علي الوردي الأنثربولوجي والمفكر ونقاطه التي يضعها على الحروف
بقلم : د. محمد صاحب سلطان
عمّان- يجب الاعتراف أولاً بأن الإلمام بالفكر الموسوعي للعلامة الراحل الدكتور علي الوردي عبر مقالة واحدة هو فوق طاقتي، أو هو فوق طاقة كل باحث أو مهتم مهما كانت براعته ومهارته في تبويب الأشياء ونقلها بالصورة المرجوة إلى القراء.
فكيف الحال، ثانية، إذا ما كانت عن جديد للعلامة الكبير صدر له بعد رحيله، وهذا الجديد ضم العديد من المقالات الفلسفية والنقدية والاجتماعية التي كتبها الراحل إبان نهاية الثمانينات من القرن الماضي، والتي جمعها وحققها الباحث والإعلامي سلام الشماع، أحد أبرز تلامذته ومريديه، ممن عايشوه بنحو شبه يومي في حله وترحاله لعقدين خليا من الزمان.
ثالثاً أن الخطأ محتوم في الإنسان ولا مفر منه، على وفق النظرية التي توصل إليها عالم الاجتماع علي الوردي، وهي خلاصة مركزة لما يدور في ذهن الإنسان من سلوك وفعال في ضوء عاطفته ومصلحته، وهذا ما خشيت الوقوع فيه، لقربي، زمنياً ومهنياً، من المحقق وبعدي عن المحقق عنه، وتلك هي الحيرة.
لن يحتاج المفكر العراقي الكبير علي الوردي إلى التعريف، وإن كان لا بد لنا دوماً من التذكير بسيرة الرجل، علي حسين محسن عبد الجليل الوردي الذي ولد في الكاظمية في بغداد في العام 1913. وهو عالم الاجتماع والأستاذ والمؤرخ الذي عرف باعتداله وموضوعيته. وهو من رواد العلمانية في العراق.
غادر الدراسة مبكراً، ليعمل صانعاً في محل عطارة، ولكن تم طرده من عمله بسبب انشغاله طيلة الوقت بقراءة الكتب والمجلات. علّم نفسه بنفسه بعد أن افتتح محلاً صغيراً لحسابه الخاص. ودرس في المدارس المسائية.
صار الوردي معلما، وغيّر زيّه البغدادي التقليدي في العام 1932 وصار “أفندي”.
في الثانوية تفوّق الوردي وحصل على المرتبة الأولى على مستوى العراق كله. فتم ابتعاثه للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم تكساس في الولايات المتحدة الأميركية. قبل أن يحصل على الدكتوراه في العام 1950.
علي الوردي يشتهر ببحوثه الخاصة التي اعتمدت الأساليب العلمية الأنثروبولوجية في دارسة وفهم شخصية العراقي
ترك الوردي ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات تتسم بأسلوب أدبي ـ نقدي، ومضامين تنويرية جديدة وساخرة، لم يألفها القارئ العراقي. ولذلك واجهت أفكاره وآراؤه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة.
بعد ثورة 14 تموز 1958 أخذت كتب الوردي تصطبغ بطابع علمي. ومثلت مشروع الوردي لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي، وفي مقدمتها كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” و”منطق ابن خلدون” و”لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” الذي صدر في ثمانية أجزاء.
محقق كتاب علي الوردي الجديد، يؤكد في مقدمته زعمه أن هذا الكتاب سيغني القارئ عن قراءة جميع كتب العلامة الراحل، لأن فيه الكثير من مقالات الوردي غير المنشورة من قبل في كتاب. وفيها عرض الوردي جميع أفكاره وفرضياته بأسلوبه الممتع الرشيق في الكتابة، الذي يطلق عليه “السهل الممتنع”. أو كما وصفه الوردي بأنه “الأسلوب البرقي”. فكان عنوان الكتاب “نقاط على الحروف – مقالات غير منشورة”.
أعتقد جازماً، أن العلامة الدكتور الوردي لو كان هو الذي وضع عنوان هذا الكتاب، لانتقى عنواناً مثيراً وموحياً أكثر، على منوال عناوين كتبه التي أصدرها خلال حياته كمثل “وعاظ السلاطين” و”أسطورة الأدب الرفيع” وسواهما، والتي سبق أن انتبه العلامة الراحل الدكتور حسين علي محفوظ إليها عندما قال “إن عناوين الوردي وحدها كتب”. ولكنّي اختلفت مع المحقق في اختياره عنوان هذا الكتاب، فهو لم يرتق إلى العناوين الوردية التي اعتدنا عليها.
وليس معنى اختلافي مع المحقق في العنوان، أني مختلف معه في كل ما جاء في الكتاب. على العكس، إذ يدخل محتوى هذا الكتاب في أعماق النفس البشرية بغية التعرف على محاسنها ومساوئها بما يمكّن المطالع من تفسير تصرفاته وتصرفات الآخرين من حوله.
وهذا الكتاب يصلح أن يكون ملخّصاً لجميع الكتب التي ألّفها الوردي بدءاً بـ”شخصية الفرد العراقي” مروراً بـ”وعاظ السلاطين” وانتهاءً بآخر جزء من أجزاء موسوعته ذائعة الصيت “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، فضلاً عن الكتب الأربعة التي سبق للشماع أن أصدرها عنه بعد رحيله.
إن أغلب المقالات الجديدة للوردي، سبق وأن انفردت بنشرها جريدة “الاتحاد”، التي كان يصدرها اتحاد الصناعات العراقي أواخر ثمانينات القرن العشرين.
وقُسّم محتوى الكتاب إلى 12 فصلاً ضمت في ثناياها عناوين كثيرة منها: الدوافع القهرية في الإنسان – اللاشعور – الحضارة الحديثة – العقل – التناشز – الظلم الاجتماعي – التعليم العالي – نقد الماركسية – التفكير الطوبائي – حول النقد.
ويبوح الشماع في مقدمته التعريفية بسر أفرحه وأحزنه في آن واحد، يتمثل في عثوره على كنز ثمين بحوزة المؤرخ العراقي البروفيسور إبراهيم العلاف، يحتوي على مقالات للوردي نشرها في مجلة العيادة الشعبية التي كان يصدرها، في خمسينات القرن الماضي، الشقيقان الطبيبان إسماعيل وخالد ناجي. لكنه للأسف، وهذا سبب حزنه، لم يكن قادراً على الوصول إليها جراء أمواج الغربة التي تتقاذفه ولم يستطع إضافتها إلى هذا الكتاب، ولعله سيستطيع ذلك مستقبلاً، لذلك أكرمه العلاف بكتابة دراسة ممتعة عن المجلة ومقالات الوردي فيها، يجدها القارئ مع ملاحق هذا الكتاب.
اللافت في هذا الكتاب كثرة الهوامش التي دونها المحقق إذ بلغت 295 هامشاً تضمن الشرح والتفسير والتعليق والإيضاح والتعقيب وتثبت الواقعة، وهي بحد ذاتها إضافة متميّزة وجهد استقرائي ينمّ عن حاسة صحفية متميزة، تغني وتفيد ولا تبذر ولا تزيد، فما من صفحة من صفحات الكتاب إلا وكانت للمحقق فيها بصمة وإشارة ومفتتح.
ولكون مقالات الوردي ومواضيعها خضعت لمتطلبات العمل الصحفي ومعاييره فهي غالباً ما كانت خالية من الهوامش والإشارات، لذلك برع الشماع في إشغال ذلك الفراغ لإنارة القارئ بالمعلومة وإشباع رغائبه المعرفية، حتى أن بعض الهوامش يتجاوز الواحد منها العشرة أسطر وفيها الكثير من تسليط الضوء على حياة صاحب الكتاب وتوجّهاته وممارساته واعترافاته.
بقلم : د. محمد صاحب سلطان
عمّان- يجب الاعتراف أولاً بأن الإلمام بالفكر الموسوعي للعلامة الراحل الدكتور علي الوردي عبر مقالة واحدة هو فوق طاقتي، أو هو فوق طاقة كل باحث أو مهتم مهما كانت براعته ومهارته في تبويب الأشياء ونقلها بالصورة المرجوة إلى القراء.
فكيف الحال، ثانية، إذا ما كانت عن جديد للعلامة الكبير صدر له بعد رحيله، وهذا الجديد ضم العديد من المقالات الفلسفية والنقدية والاجتماعية التي كتبها الراحل إبان نهاية الثمانينات من القرن الماضي، والتي جمعها وحققها الباحث والإعلامي سلام الشماع، أحد أبرز تلامذته ومريديه، ممن عايشوه بنحو شبه يومي في حله وترحاله لعقدين خليا من الزمان.
ثالثاً أن الخطأ محتوم في الإنسان ولا مفر منه، على وفق النظرية التي توصل إليها عالم الاجتماع علي الوردي، وهي خلاصة مركزة لما يدور في ذهن الإنسان من سلوك وفعال في ضوء عاطفته ومصلحته، وهذا ما خشيت الوقوع فيه، لقربي، زمنياً ومهنياً، من المحقق وبعدي عن المحقق عنه، وتلك هي الحيرة.
لن يحتاج المفكر العراقي الكبير علي الوردي إلى التعريف، وإن كان لا بد لنا دوماً من التذكير بسيرة الرجل، علي حسين محسن عبد الجليل الوردي الذي ولد في الكاظمية في بغداد في العام 1913. وهو عالم الاجتماع والأستاذ والمؤرخ الذي عرف باعتداله وموضوعيته. وهو من رواد العلمانية في العراق.
غادر الدراسة مبكراً، ليعمل صانعاً في محل عطارة، ولكن تم طرده من عمله بسبب انشغاله طيلة الوقت بقراءة الكتب والمجلات. علّم نفسه بنفسه بعد أن افتتح محلاً صغيراً لحسابه الخاص. ودرس في المدارس المسائية.
صار الوردي معلما، وغيّر زيّه البغدادي التقليدي في العام 1932 وصار “أفندي”.
في الثانوية تفوّق الوردي وحصل على المرتبة الأولى على مستوى العراق كله. فتم ابتعاثه للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم تكساس في الولايات المتحدة الأميركية. قبل أن يحصل على الدكتوراه في العام 1950.
علي الوردي يشتهر ببحوثه الخاصة التي اعتمدت الأساليب العلمية الأنثروبولوجية في دارسة وفهم شخصية العراقي
ترك الوردي ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات تتسم بأسلوب أدبي ـ نقدي، ومضامين تنويرية جديدة وساخرة، لم يألفها القارئ العراقي. ولذلك واجهت أفكاره وآراؤه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة.
بعد ثورة 14 تموز 1958 أخذت كتب الوردي تصطبغ بطابع علمي. ومثلت مشروع الوردي لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي، وفي مقدمتها كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” و”منطق ابن خلدون” و”لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” الذي صدر في ثمانية أجزاء.
محقق كتاب علي الوردي الجديد، يؤكد في مقدمته زعمه أن هذا الكتاب سيغني القارئ عن قراءة جميع كتب العلامة الراحل، لأن فيه الكثير من مقالات الوردي غير المنشورة من قبل في كتاب. وفيها عرض الوردي جميع أفكاره وفرضياته بأسلوبه الممتع الرشيق في الكتابة، الذي يطلق عليه “السهل الممتنع”. أو كما وصفه الوردي بأنه “الأسلوب البرقي”. فكان عنوان الكتاب “نقاط على الحروف – مقالات غير منشورة”.
أعتقد جازماً، أن العلامة الدكتور الوردي لو كان هو الذي وضع عنوان هذا الكتاب، لانتقى عنواناً مثيراً وموحياً أكثر، على منوال عناوين كتبه التي أصدرها خلال حياته كمثل “وعاظ السلاطين” و”أسطورة الأدب الرفيع” وسواهما، والتي سبق أن انتبه العلامة الراحل الدكتور حسين علي محفوظ إليها عندما قال “إن عناوين الوردي وحدها كتب”. ولكنّي اختلفت مع المحقق في اختياره عنوان هذا الكتاب، فهو لم يرتق إلى العناوين الوردية التي اعتدنا عليها.
وليس معنى اختلافي مع المحقق في العنوان، أني مختلف معه في كل ما جاء في الكتاب. على العكس، إذ يدخل محتوى هذا الكتاب في أعماق النفس البشرية بغية التعرف على محاسنها ومساوئها بما يمكّن المطالع من تفسير تصرفاته وتصرفات الآخرين من حوله.
وهذا الكتاب يصلح أن يكون ملخّصاً لجميع الكتب التي ألّفها الوردي بدءاً بـ”شخصية الفرد العراقي” مروراً بـ”وعاظ السلاطين” وانتهاءً بآخر جزء من أجزاء موسوعته ذائعة الصيت “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، فضلاً عن الكتب الأربعة التي سبق للشماع أن أصدرها عنه بعد رحيله.
إن أغلب المقالات الجديدة للوردي، سبق وأن انفردت بنشرها جريدة “الاتحاد”، التي كان يصدرها اتحاد الصناعات العراقي أواخر ثمانينات القرن العشرين.
وقُسّم محتوى الكتاب إلى 12 فصلاً ضمت في ثناياها عناوين كثيرة منها: الدوافع القهرية في الإنسان – اللاشعور – الحضارة الحديثة – العقل – التناشز – الظلم الاجتماعي – التعليم العالي – نقد الماركسية – التفكير الطوبائي – حول النقد.
ويبوح الشماع في مقدمته التعريفية بسر أفرحه وأحزنه في آن واحد، يتمثل في عثوره على كنز ثمين بحوزة المؤرخ العراقي البروفيسور إبراهيم العلاف، يحتوي على مقالات للوردي نشرها في مجلة العيادة الشعبية التي كان يصدرها، في خمسينات القرن الماضي، الشقيقان الطبيبان إسماعيل وخالد ناجي. لكنه للأسف، وهذا سبب حزنه، لم يكن قادراً على الوصول إليها جراء أمواج الغربة التي تتقاذفه ولم يستطع إضافتها إلى هذا الكتاب، ولعله سيستطيع ذلك مستقبلاً، لذلك أكرمه العلاف بكتابة دراسة ممتعة عن المجلة ومقالات الوردي فيها، يجدها القارئ مع ملاحق هذا الكتاب.
اللافت في هذا الكتاب كثرة الهوامش التي دونها المحقق إذ بلغت 295 هامشاً تضمن الشرح والتفسير والتعليق والإيضاح والتعقيب وتثبت الواقعة، وهي بحد ذاتها إضافة متميّزة وجهد استقرائي ينمّ عن حاسة صحفية متميزة، تغني وتفيد ولا تبذر ولا تزيد، فما من صفحة من صفحات الكتاب إلا وكانت للمحقق فيها بصمة وإشارة ومفتتح.
ولكون مقالات الوردي ومواضيعها خضعت لمتطلبات العمل الصحفي ومعاييره فهي غالباً ما كانت خالية من الهوامش والإشارات، لذلك برع الشماع في إشغال ذلك الفراغ لإنارة القارئ بالمعلومة وإشباع رغائبه المعرفية، حتى أن بعض الهوامش يتجاوز الواحد منها العشرة أسطر وفيها الكثير من تسليط الضوء على حياة صاحب الكتاب وتوجّهاته وممارساته واعترافاته.
والملاحظ أن مقالات الوردي كتبت بلغة صحفية أخاذة فيها التسلسل السردي للفكرة يتسم بالإيجاز والدقة في تناول المفردة. فضلاً عن حلاوة العرض والإثارة، ناهيك عن جمل خواتيمها المحكمة ذات الطابع الاستعراضي سواء للحكم العقلي أم المنطقي في توصيف سلوك الإنسان ودوافعه. لكن اللافت للنظر أن المقالات لم يثبت عليها تاريخ نشرها ومكانه ورقم العدد للصحيفة، وهي أمور منهجية متعارف عليها عند التحقيق والإعداد للنشر في كتب مختصة، أحسب أن حرص الزميل المحقق في سرعة إنجاز الكتاب أنساه هذا الثابت المعتاد في التحقيق.
الجميل في ما كتبه الوردي، صراحته المتناهية وتواضعه الجم في الرد والإشارة منها إجاباته للقراء من قبيل “إني قبل كل شيء لا أنكر وجود تناقضات من حيث أدري أو لا أدري. إن الذي ينزّه نفسه من الوقوع في التناقض هو كالذي ينزّه نفسه من الوقوع في الخطأ. أما التناقض فلم يكن تناقضاً حقيقياً، بل هو تناقض ظاهري سببه سوء التعبير منّي أو سوء الفهم منه، أو كلاهما”.
ومنها قوله: جابهني أحد القراء قائلاً “تعيد وتصقل في نفس الموضوع، فإلى متى؟”. ويستدرك الوردي: إن هذا القارئ قد نطق بالحقيقة التي يجب أن أعترف بها.
يقول الوردي: جوبهت بتهم متنوعة على مدى أربعين عاماً تقريباً فمن النقاد من اتهمني بأني عميل للأجانب ومكلف بهدم تراثنا العظيم، ومنهم من اتهمني بأني أطلب المخالفة من أجل الحصول على الشهرة، ومنهم من اتهمني بغير ذلك، وأسأل الله تعالى أن يبرّئني من هذه التهم في أواخر حياتي على الأقل.
الوردي واللغوي الكبير مصطفى جواد أيام عز العراق الفكري الذي لم ينافسه فيه أحد
من علميته متناهية الدقة، نجد الوردي يعيد النظر في ما قاله من آراء وأوصاف علمية، إذا ما اطّلع على رأي عالم آخر. ولا يخشى الاعتراف بالرأي الأرجح للآخر، إن كان مصيباً، ودليلي على ذلك وصفه للتحيز الذي أطلقه عالم الاجتماع الأميركي وليم جيمس، على العقل البشري. بينما يصفه الوردي بأنه عاجز ومشلول، وقد اعترف الوردي، مرة، بأن وصف جيمس للعقل البشري أكثر دقة من وصفه هو، فالعقل يتحيز في نظرته إلى الأمور وهو في بحث دائم عمّا ينفع صاحبه وعمّا يدرأ الضرر عنه.
الجميل في ما كتبه الوردي، صراحته المتناهية وتواضعه الجم في الرد والإشارة منها إجاباته للقراء من قبيل “إني قبل كل شيء لا أنكر وجود تناقضات من حيث أدري أو لا أدري. إن الذي ينزّه نفسه من الوقوع في التناقض هو كالذي ينزّه نفسه من الوقوع في الخطأ. أما التناقض فلم يكن تناقضاً حقيقياً، بل هو تناقض ظاهري سببه سوء التعبير منّي أو سوء الفهم منه، أو كلاهما”.
ومنها قوله: جابهني أحد القراء قائلاً “تعيد وتصقل في نفس الموضوع، فإلى متى؟”. ويستدرك الوردي: إن هذا القارئ قد نطق بالحقيقة التي يجب أن أعترف بها.
يقول الوردي: جوبهت بتهم متنوعة على مدى أربعين عاماً تقريباً فمن النقاد من اتهمني بأني عميل للأجانب ومكلف بهدم تراثنا العظيم، ومنهم من اتهمني بأني أطلب المخالفة من أجل الحصول على الشهرة، ومنهم من اتهمني بغير ذلك، وأسأل الله تعالى أن يبرّئني من هذه التهم في أواخر حياتي على الأقل.
الوردي واللغوي الكبير مصطفى جواد أيام عز العراق الفكري الذي لم ينافسه فيه أحد
من علميته متناهية الدقة، نجد الوردي يعيد النظر في ما قاله من آراء وأوصاف علمية، إذا ما اطّلع على رأي عالم آخر. ولا يخشى الاعتراف بالرأي الأرجح للآخر، إن كان مصيباً، ودليلي على ذلك وصفه للتحيز الذي أطلقه عالم الاجتماع الأميركي وليم جيمس، على العقل البشري. بينما يصفه الوردي بأنه عاجز ومشلول، وقد اعترف الوردي، مرة، بأن وصف جيمس للعقل البشري أكثر دقة من وصفه هو، فالعقل يتحيز في نظرته إلى الأمور وهو في بحث دائم عمّا ينفع صاحبه وعمّا يدرأ الضرر عنه.
ولا يكتفي الوردي بسرد الظواهر الاجتماعية وتبيان محاسنها وعيوبها، بل نجده ناصحاً وموجهاً للكثير من الحالات ولا سيما اختيار الأفراد لمناصب مهمة كالحكام والقضاة محدداً لهم أوصافاً وشروطاً معينة داعياً إلى وضع ضوابط رادعة تبعد هؤلاء عن أهوائهم وعواطفهم الشخصية كي يكونوا أقرب إلى العدالة.
في موضوعة نقده للماركسية، كان الوردي يشير دوماً إلى أنه لم يكن معادياً لها، بل حاول أن يكون محايداً تجاهها، وكان نقده من أعمق ما وجه للأيديولوجية المادية الديالكتيكية وأنضجه، إنه نقد عالم تقدمي ومفكر حر لم ينطلق من فكر رجعي غيبي، بل نقدها في ضوء العلم الحديث، وكتبه تنبّأت بالنهاية المدوية للماركسية فلسفة والشيوعية نظاماً.
جدير بالذكر أن هذا الكتاب هو الثاني ضمن سلسلة الكتب التي تولّت إصدارها دار العرب للنشر والتوزيع كي تحفظ لمحبّي الوردي ما تناثر من تراثه في ثنايا مطبوعات عدة، إذ احتوى الكتاب على 312 صفحة بما في ذلك مقدمة كتبها الشاعر الكبير سامي مهدي. فضلاً عن دراستين أعد أولاهما البروفيسور عبدالستار عزالدين الراوي تحت عنوان “المفكر الدكتور علي الوردي” وثانيتهما أعدها البروفيسور إبراهيم العلاف تحت عنوان “علي الوردي ومجلة العيادة الشعبية”.
وفي رسالة بعث بها إليّ الشماع من المنامة مؤخراً، ذكر في خاتمتها أن جل أمنياته هو إنجاز مشروعه الهادف إلى إحياء تراث الوردي خدمة لمحبيه ومتابعيه وعشاق علمه.
_____________________________
http://www.alarab.co.uk/?id=7241 6-2-2016 جريدة العرب *
في موضوعة نقده للماركسية، كان الوردي يشير دوماً إلى أنه لم يكن معادياً لها، بل حاول أن يكون محايداً تجاهها، وكان نقده من أعمق ما وجه للأيديولوجية المادية الديالكتيكية وأنضجه، إنه نقد عالم تقدمي ومفكر حر لم ينطلق من فكر رجعي غيبي، بل نقدها في ضوء العلم الحديث، وكتبه تنبّأت بالنهاية المدوية للماركسية فلسفة والشيوعية نظاماً.
جدير بالذكر أن هذا الكتاب هو الثاني ضمن سلسلة الكتب التي تولّت إصدارها دار العرب للنشر والتوزيع كي تحفظ لمحبّي الوردي ما تناثر من تراثه في ثنايا مطبوعات عدة، إذ احتوى الكتاب على 312 صفحة بما في ذلك مقدمة كتبها الشاعر الكبير سامي مهدي. فضلاً عن دراستين أعد أولاهما البروفيسور عبدالستار عزالدين الراوي تحت عنوان “المفكر الدكتور علي الوردي” وثانيتهما أعدها البروفيسور إبراهيم العلاف تحت عنوان “علي الوردي ومجلة العيادة الشعبية”.
وفي رسالة بعث بها إليّ الشماع من المنامة مؤخراً، ذكر في خاتمتها أن جل أمنياته هو إنجاز مشروعه الهادف إلى إحياء تراث الوردي خدمة لمحبيه ومتابعيه وعشاق علمه.
_____________________________
http://www.alarab.co.uk/?id=7241 6-2-2016 جريدة العرب *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق