حصار
الموصل وصمودها بوجه نادرشاه 1743 م*
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
دخلت الموصل في حوزة الدولة العثمانية سنة
1515 واتخذت شكلها النهائي ولاية قائمة بذاتها سنة 1879 0 وقد عانت الموصل في ظل
السيطرة العثمانية حتى اواسط القرن الثامن عشر في حالة من الفوضى والاضطرابات في
اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية فلم يجر فيها أي اصلاح ملحوظ 0 كما فشلت الحكومة
العثمانية في توطيد الامن وتوطين العشائر وكذلك في مواجهة الغزوات الفارسية
المتكررة 0 لذلك تحمل الموصليون عبْ تطوير مدينتهم 0 والدفاع عنها ضد الغزاة الفرس
، كما حصل حين ردوا نادر شاه في حصاره على الموصل سنة 1743 على أعقابه وبذلك
ابعدوا خطراً كان يتهدد الوطن العربي طوال قرون ثلاثة.
يعد حصار نادر شاه للموصل سنة1743 من أبرز
الاحداث التي وقعت في العالم خلال القرن الثامن عشر ، ذلك لان الاطماع الفارسية لم
تكن تستهدف الموصل وحدها ، بل النفوذ الى قلب الوطن العربي وتغيير خارطته 0
لقد تناول حصار الموصل عدد كبير من المؤرخين
العراقيين والعرب والاجانب 0 كما كان موضوعا للعديد في رسائل الماجستير والدكتوراه
وخاصة في الجامعات الاوربية والامريكية 0 ومن ذلك رسالة الدكتوراه التي صدرت عن
جامعة أنديانا في الولايات المتحدة الامريكية سنة 1975 بعنوان (( حصار الموصل
والعلاقات العثمانية - الفارسية 1718- 1743 )) ويتناول مؤلفها روبرت اولسون دراسة
الخلفية التأريخية للحصار ويعرض العوامل الحقيقية وراء الصراع ، وربط ذلك كله
بالاهمية الجغرافية والاستراتيجية والاقتصادية للموصل وعلاقة ذلك كله بالاقتصاد
العالمي من حيث ارتفاع سعر الذهب وتدفقه الى الشرق وتأثير ذلك في اقتصاد الدولة
العثمانية حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر 0 ذلك ان العالم شهد منذ النصف
الاول من القرن الثامن عشر ارتفاعا ملحوظا في سعر الذهب والفضة وحماسا في تجارة
الحرير وازدياد الاسعار 0 وقد اصبحت تجارة الحرير اكثر اهمية لكونها مصدرا للدخل
ليس في الدولة العثمانية وانما في فارس كذلك .
ومع بدء تأثير هذه العوامل اتجهت ايران (
وكانت تسمى آنذاك بفارس ) نحو التوسع والحروب العنصرية في عهد نادر شاه الذي زج
بلاده في حروب استمرت زهاء ربع قرن من الزمان ، وكان هدفه من ذلك تحقيق اطماع
توسعية 0
لقد كانت الموصل احدى البوابات الرئيسية
التي يتحــتم على الغزاة القادمين من الشرق الوصول من خلالها الى سواحل البحر
المتوسط ، يضاف الى ذلك كونها مفتاح الطريق الى حلب والبحر المتوسط 0 وتبرز اهمية
الموصل بالنسبة للطرق التجارية وخاصة تجارة الحرير الفارسي التي تشكل الموصل طريقا
مهما لاسبانيا بعد ان تحولت تجارته الى حلب للفترة من 1512- 1520.
لقد اتضحت اطماع نادر شاه ( 1723- 1748 )
التوسعية في الوطن العربي حين طلب من السلطان العثماني محمود بن السلطان مصطفى
الثاني اعادة المناطق التي استولى عليها العثمانيون ومنها العراق 00 ولما لم يلتفت
اليه السلطان محمود اقبل نادر شاه بجيشه فأستولى على تبريز ووصل كركوك فحاصرها
واحتلها ثم قدم الى بغداد سنة 1732 وبعد حصار شديد احتلها 0 ووجه نادر شاه احد
قواده وهو نركز خان الى الموصل بعساكره التي كانت تقدر بثمانية الاف جندي 0 وفي
صباح يوم 31 آذار 1733 ظهرت طلائع القوة فوق تلال وهضاب الغزلاني جنوبي الموصل 0
وبسهولة استطاع الموصليون صد هذه القوة العثمانية ، حيث اشتبكوا مع الغزاة في
معركة عنيفة أستمرت حتى وقت العصر من ذلك اليوم وتمكنوا من قتل قائدها نركز خان
وتكبدت القوة الغازية خسائر كثيرة اضطروا على اثرهـا الى الانسحـاب وهي تجر
اذيــال الخيبة 0
ويؤرخ الشاعر الموصلي حسن عبد الباقي لهذه
المعركة ويمتدح جند الموصل المنصورين بقوله :
قفا
نصطبح مافي الاناء المجسد
فأحياء
اموات الغبوق على يدي
وان
حلف الساقي وانكر فضله
تبقت
من الصهباء ذخرا الى غـد
مليك
يهاب النجم سطوره بأنه
حتى
لاح بدر الثم بالافق يســجد
ورهط
في الاعجام بين مدرع
على
لاحق دانـي وبيــن مزرد
فجاؤا
صفوفاً والقنا يقرع القنا
كغيم
كثـيف او بـنـاء مـشـيد
ونادى
مـراد ان هذا مرادنا
وقال
امـيـن يـومنا يوم سـؤدد
فاضحت
نحور العجم غمد صوارم
وكـل
عـنيف كالعـمود المـمدد
فلم
ينجح منهم غير امرد ناعم
يقاد
اسـيرا كالغـزال المـقــيد
وعندما
شدد نادر شاه الحصار على بغداد ارسلت الدولة العثمانية جيشاً كبيرا لفك الحصار
عنها بقيادة طوبال باشا وفي الايام الاخيرة من ذي الحجة من السنة 1145 ( اوائل
حزيران 1733 ) وصل طوبال مع جيشه الى الموصل وعسكر بين قرية نينوى ونهر دجلة 0
وبعد ان تزود طوبال باشا بما يحتاجه من ذخائر ومهمات غادر الموصل متوجها نحو كركوك
فبغداد 0 وفي 19 تموز 1733 وبالقرب من نهر العظيم اصطدم الجيشان بمعركة ضارية خسر
فيها الطرفان عشرات الالوف من القتلى حيث إنجلت عن هزيمة نادر شاه وتشتت جيشه 0 ثم
بعد دفن الموتى ارسل القائد العثماني الجرحى ، وكانوا عدة الوف الى الموصل ، حيث
كانت آنذاك من المراكز الطبية المشهورة للمعالجة ، فاهتم بامرهم واليها وعين
الاطباء والجراحين لمعالجتهم وذلك باشراف الحاج محمد العبدلي رئيس اطباء الموصل آنذاك 0
وفي
اوائل سنة 1743 وردت الاخبار بعزم نادر شاه عن غزو العراق ثانية ، وفي فصل الربيع
من السنة المذكورة تقدم نادر شاه نحو الموصل وعسكر عند قرية يارمجه 0
اعد الحاج حسين الجليلي الموصلي والي الموصل
، عدة الدفاع فحفرت الخنادق ورممت الاسوار وعينت المراكز للمدافعين وملئت المخازن
بالحبوب والذخائر 0 وكان اول اتصال لنادر شاه بالوالي الموصلي قد حصل حينما انفذ
عند دنـوه مـن الموصل شخصان يحملان رسالة الى مفتي الموصل السيد يحيى بن السيد
فخرالدين الاعرجي الحسيني يخاطب فيها عن طريقه الوالي يطلب اليه تسليم المدينة
والاذعان له بالطاعة 0
دعا الحاج حسين باشا الى اجتماع عام في
الجامع الاحمر ( جامع الخضر عليه السلام ) الذي يقع على ضفاف دجلة ، فقرئت على
المجتمعين رسالة نادر شاه ، والتفت الحاج حسين الى الاهالي وسألهم عن رأيهم فاجابه
الموصليون جميعاً وبصوت واحد انهم مستعدون للقتال ولو كلفهم اراقة دمائهم جميعاً
في سبيل عز الوطن 0 وعندئذ اوعز الوالي الى مفتي الموصل بتحرير جواب ملائم لرسالة
نادر شاه 0 وقد قام المفتي بمهمته خير قيام وحرر كتاباً يمتلئ بروح المقاومة
المسلحة والتصدي 0
ولاجل ان يشاغل الحاج حسين خصمه ، ويعمل على
اتمام التهيؤ للحصار خرج الى خارج السور وخيم في موقع مناسب استعرض فيه قواته
وعساكره ، وامر باحضار ارباب الحرف والصنائع واوعز اليهم بالانهماك في اعداد
اللوازم الحربية 0 اما الاهالي فساروا الى خارج المدينة يشتغلون على الاسوار في
نقل الحجارة والتراب 0
شوهد العدو في سهل يارمجه ، فدوت الاصوات
الداعية للاستعداد ، وقد قامت ثلة من الخيالة الفدائية الموصلية بهجوم مباغت خارج اسوار الموصل وهاجمت بشجاعة
جناح الجيش الايراني ثم انسحبت تحت وابل من رصاص العدو ودخلت المدينة ، واغلقت
الابواب استعداداً للحصار الذي استطال امده اثنين وأربعين يوما 0
وبعد ان ظل نادر شاه مخيما في يارمجة خمسة
ايام عبر النهر وطوق المدينة واتخذ من قمة كل من التلول المجاورة للنبي يونس مقراً
جديداً 0 وتضمنت خططه ان يصلي المدينة بوابل متواصل من مدفعيته الكثيرة وقذائفه
النارية ، ثم يهاجمها من اثنى عشر مركزاً في وقت واحد.
تقدم العدو وعدده ثلاثمائة الف رجل ونيف
واحاط بالقلعة والاسوار 0 وفي فجر يوم 27 أيلول 1742 بدأت مدفعية العدو بقصف
المدينة قصفاً شديداً 0 ويقول احد المؤرخين وكان شاهد عيان : ( كانت القنابل
نهاراً تتساقط على الاسوار كالمطر ، وليلا تتناثر كنجوم من اديم السماء ، وقد ملاْ
رعيد صوتها تلك الافاق) 00 استمر قصف المدينة ثمانية ايام بلياليها ، يقول احد
المؤرخين وكان شاهد عيان : (( استخدم العدو ( 160 ) مدفعاً و ( 230 ) مدفع هاون 00
اما مجموع ما القى على الموصل والسور في تلك المدة فقد وصل الى خمسين الف قنبلة
)). ولم تزد تلك القنابل الموصليين الا اقداما وثباتاً على مناؤة عدوهم والذود عن
حياض مدينتهم وشرفهم .))
وفي
فجر يوم 4 تشرين الاول 1743 امر نادر شاه بالهجوم العام على المدينة فاخذ الالوف
من جنوده يتسلقون على الاسوار بواسطة السلالم 0 كما اخذ العدو بتفجير الالغام تحت
السور ومن جهة ثالثة حاولت مدفعية العدو احداث ثلمة من السور عند البرج الرئيس (
باشطابية ) الا انهم فشلوا بعد ان تصدى لهم الموصليون واشتبكوا مع المهاجمين
بالسلاح الابيض فكانت معركة رهيبة استبسل فيها الاهالي وقاتلوا بصبر وشجاعة مما
اوقع الرعب والفزع في قلوب العدو 0 يقول احد المؤرخيــن : (( ان رؤوس الصاعدين من
جنود العدو على السلالم كانت سرعان ما تطيح على زملائهم في سافلها ))0
كف نادر شاه عن حصاره وسار بجيوشه الى جزيرة
ابن عمر ليوهم الموصليين بأنه عدل عن حصار مدينتهم ، لكنه سرعان ما عاد وهاجمهم من
جديد بعد ان مد الجسور على الخنادق المحيطة بالمدينة فعبرت جنوده من فوقها تحت
وابل من القنابل التي كانت تنصب عليهم من المدينة وسورها بكثرة فائقه 0 هذا فضلاً
عن ان الوالي قاد هجوما مضادا وخرج بجنده من بعض الابواب والتحم الجيش الموصلي
بالجيوش الايرانية الغازية في معركة ضارية امتدت الى ثماني ساعات متوالية 00
فانجلى الغبار عن اندحار المهاجمين الذين عبروا الجسر الذي نصبوه على دجلة عند
حاوي الكنيسة مقابل معسكرهم الرئيسي في قرية القاضية على الجانب الشرقي من الموصل
، وقد خلفوا وراءهم ما يقرب من ستة الاف قتيل .اما شهداء الموصل فقد كانوا اقل من
مئتي شهيد 0
ايقن نادر شاه بعجزه عن دخول المدينة الباسلة
لانه لا يمكن ان ينال منها بظفر وتذكر قول اهاليها انهم لا يسلمون المدينة وفيهم
عرق ينبض 0
______________________________________
** نشرت في جريدة القادسية (البغدادية)16 تشرين الثاني1986.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق