سكة
حديد بغداد –برلين واثرها في احتلال الموصل *
ا.د.
ابراهيم خليل العلاف
استاذ
التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
هذا وقد يقـود ازدياد اهتمام الانكليز
بالأهمية الستراتيجية لولاية الموصل خاصةً والعراق عامـةً إلى مشروع سـكة حديد
بغداد الذي منحه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1899 للألمان كجزء من خطة التعاون
بين البلدين .
لقد أثار التعاون بين عبد الحميد الثاني ووليم الثاني حفيظة كلٌ من روسيا
وفرنسا وانكلترا معتبرةً إياهُ حدثاً دولياً خطيراً .
حقّاً لم يكن التعاون بين السلطان عبد الحميد والقيصر وليم الثاني تعاوناً
اعتباطياً عاطفياً كما يصوره أعداؤهما ، بل إنه نتيجةً لظروف وتطورات كلٌ من
البلدين. ولزيارة القيصر الألماني للأستانة مرتين الأولى في سنة 1889، والثانية في
سنة 1898 أثر كبير في تدعيم سياسة " الاندفاع نحـو الشرق " أو
كما يعبر عنه " بالتغلغل السلمي في الدولة العثمانية " . وقـد أصبح وليم
الثاني رمـزاً للصداقة الألمانية ـ العثمانية . ولعبت عوامل عديـدة في هذا التقـارب
الألماني ـ العثماني منها أنّ السـلطان رأى في الأمبراطورية الألمانيـة الوحيدة من
بين الـدول الكبرى التي ليست لها أطماع توسعية في بلاده ، هـذا بالإضافة إلى خطته
الرامية إلى إنهـاض شعوب أمبراطوريته أقتصادياً وعسـكرياً للوقوف أمام التحديـات
الاستعمارية لكـل من روسيا وانكلترا وفرنسا والنمسا والمحافظة على ما تبقى من
وحـدة الأمبراطورية العثمانيـة . وقد رأى عبد الحميـد أنّ خير من يسـنده في أهدافه
الداخلية ودبلوماسـيته الخارجية هـو وليم الثاني المنافـس الأكبر للدول التقليدية
الاستعمارية على حساب الممتلكات البلقانية العثمانية. هذا مع العلم بأنّ المانيا
قـد أصبحت منذ سـنة 1871 أمبراطورية عُظمى ترهـب أوربا عسكرياً وتخيفها اقتصادياً
لما لثورتها الصناعية من قوة وفاعلية ، وأنها أخذت تتطلع إلى مجالات عالمية
لاسـتثمار رؤوس أموالها وإيجـاد ألأسواق جديدة . فى عجب أن التقت مصالح كلٌ من عبد
الحميد ووليم الثاني في ضرورة التعاون خاصةً في المضمارين الاقتصادي والعسكري .
ذلك التعاون الذي نعته أعداء الألمان بالاستعمار المبطـن وصبوا من أجله جام غضبهم
على عبد الحميد فراحوا يشوهون سمعته بمختلف الطرق ويدسون له الدسائس .
لقد كان من التعاون الألماني ـ العثماني في المجـالات الاقتصادية بناء
السكك الحديد ، ولعلّ من أخطرها شأناً سكة حديد بغداد الذي جاء ثمرة من ثمرات
زيارة وليم الثانية 1899 للسـلطان ، إذ أعلنت الحكومة العثمانية في 27 تشرين
الثاني سنة 1899 رسـمياً امتياز السـكة من قونية حتى خليج البصرة . وتمَّ الاتفاق ([i])
على تفصيلات المشروع في 5 آذار سنة 1903
والتي لا نرى حاجة للتطرق إليها خشية الابتعاد عن جوهر البحث .
أثار امتياز سكة حديد بغداد اهتمام
بريطانيا وروسيا بصورة خاصة ، ونظرت إليه كلٌ منهما على أنه تهديد لمصالحها في
الدولة العثمانية .
أما بالنسبة لروسـيا فقد بدأت معارضتها مبكرة أي منذ سنة 1899 ، إذ شجبت
صحف موسكو وبتروكراد بعنف المشروع معلنة بأنه يهدد المصالح الاقتصادية الحيوية
لروسيا ([ii])
. وقد أتخذت المعارضة الروسـية وجهين ،
أحدهما اقتصادي والآخر ستراتيجي . فبالنسبة للأول رأت روسيا في السكة وخاصةً
القسـم الذي يمر عبـر بلاد ما بين النهرين خطـراً على التجارة الروسية في أسواق
فارس وأفغانستان فيما بعد، إذ أنّ ذلك سوف يفتح أسواق هذه المناطق للمنافسة
الألمانية . كما أنّ مدّ السكة سـوف يعمل على تغلغل الرأسمال الألماني في تطوير
إمكانات بلاد ما بين النهرين الزراعية والنفطية
ولا يخفى ما في ذلك من خطر على منتوج روسيا من الحبوب والنفط . أما بالنسـبة
إلى الناحية الثانية ، فقد وجدت روسـيا في السكة تهديـداً مباشراً لطموحاتها في
الشـرق الأدنى ورأت أنّ إكمال الخط سـوف يُمَكِّنْ الحكومة العثمانية من تحريك
جيوشها بسرعة على طول جبهة أرمينيا . لهذا فقد أخبر زينوفيبف الوزير المفوض الروسي
في الأسـتانة الباب العالـي بأنّ اقتراح مدّ السكة من أنقرة إلى الموصل وبغداد عن
طريق أرمينيا يشكّل خطراً ستراتيجياً على حدودها في القفقاس وفي مثل هذه الحالة
سوف لا تسمح الحكومة الروسية بذلك . وإزاء تهديد روسيا اضطرت الحكومة العثمانية
إلى اختيار قونية . ومهما يكن من أمر فقد كانت الحكومة الروسية والصحافة الروسية
مدركة تماماًَ لتهديد سكة حديد بغداد للمصالح الأمبريالية الروسية في الشرق الأدنى
([iii])
.
أما بالنسبة لبريطانيا فقد اعتبرته تهديداً ستراتيجياً لمصالحها الشرقية ،
إذ عبّر عن ذلك اللورد فتز موريس سنة 1903 في مجلس العموم بقوله :
((
إنّ جعل المجلس يبدي اهتماماً ملحوظاً بالقضية هو الشعور بأنّ مستقبل للسكة قد
يكون مرتبطاً بمستقبل السيطرة السياسية على مناطق واسعة من آسيا الصغرى وعلى
بلاد ما بين النهرين والخليج )) ([iv]) .
|
لهذا أتخذت بريطانيا التدابير التي تساعدها على ضمان هـذه المصالح فسارعت
إلى بسـط سيطرتها على الكويت فعقـدت اتفاقية مع الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت
سنة1899بقصد رفع يد العثمانيين عنها وإيقاف التغلغل الألماني في المنطقة ([v])
. وقد قابـل الألمان ذلك بتعزيز صداقتهم
مع الدولة العثمانية والسير قُدُماً في مشروع إنشاء السكة الحديد
([vi])
.
لقد شهدت الفترة ما بين سنتي 1900 و 1914 صرعاً عنيفاً بين المصالح
البريطانية والألمانية . وقد أصبح العراق مسرحاً لذلك الصراع فمن جهة الألمان ليحلوا
محل الـروس كقوة تهديد للنفـوذ البريطاني ومن جهة أخرى أخذ الأتراك ينظرون إلى
النوايا البريطانية في الأمبراطورية العثمانية نظرة ملؤها الشك والريبة ([vii])
.
لقد عمل الألمان على تطوير مصالحهم في العراق ، ففي 1894 قاموا بتعيين قنصل
لهم في بغداد ، كما تأسست قنصلية ألمانية في الموصل سنة 1905 وفي بغداد سنة 1908 .
وزارت العراق منذ 1887 بعثـات أثريـة المانية ([viii]) ،
وفي 1912 وصلـت بعثة أثرية ألمانيـة منطقة الشرقاط في الموصل ([ix]) .
وقد توغل الألمان في شمالي العراق وتجـول كثير منهم في المناطق الكردية واتصلوا
بعدد من رؤساء العشـائر الكردية ، وكان الألمان يرمون من وراء ذلك ليس فقط إقامة
الصلات السـياسية بل وإيجاد أسواق اقتصادية أيضاً . وقد توسـع اهتمام الألمان
بولاية الموصـل خلال الحرب العالمية الأولى وذلك لأنّ حدودها الشمالية كانت إحـدى
جبهات القتال ضد روسيا . وأتخذ الأتراك والألمـان من هذه المنطقة كذلك مركزاً لنشر
دعوة الجهاد في كردستان الإيرانية لإبعاد المسلمين فيها عن التعاطف مع روسيا ، وقد
أثمرت بعض مساعيهم بهذا الشأن إذ اسـتطاعوا حشد عدد من العشائر الكردية لقطع
الارتباط بين الجيشين الروسي والبريطاني في العراق ([x]) .
بدأ الألمان تنفيذ مشروع سكة حديد بغداد . وفي
1909 أعلن رئيس البنك الدولي الألماني فون كوثمر عن إنجاز (946) كيلو متراً من أصل
(2893) كيلـوا متراً وهي المسافة بين الأسـتانة والبصرة ، وإنّ (840) كيلو متراً
والتي تمر عبر جبال طوروس وأمانوس على وشك الإنجاز وأنه لم يبقَ غير (1100) كيلو
متراً . عندئذٍ شـعرت بريطانيا أنّ مصالحها في بلاد ما بين النهرين باتت مهددة
خاصةً بعد أن شَرَع الألمـان في إنجاز القسم الممتد من بغداد إلى سامراء ([xi]) .
اضطرّ الألمان نظـراً لضخامة المشروع
ولصعوبـات مالية وفنية ولاعتبارات سياسـية والاقتصادية إلى الدخـول في مفاوضات مع
الانكليز للتفاهـم حول المشروع . ومع هـذا فإنّ المفاوضات أظهرت عزم بريطانيا
( أولاً ) على أن تحتفظ لنفسها بالأرجحية في بلاد ما بين النهرين، و( ثانياً ) على إيقاف امتداد السكة عند مدينة البصرة . وعلى هذا تمَّ الاتفاق مبدئياً بين الطرفين في 15حزيران1914 فكان ذلك دليلاً على ما تتمتع به بريطانيا من نفـوذ ([xii]) فقد اعترف الألمان بمبدأ السـيادة البريطانية على الخليج والقسم الجنوبي من العراق ، ومن جهة أخرى لاعترف الانكليز بالمصالح الألمانية الخاصة في هضبة الأناضول وفي الأقسام الشمالية من سوريا والعراق . ولم يكن هذا الاعتراف عن قناعة وزهد في هذه المناطق ، وإنما يرجع ذلك إلى أنّ بريطانيا كانت تدرك ـ على حد قول أحد الباحثين ـ بأنّ لفرنسا أطماعاً في سـوريا وفي الجـزء الشمالي من العراق . كما أنّ لروسـيا أطماع في الأناضول ولابـد أن يصطدم النفوذ الألماني بهـذه الأطماع عندئـذٍ يتدخل الانكليز لتصفية المصالح الألمانية التي تضمنتها الاتفاقية المشار إليها ([xiii]) .
( أولاً ) على أن تحتفظ لنفسها بالأرجحية في بلاد ما بين النهرين، و( ثانياً ) على إيقاف امتداد السكة عند مدينة البصرة . وعلى هذا تمَّ الاتفاق مبدئياً بين الطرفين في 15حزيران1914 فكان ذلك دليلاً على ما تتمتع به بريطانيا من نفـوذ ([xii]) فقد اعترف الألمان بمبدأ السـيادة البريطانية على الخليج والقسم الجنوبي من العراق ، ومن جهة أخرى لاعترف الانكليز بالمصالح الألمانية الخاصة في هضبة الأناضول وفي الأقسام الشمالية من سوريا والعراق . ولم يكن هذا الاعتراف عن قناعة وزهد في هذه المناطق ، وإنما يرجع ذلك إلى أنّ بريطانيا كانت تدرك ـ على حد قول أحد الباحثين ـ بأنّ لفرنسا أطماعاً في سـوريا وفي الجـزء الشمالي من العراق . كما أنّ لروسـيا أطماع في الأناضول ولابـد أن يصطدم النفوذ الألماني بهـذه الأطماع عندئـذٍ يتدخل الانكليز لتصفية المصالح الألمانية التي تضمنتها الاتفاقية المشار إليها ([xiii]) .
لم تُنفـذ الاتفاقية المذكورة بسـبب نشوب
الحرب العالميـة الأولى حين سارعت بريطانيا ـ كما هو معروف ـ لإرسال حملة عسكرية
كانت تعدها منذ بضع سنوات لاحتلال الفـاو . ولا غـرو في أن يكون من أهداف تلك
الحملة إحباط مشروع سكة حديد بغداد الذي كان الألمـان يسرعون بإنشائه تسهيلاً
للتعبئة العامة في هذه الجبهة ([xiv]) . ويبدو
من هذه الفكـرة كانت في مخيلة الانكليز عند احتلالهم ولاية الموصل وإلى شيء من هذا
القبيل أشارت ـ فيما بعد ـ جريدة يوركشاير بوست سنة 1924 قائلة :
((
وهناك مسألة أخرى وهي سكة الحديد ، فإنّ هذا المشروع العظيم كان في النية أن ...
يصل أوربا بالشرق الأقصى ، وإنّ النتائج الناجمة من هذا المشروع واضحة وترافقها
نتائج سياسية وعسكرية... فإنّ سكة الحديد من البوسفور إلى نصيبين التي هي على
بعد قليل من الموصل تمر من أراضي تركية وتكون واسطة كبرى لحشد القوات العسكرية ))
([xv]) .
|
ويؤكد ذلك ما جاء في تعليمـات رئاسة هيئـة
الأركان البريطانية إلى الجنرال مارشـال قفي 22 تشرين الثاني 1917 نمتن أنّ "
أهم ما سيقوم به ( العدو ) في سنة 1918 هو تمديد السكة الحديد إلى الموصل . ومن
المهم جداً أن تبذلـوا جهدكم للحصـول على جميع المعلومـات التي تتعلـق بهذا
الموضوع ([xvi]) .
وهكذا شاءت الأوضاع الناجمة عن الحرب أن
يقـوم الانكليز بإكمال مد سكة حديد بغداد ، فقاموا بين سنتي 1916 و 1919 بوصل
بغداد بتكريت ، ثم أتجهوةا بالخط نحو الشمال إلى بيجي ، ثم إلى الشـرقاط التي لا
تبعد عن مدينة الموصل بأكثر من (130) كيلوا متراً ([xvii]) .
* ابراهيم خليل العلاف ، ولاية
الموصل 1908-1922 دراسة في تطوراتها السياسية ، رسالة ماجستير غير منشورة قدمت الى
مجلس كلية الاداب –جامعة بغداد 1975 .ص ص
231-237*\
**حذفت عناوين المصادر للضرورة الامنية العلمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق