء تلك المؤسسات من ناحية أخرى                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                     (32) .

 

 

 

 

خاتمة ومقترحات:

        في ضوء تسارع توجه العالم نحو العولمة ، وازدياد مخاطرها على الشخصية الوطنية والقومية ، وانتشار وسائل الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن تعاظم المسؤولية الملقاة على عاتق التعليم العالي في الوطن العربي من حيث وضع حلول ناجعة للقضايا والمشكلات العلمية والإنمائية التي يواجهها المجتمع العربي سواء على الصعيد الوطني أو القومي، فان أي تصور مستقبلي لتجديد وظائف التعليم العالي والبحث العلمي لابد أن يؤخذ بالحسبان طبيعة التحديات التي يواجهها العرب في القرن الحادي والعشرين. فالاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية المعاصرة تدفع بالمسؤولين عن وضع سياسة واستراتيجية التعليم العالي العربي إلى الاهتمام الجاد والمخلص بمعالجة كل العيوب والنواقص التي يعاني منها التعليم العالي وخاصة في مجال الاستعداد ، لان يصبح أكثر قدرة على تلبية متطلبات المجتمع، واحتياجات السوق وقبل ذلك تحقيق أهداف الوطن  والأمة، ويتطلب الأمر ماياتي:

1_ إعادة النظر في هياكل وبرامج ومؤسسات التعليم العالي وعلى وفق فلسفة واضحة تعكس إستراتيجية عربية تعزز الشخصية العربية وتجعلها قادرة على مواجهة تيارات العولمة، وبما يؤدي كذلك إلى تحسين الامكانات والمستلزمات للتدريس والبحث، وتفعيل التعاون العربي في مجال التعليم العالي ،والوقوف بوجه التشرذم التنافسي الذي تحركه النوازع الإقليمية . ويعد مشروع (جامعة العرب للدراسات العليا) الذي اقر قبل سنوات بمثابة المحك الأول لقدرة العرب على التعاون في ميدان التعليم العالي(33) .

2_ السعي باستمرار للربط بين خطة تطوير التعليم العالي والجامعي، وبين خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وتحقيق التوازن بين التوسع التعليمي والتربوي،والحاجات الاقتصادية والاجتماعية. ولاشك أن أهم عامل من عوامل هذا الربط، هو أن تتبنئ الجامعات. سياسة قبول مستندة إلى حاجات المجتمع من مختلف التخصصات. ولابد عندئذ من (تنويع التعليم العالي) و( إحداث توازن بين التخصصات العلمية والتقنية والتطبيقية من جهة والتخصصات الإنسانية والاجتماعية والإدارية من جهة أخرى). وقد قوى في السنوات الأخيرة (اتجاه علمي) يقوم على ربط       التعليم العالي والجامعي بمواقع العمل والإنتاج فنشأت مثلا أنواع من (كليات المجتمع) ذات مفهوم حديث تقدم خدماتها التعليمية إلى المنطقة الجغرافية، ويستند إلى (مبدأ الدراسة والعمل معا)(34) .

3_ إشاعة فكرة (الجامعة المفتوحة) وذلك لأهميتها للمجتمع العربي في المرحلة الراهنة، وخاصة وان الجامعات التقليدية لاتزال محدودة الامكانات، ولا يمكن أن تزيد من استيعابها لألوف من الطلبة المؤهلين والراغبين في التعليم العالي. وقد بدأت فكرة الجامعة المفتوحة تأخذ طريقها في بعض الدول العربية وتلقى هذه الفكرة تأييدا ودعما من اتحاد الجامعات العربية(35).

4_ الاهتمام بحركة البحث العلمي وتطوير مراكز علمية ومؤسسات متقدمة لاستيعاب العلماء والمفكرين والخبراء والأساتذة الذين يقودون عملية البحث العلمي على المستوى الدقيق والعالي والمتقدم(36).

5_ البحث في صيغ أجراء تقييم علمي وميداني مستمر للأوضاع التعليمية في الجامعات العربية، سواء من حيث مدخلاتها وعائداتها في التنمية أو من حيث كفاءتها ورصانتها العلمية والبحثية والتدريسية(37).

6_ إفساح المجال لإنشاء جامعات وكليات أهلية في البلدان العربية التي لم تشهد مثل هذه المؤسسات ، والتوسع في إنشائها في البلدان التي شهدت تأسيس هذه المؤسسات، بغية تخفيف الضغط على الجامعات القائمة وخلق المنافسة بين التعليم العالي (الرسمي) و التعليم العالي (الأهلي) بهدف تطوير النمطين ، لابد من إبراز فكرة (التعاون) و(التكامل) بين القطاعين الأهلي و الرسمي في مجال ترصين نظام التعليم العالي مع ملاحظة ان التعليم العالي في الوطن العربي ينبغي أن يظل تحت إشراف الدولة ضمانا لتحقيق المصالح الوطنية والقومية العليا، وحرصا على المبدأ الرئيس للتعليم، وهو خلق جيل يؤمن بالله والوطن والأمة، ويسعى إلى تحقيق الأهداف السامية في  الحرية والتقدم وبناء المجتمع المتطور القوي القادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية(38).

 

      

 

 

 

 

 

       الهوامش:



(1)  هناك من يطلق على ظاهرة (العولمة) تسمية (الكوكبة) او(الكوننة) انظر: صلاح الدين عمارنة، "العولمة" مجلة المهندس الاردني، العدد(65) تشرين الأول-اكتوبر  1998،70.

(2)  للتفاصيل انظر: جلال احمد أمين، العولمة والتنمية العربية في حملة نابليون إلى جولة الاوراغوي 1798-1998، أصدره مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت،1998) .

(3)  حول ظاهرة الاحتكاك بين العرب والغرب، انظر : إبراهيم خليل احمد، تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني 1516-1916، أصدرته جامعة الموصل.(الموصل 1982).

(4)    أمين، المصدر السابق، ص 21

(5)  للتفاصيل انظر: شيمون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة :دار الجليل، عمان،1994، ص 62

(6)  المصدر والصفحة نفسها.

(7)  المصدر نفسه، ص 51

(8)   المصدر نفسه، ص 54.

(9)   أمين، المصدر السابق، ص 22

(10)  . جريدة الثورة 26 من آذار-مارس 1998.

(11)   المصدر نفسه.

(12)  جريدة الثورة، بغداد، 17 من أيار-مايو  2000.

(13)    المصدر نفسه.

(14)  لأغراض المقارنة: انظر: مقابلة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل وأجرته جريدة القبس  (الكويتية) بعددها الصادر في 18 من ايار سنة 1990، كذلك : العلاف ، المصدر أعلاه.

(15)   انظر: إبراهيم خليل العلاف " الجامعة مركزاً للبحث والتطوير" مجلة الجامعة، الموصل، السنة (11)، العدد(10)، تموز 1981، ص 77.

(16)   انظر: إبراهيم خليل العلاف" التعليم العالي في الوطن العربي: الواقع والتطورات المستقبلية"، مجلة بحوث مستقبلية، تصدرها كلية الحدباء الجامعة، الموصل، السنة(1)، العد(2)،2000، ص 82.

(17)  المصدر نفسه. ص ص 82-84

(18)  للتفاصيل انظر: عبد الجليل الزوبعي وموفق الحمداني،" اثر الحرب العالمية الثانية على أوضاع  التعليم العالي في الوطن العربي" (بغداد ،1975)، بالرونيو، ص 14.

(19)  للتفاصيل انظر:صبحي القاسم،" آفاق التعليم العالي وقضاياه في بلدان الوطن العربي" نشرة المنتدى، تصدر عن منتدى الفكر العربي، عمان، الأردن، العد 143، آب 1997، ص 3.

(20)  المصدر نفسه، ص 5

(21)  المصدر نفسه، ص 5

(22)  المصدر نفسه، ص 5

(23)  العلاف،التعليم العالي في الوطن العربي،ص 88 .

( 24) نادر فرجاني، "إحصاءات التعليم العالي في الوطن العربي"، مجلة المستقبل العربي، بيروت، السنة(21)، العدد،(237) تشرين الثاني،نوفمبر،1998،ص91.

 

(25)  ادوارد سعيد، الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة : كمال ابو ديب،(بيروت،1981) ص 319

(26)  المصدر والصفحة نفسها.

(27)  انطوان زحلان، العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي،(بيروت،1980)،ص ص ،38،40_41

(28)  انظر: هشام الخطيب،"أسباب التخلف في المجتمع العربي"، نشرة المنتدى، عمان، العد(15)، نيسان 1998، ص14

(29)  انظر: أسامة عبد الرحمن، البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية، (الكويت،1982) ص ص 223_243

(30)  انظر: عبد الهادي الدرة،"ندوة نوعية التعليم العالي"، وقائع منشورة في نشرة المنتدى، عمان، المجلد (13)، العدد (157)، تشرين الاول، اكتوبر  1998،ص 11.

(31)  انظر:الياس زين، "الجامعات وتحديات التنمية في الوطن العربي"، مجلة قضايا عربية، بيروت، السنة(6)، العدد(4)، آب-اغسطس  1979،ص ص 301_306.

(32)  انظر:عبد المالك خلف التميمي،" التعليم العالي والتنمية في منطقة الخليج العربي،مجلة المستقبل العربي"العد(152)، 1985، ص ص 73_75.

(33)  للتفاصيل انظر: نادر فرجاني، المصدر السابق، ص ص 102_106.

(34) للتفاصيل انظر: الياس زين، المصدر السابق، ص ص 320_ 324.

(35)  انظر: محمد مجيد السعيد،"لماذا الجامعات المفتوحة"، مجلة اتحاد الجامعات العربية، عدد متخصص رقم(12)، ربيع الثاني 1407هـ، كانون الأول-ديسمبر  1986، عمان، 1986، ص ص 10_14.

 (36) زين، المصدر السابق، ص ص 322_323.

(37)  التميمي، المصدر السابق، ص75،وكذلك زين، المصدر السابق، ص323.

(38)  العلاف،التعليم العالي في الوطن العربي،ص ص 97_100.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...