الأحد، 27 أغسطس 2017

الموصل.. رمزية الوجدان الإنساني* بقلم : ميسون الدملوجي


الموصل.. رمزية الوجدان الإنساني*

 بقلم : ميسون الدملوجي

لمدينة الموصل رمزية في الوجدان العراقي والعالمي تميزها عن باقي المدن. فنسيجها الاجتماعي والثقافي يمتد الى نينوى التي ورد ذكرها في قصص التأريخ، وهي مكملة للحضارات الرافدينية التي انبثقت في سومر وبابل، ومركز الدولة الآشورية وملتقى الامبراطوريات الإغريقية والفارسية والرومانية والعربية قبل الإسلام، وهي حاضنة الأديان جميعا، السماوية منها وغير السماوية. زيَّنتها طبيعة جميلة وطقس معتدل، كما أغدقت تربتها الخصبة ومياهها العذبة الخيرات على أهلها عبر العصور، بالإضافة الى موقعها الجغرافي على طريق الحرير، ومن هنا جاء إسمها (الموصل) بين الشرق والغرب، لكنها كانت في الوقت نفسه ضحية صراعاتهما أحياناً، رغم كونها جسراً رابطا بينهما. منها اغتنت متاحف العالم الكبرى بالآثار النفيسة، خصوصا الثيران المجنحة التي نقشت تفاصيل وجهها الوسيم وجسدها وأجنحتها وسيقانها الخمس بدقة عالية ومهارة تعكس حرفية الأهالي وحبهم للفن والجمال والكمال.

لقد قدمت الموصل للعالم رجال فكر وأدب وفن على امتداد التأريخ، واحتفظت بهوية ميَّزتها عن باقي مدن العراق العريقة، وأهم ما يميزها هو اللهجة الموصلية والمطبخ الموصلي والمقامات الموسيقية والغناء وطراز العمارة والملبس. في سفرها الطويل تعرضت هذه المدينة الرافدينية الجميلة الى خراب وتدمير أكثر من مرة، على أيدي الميديين تارة، والعباسيين والسلجوقيين والتتار والمغول تارات أخرى. ذاق أهلها الحصار والجوع والمجاعة، وكانت في كل مرة تنهض من نكبة تعيد بناء نفسها وتلملم شملها ويلتئم نسيجها الزاهي بالأعراق والأديان والمذاهب المتنوعة.
 
سقطت الموصل بأيدي تنظيم داعش الإرهابي في ليلة ظلماء من عام 2014، وفي غفلة من أهلها، فجعلت دولة الخرافة الداعشية من الموصل عاصمة لها، وشرعت بقتل أهلها وسبيهم وبيعهم في سوق النخاسة، وامتدت أيدي الإرهاب الآثمة الى موروثها الحضاري والروحي في عمليات تفجير وتدمير للآثار الأشورية والجوامع والكنائس والمعابد والأسوار، وحرقت المخطوطات وكسرت بالمعاول مقتنيات المتحف وأحرقت المخطوطات النادرة. بل إن داعش جعلت من تهريب الآثار مورداً لبقاء حكمها الهمجي.

بعد تحرير المدينة على أيدي قواتنا البطلة، والمعارك الضروس التي راح ضحيتها أعداد كبيرة من أهلنا، سواء من منتسبي القوات الأمنية أو المدنيين الذين طاولهم القصف أو قضوا تحت الأنقاض، أصبحت عملية إعادة الإعمار وعودة النازحين ركناً أساسياً في عملية تحقيق النصر الناجز، وتحديا أساسيا لابد من الخوض في غماره، وفاءً لتضحيات الشهداء ومن أجل استعادة الحياة والتعددية الدينية والقومية والفكرية التي امتازت بها ثاني أكبر مدن العراق وأقدمها على الإطلاق.

تشير الصور الجوية الى دمار هائل طاول مدينة الموصل القديمة بسبب الإرهاب والعمليات العسكرية، وقد أدى ذلك الى هدم وتخريب ما يقارب 7,000 مبنى بنسب متفاوتة، منها 17% هدماً كاملاً، معظمها في منطقتي الميدان وراس الكور، و57% منها مدمرة جزئياً، و26% منها دمارها قليل ويمكن إصلاحه، ضمن مساحة تقدر بتسعة كيلومترات مربعة، كانت تأوي مئات الآلاف من السكان.
ان أغلبية المباني التي دمرت ضمن الموصل القديمة هي مبانٍ سكنية، وبنسبة أقل مبانٍ تجارية وخدمية، بالإضافة الى كنائس وجوامع ودور عبادة يعود تأريخ بنائها الى فترات متفاوتة، بعضها عباسي أو أقدم من ذلك، لكن أغلبها عثماني أو شُيِّد في عقود مختلفة من القرن الماضي.
 
تواجه عملية إعادة إعمار مدينة الموصل القديمة عقبتين أساسيتين، أولاهما نقص الموارد والإمكانيات وما تتطلبه العملية من مبالغ طائلة تقدر بمليارات الدولارات، والثانية هي مشكلة تعاني منها جميع مدننا القديمة، ليس في العراق فحسب وأنما في المنطقة بشكل عام، وهي وفاة أصحاب العقار الأصليين وضياع الملكية بين ورثة كثيرين من أولاد وأحفاد.

تبدأ عملية إعادة الإعمار بوضع سياسة متكاملة تشترك فيها كل الجهات المعنية لتذليل العقبتين أعلاه، وربما عقبات أخرى، بالإستفادة من تجارب الدول التي دمرت الحروب مدنها، ومنها على سبيل المثال تجربة إعادة بناء مدينة بيروت القديمة، والانطلاق منها بما ينسجم مع خصوصية الموصل عبر الاستفادة من نجاحاتها وتجنب أخطائها. هناك تجارب أخرى يمكن الاستفادة منها أيضا، مثل بناء العاصمة البولندية، وارشو، ومدينة درَزدِن الألمانية، بل وحتى مدينة هيروشيما اليابانية، الا ان بيروت هي الأقرب من نواحٍ كثيرة.

 تتلخص تجربة (وسط البلد) في بيروت بتشريع البرلمان اللبناني قانونا يحوِّل الملكية العقارية الى أسهم في شركة كبرى، معروفة باسم السوليدير، اشترك في رأسمالها كل من الدولة اللبنانية والقطاع الخاص. ونتيجة لتلك الجهود المشتركة، تحولت الخرائب ومخلفات الحرب الى مدينة تجارية وسياحية ومصرفية وسكنية، بُنيت بطراز أنيق يحاكي ما كانت عليه قبل الحرب. وقد أنجز ذلك المشروع العملاق وفقا لدراسة جدوى اقتصادية واجتماعية مفصلة. الموصل تستحق منا أكثر من هذا، تعويضا للسكان عن التجربة المريرة التي مروا بها خلال ثلاث سنوات من القسوة والظلم وكذلك للبرهنة على أننا قادرون، ليس على إلحاق الهزيمة العسكرية بقوى الإرهاب فحسب، بل على إعادة بناء ما خربه الإرهاب بأفضل مما كان. وقد تمتد تجربة إعادة بناء الموصل الى مدن العراق الأخرى، ومنها بغداد القديمة والبصرة القديمة، لانتشالها من الإهمال والاندثار، وكذلك المدن الأخرى التي تضررت بسبب أعمال التخريب أو نتيجة العمليات العسكرية أثناء ملاحقة الإرهابيين.
قد يكون صعبا علينا تجاوز الصدمة التي أصابتنا من حجم الدمار الذي خلفته همجية داعش. ولكن ليس صحيحا أن نستغرق في البكاء على الأطلال، بل علينا أن ننظر الى المدينة من منظور الكنوز التي مازالت تحت الأرض ولم تستكشف بعد، ومنها القصر الآشوري الذي ظهر بعد أن قام التنظيم الإرهابي بتفجير مرقد النبي يونس، وهو قصر تزين جدرانه ثيران مجنحة وجداريات جميلة، ومن منظور جيل جديد يساهم في إعادة إعمار مدينته، ويرفض كل أشكال الانغلاق والتعصب.
 
وفي هذا السياق، من الضروري الإشادة بالاستجابة السريعة للقيادات الأمنية في حماية المواقع الأثرية من عبث العابثين والمتربصين، وبدور المجتمع الدولي والدول الصديقة في دعم العراق في عملية تقييم الضرر الذي أصاب المواقع الأثرية ووضع الخطط اللازمة لإعادة إعمارها. كما ينبغي أن نتقدم جميعاً بالشكر والعرفان الى الهيئة العامة للآثار والتراث ووزارة الثقافة والسياحة والآثار ودواوين الأوقاف لجهودها الحثيثة في حماية الإرث الثقافي لهذه المدينة العريقة، وكذلك إلى وسائل الإعلام الرصينة ومنظمات المجتمع المدني لحرصها ومتابعتها المستمرة. إن استعادة الموصل والحفاظ على موروثها الحضاري من الضياع هما مسؤولية العراقيين بالدرجة الأولى، لكن أهمية المدينة وإرثها الحضاري العالمي يضع مسؤولية مماثلة على المجتمع الدولي كي يهب لتقديم المساعدة للعراقيين لتمكينهم من إنجاز هذه المهمة.
_________________________________________________
: افتتاحية (بين النهرين) ملحق جريدة الصباح
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عبد الستار ناصر وطقوس الكتابة

  عبد الستار ناصر وطقوس الكتابة -ابراهيم العلاف ولا اكتمكم سرا ، في أنني احب القاص والروائي العراقي الراحل عبدالستار ناصر 1947-2013 ، واقرأ ...