الخميس، 17 أغسطس 2017

اهمية الموصل الاقتصادية في الستراتيجية البريطانية

اهمية الموصل الاقتصادية في الستراتيجية البريطانية
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس -  جامعة الموصل
     أخذت بريطانيا تبدي اهتماماً متزايداً بعراق الدولة العثمانية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر حمايةً للهند وتأميناً لطرق مواصلاتها وما كان يهددها . وظهر ذلك بشكل بعثـات كشفية أولاً ، ومشاريع اقتصادية ثانياً ، واشتراك في لجان تحكيمية ثالثاً . تمثلت الأولى في بعثة جسني 1830 ـ 1837، وتوضح الثانية في شركة لنج 1861 ومعارضتها لمد الألمان الجزء الجنوبي من سـكة حديد بغداد إلى سواحل الخليج والإصرار على الاستئثار به . أما النقطة الثالثة فقد عبّرت عنها لجان التحكيم الدولية التي كانت مهمتها تثبيت الحدود العثمانية ـ الفارسية وخاصةً في الجهات العراقية من الشمال إلى الجنوب .

    هذا وقد أتخذت ولاية الموصل أهمية دولية خاصةً في السياسة البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من تسويات . وتتلخص تلك الأهمية في كل من القضايا الستراتيجية أولاً والأقتصادية ثانياً . وسنقف الان عند القضايا الاقتصادية .

           تحتل الموصل موقعاً جغرافياً مهماً أدى إلى أن تكون من مراكز التجارة المهمة فقي الشرق الأدنى آنـذاك . وذلك لأنّ طريق الموصل يعتبر أوفر اقتصاداً وأقصر مسافةً من طريق البحر الأحمر بالنسبة لسفن بريطانيا الذاهبة إلى الهند أو القادمة منها . لهذا فقد احتلت ولاية الموصل أهمية كبيرة في نظر بريطانيا خاصةً وأنّ بعض الإحصائيات قد قدّرت المسافة بين الموصل وبريطانيا عن طريق الخليج العربي بنحو ( 12066) كيلو متراً ، بينما تبلغ عن طريق سوريا نصف هذه المسافة ([i]) . وقد أولت بريطانيا هذه الناحيـة اهتماماً كبيراً فسعت لدراسـة الإمكانات الاقتصادية والتجارية لهذه البلاد منذ أمـد بعيد . وتعتبر بعثة الضابط الانكليزي فرنسيس رودن جسني سنة 1830 وما أنجزته من مسح عالم في جهات الفرات ودجلة في السنوات التالية من أولى البعثات التي أوفدها الانكليز لهذا الغرض، وقد أوضح جسني في كتابه المعنون " حملة مسح ودراسة نهري دجلة والفرات " أهمية ولاية الموصل للتجارة البريطانية في غرب آسيا . واقترح جسني إنشاء مؤسسات مالية بريطانيـة في الموصل وديار بكـر ، وذكر بأن الموصـل والمناطق المجاورة لها تعتبر من المركز المستهلكة للبضائع البريطانية على الرغم من عدم وجود مؤسسـات بريطانية مالية هناك . وقال في مذكـرة مرفقة بكتابه بعنوان " المشاريع التجارية في غرب آسيا "  أنّ البضائع البريطانية تحمل إلى الموصل من حلب ودمشق وبغداد بواسـطة التجار المحليين وتباع لذلك بأسعار عالية نتيجة لمرورها بأيدي عدد كبير من الوسطاء ، وأكّد ضرورة قيـام مؤسسات تجارية بريطانية تتولى عملية التجارة مع الموصل مباشرةً ، واعتقد أنّ ذلك سـيؤدي إلى خفض أثمان البضائع البريطانية إلى النصف ، وبالتالي يزداد الإقبـال على البضائع البريطانيـة . ورأى جنسي أنّ موارد الموصل ومن أهمها : الصوف والجلـود والعفص وعرق السوس وشعر الماعز ، سلع مربحة للتصدير . وكانت هذه المواد  تباع في أسواق الموصل بأسعار بخسة ، فالقنطار من العفص الجيّد على سبيل المثال كان يُباع هناك بمبلغ (950) قرشاً ويكون سـعره بعد نقله إلى الأسـكندرية نحو (1300) قرشاً أو (52) شـلناً لكل قنطار ، وأشـار جنسي إلى التجارة الروسية التي تأخذ بالازديـاد في أسـواق ما بين النهرين وكردسـتان مما يهدد التجارة البريطانية وأكّد بأنّ قـدرة التجارة الروسية على معرفـة أذواق السكان من عوامل نجاحها ، وهذا مما لا يتوفر للتجارة البريطانية لعدم وجود مؤسسات تجارية بريطانية واقترح تنظيم سوق البضائع البريطانية من الاسكندرية إلى ديار بكـر ، ومن ثم إلى الموصـل عبر دجلة أو عن طريق القوافل البرية مباشرةً إلى الموصل وقال أنّ ذلك سيمكن التجارة البريطانية من التوسع في بلاد كردستان وما بين النهرين ([ii]) .

   ازداد اهتمام بريطانيا باقتصاديات ولاية الموصل بشكل ملحوظ منذ أواخر القرن التاسع عشر . ويعود ذلك إلى اتساع التجارة الموصليـة وخاصةً في القطـاع الزراعي ، إذ أنّ الملاكين الجـدد أخذوا يلحون على زيادة الانتاج بالرغم من عدم تبدل وسائله . وبذلك ازداد الإقبال على توسـيع المساحات المزروعـة مثلاًً جنوبي جبل سـنجار والأقسـام الغربية مـن كردسـتان
الجنوبية ([iii]) . وقد بدأت العوامل الجديدة بالظهور من أجل إيجاد روابط قوية بالسوق الخارجية وساعدت على ذلك عوامل عديدة داخلية وخارجية ([iv]) . فبعد افتتاح قناة السويس سـنة 1869 برزت ظاهرة نشـوء واتساع تجارة التصدير إلى أوربا . فقد ازدادت قيمة صادرات الموصل في الفترة من سنة 1884 ـ 1885 على ( 250 ) ألف دينار صدر ثلثاها أو ما قيمته (175.704) دينـاراً إلى بريطانيـا وأوربا ([v]) . أما الباقـي فصـدر إلى
الهند وسوريا وإيـران . وتتضمن صـادرات الموصل : الحبوب والصوف والعفص ([vi]) والجلود والماشية وغير ذلك ، ولم تقف تجـارة التصدير عند هذا الحد إذ ما لبثت في الزيادة ويممت صـادرات الموصل وجهها شطر الأسواق الأوربية إلى درجة أصبحت معها هذه الأسواق قبل نشوب الحرب العالمية الأولى تشتري أكثر من ثلثي صادرات هذه الولاية . فقـد أظهرت التقارير القنصلية البريطانية في ولاية الموصل للسنوات من 1909ـ 1912 أنّ هناك زيادة في صادرات ولاية الموصل إلى بريطانيا . ففي الوقت الذي بلغت فيه قيمة الصادرات السنوية في المتوسـط تقريباً ( 437.000 ) جنيه استرليني صـدر منها ما قيمته ( 195.000 ) جنيه استرليني إلى بريطانيا وحدها ([vii]) . وقد بلغت النسبة المئوية لصادرات الموصل إلى بريطانيـا في سنة 1910 ( 28./. ) وفي سنة 1911(47./. ) وفي سنة 1912 (38./.) من مجموع الصادرات ([viii]) .

    حاولت الأسـواق الألمانية ثم الأميركية ، بعد أن رصـدت أتجاه تجارة الموصل نحو الأسواق البريطانية ، السيطرة على صـادرات ولاية الموصل من المصارين وعرق السـوس . فأنشأ الأمريكان على سـبيل المثال شركة تتعاطى استخراج وكبس عرق السوس في الموصل وتصديره سنة 1911 . إلاّ أنّ الأسواق الألمانية والأميركيـة لم تستوعب قبل الحرب إلاّ نسبية قليلة من صادرات الموصل ([ix]) .

   تدفقت رؤوس الأموال الأوربية على العراق عامة والموصل خاصة نتيجةً لنمو الصادرات واستثمار رؤوس الأموال الأجنبية عن طريق البنوك . ومن هذه البنوك ، البنك الأمبراطوري العثماني([x]). وهو مؤلف من رؤوس أموال انكليزية وفرنسية.وقد تأسس سنة 1863وفتح له فرعاً في مدينة الموصل ([xi]) والذي ظـلّ مسـتمراً في عملياته المصرفية حتى أغلقـه البريطانيون عند احتلالهم الموصل سنة 1918 لفترة قصيرة ثم أعـادوا فتحه بعد ذلك ([xii]) ، وهناك أيضاً البنك الشرقي المسمى ( ايسترن بنك Eastern Bank ) ورأسماله مؤلف من أسهم أنكليزية . أما إدارته المركزيـة فهي في لندن وله فرع في الموصل ([xiii]) .

     هذا وكان لتجار الموصل فعاليات مهمة في مجالات الاستيراد ، إذ تشير التقارير القنصلية البريطانية للسنوات من 1909 ـ 1912 أنّ هناك تزايداً في استيراد البضائع الأوربية خاصةً البريطانية منها.إذ بلغت قيمة مستوردات ولاية الموصل لهذه السـنوات حوالي ( 150.000 ) جنيـه استرليني منها ما قيمته ( 120.000 ) جنيـه استرليني جاءت من بريطانيا والهند والدول الأوربية الأخرى والبقية أتت من بغداد وحلب وديار بكر ([xiv]) . وقد بلغت النسبة المئوية لاستيرادات ولاية الموصل من بريطانيا سنة 1910 (26./.) وفي سـنة 1911 (20./.) وفي سـنة 1912 (28./.) من مجمـوع الواردات ([xv]) . وأهم البضائع المستوردة : الأقمشة القطنية والأجواخ والسكر والآنية النحاسية والزجاجية وتأتي هذه من أوربا . أما الوارد إليها من الهند عن طريق بغداد فهو الشـاي والأقمشة وأنواع الحلويـات ومن بلاد فارس البُسُط بأنواعها والأقمشة الحريرية والطنافس ([xvi]) .

    وعليه فإنّ الأهميـة الاقتصادية لولاية الموصل كانت سـبباً من أسباب اهتمام بريطانيا بها . وتعاظم هذا الاهتمام قبيل قيام الحـرب العالمية الأولى وأثناءها خاصةً بعد أن تبين أنّ الموصل زاخرة بالنفظ . لهذا فلا غرابة أن تستهدف كلٌ من روسـيا وبريطانيا في عملياتهـا العسكرية منطقـة العراق الشمالية .
* من رسالة الماجستير التي قدمها الدكتور ابراهيم خليل احمد العلاف والموسومة :"ولاية الموصل 1908-1922 دراسة في تطوراتها السياسية " وهي غير منشورة وقد حذفت الهوامش لقضايا تتعلق بالامن العلمي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عبد الستار ناصر وطقوس الكتابة

  عبد الستار ناصر وطقوس الكتابة -ابراهيم العلاف ولا اكتمكم سرا ، في أنني احب القاص والروائي العراقي الراحل عبدالستار ناصر 1947-2013 ، واقرأ ...