المنظور الفلسفي
في التاريخ
ا.د. ابراهيم خليل
العلاف
استاذ التاريخ
الحديث المتمرس – جامعة الموصل
اولا لابد ان اشكر
الاخ الاستاذ الدكتور علي نجم عيسى عميد الكلية التربوية المفتوحة – مركز الموصل ،
على دعوته لي لإلقاء محاضرة حول المنظور الفلسفي في التاريخ ، واتمنى للكلية كل
تقدم ونجاح وتوفيق ، وكما اعتدت في كل محاضراتي السابقة في هذه الكلية العتيدة فانني
ارحب بالطلبة الجدد ، وادعوهم للاستفادة من خبرة وتجربة اساتذة هذه
الكلية ، وادارتها ، وتحويل هذه التجربة الى برنامج عمل في اداء رسالتهم التعليمية
والتربوية ، وفي التعامل مع طلبتهم وتلاميذهم فالتعليم هو ما يساعدنا على ان ننقل
تجاربنا عبر الاجيال .
فيما يتعلق
بالمنظور الفلسفي في التاريخ وهو عنوان المحاضرة التي قررتها ادارة الكلية
وطلبت مني ان اتحدث وفق اطارها ، اقول انني دوما اقول ان التاريخ في طبيعته ( علم ،
وادب ، وفلسفة ) ، وابشركم ان (دار قناديل للنشر) ببغداد ستصدر قريبا كتابي الجديد وهو بعنوان (
مع التاريخ في طبيعته ومدارسه ) ، وفيه
اعالج كثيرا من تساؤلاتكم المشروعة حول التاريخ
، والتأريخ ، وحول طبيعة التاريخ هل هو علم ام ادب ام فلسفة ؟ ، وحول المنهج
العلمي للتاريخ ، وحول تفسيرات التاريخ ومدارس التفسير المختلفة ، وحول انماط
التاريخ والوان دراسته ، وحول استخدام
التاريخ لتعزيز فكرة المواطنة ، والتفاهم بين الامم والشعوب والدول ، وحول التاريخ
المحلي والتاريخ الدبلوماسي والعلاقة بين التاريخ والصحافة وحول الوثائق واهميتها
والعلاقة بين التاريخ والعلوم المساعدة ومنها اللغة والجغرافية والاقتصاد والادب
وحول الارشيفات التاريخية في العالم ومنها ارشيف العراق الوطني والارشيف البريطاني
وحول الدراسات العليا في التاريخ وحول اقسام التاريخ في الجامعات العراقية والعربية
والاجنبية واخيرا حول (المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة ) واجيالها وغير ذلك
مما يهم المؤرخ ودارس التاريخ .
لا أريد ان ادخل
في كثير من التفاصيل لكن اشدد في مسألة اراها مهمة وهي ان من يدرس التاريخ ولا يدرس
الفلسفة كم يرى الشجرة ولا يرى الغابة فشتان من يرى الشجرة ويرى الغابة فالفلسفة
توسع مدارك المؤرخ وتجعله ينظر الى الامور بشمولية في حين ان الذي لا يدرس الفلسفة فستظل نظرته
قاصرة ومحدودة وتجزيئية .
فيما يتعلق
بتجربتي في دراسة فلسفة التاريخ اقول انها ترجع الى اكثر من نصف قرن وعندما كنت
طالبا في كلية التربية – جامعة بغداد منذ سنة 1964 أي قبل قرابة 60 سنة كنت في قسم
الشرف وهو ان الطالب الذي يجتاز المرحلة
الثانية ينتقل ليقبل في قسم الشرف وبدرسه استاذ مادتين اضافيتين على ما يدرسه
اقرانه وكان استاذي المرحوم الاستاذ الدكتور زكي صالح ( 1908-
1986 ) ، وكان يدرسنا مادتين الاولى في
الثالث وهي اصول التاريخ والثانية في الصف الرابع وهي فلسفة التاريخ كنا نعد بحوثا وكأننا طلبة دراسات عليا وعندما
ننجح تذكر في شهادتنا اننا تخرجنا بدرجة شرف
Honiara’s Degree واقول لكم انني درست فلسفة واصول التاريخ دراسة
اكاديمية منضبطة انا وثلاثة طلاب كانوا معي في قسم الشرف . درسنا كل الكتب التي
تناولت مناهج واصول البحث والمنهج التاريخي والتي الفها عدد من المؤرخين العرب
والاجانب درسنا كولنجوود، وهرتشلك( صاحب
كتاب كيف نفهم التاريخ ؟ ) وادوارد كار1892-
1982 ( صاحب كتاب ماهو التاريخ ؟ ) وهرنشو
prof.F.J.C.HEARNSHAW استاذ
تاريخ العصور الوسطى في جلنعة لندن بين سنتي 1913- 1934 وحسن عثمان 1892-1968 المؤرخ المصري الكبير و(
صاحب كتاب منهج البحث التاريخي) وقسطنطين زريق 1909- 2000 وتوينبي 1889-1975 وشبنكلر( 1880-1936) وليوبولد رانكه ( 1795-1886) وكارل ماركس 1818-1883 ( المفكر الالماني الكبير وصاحب كتاب رأس المال)
وهيكل وغيرهم من عمالقة فلسفة التاريخ في العالم .
الذي اريد ان
اقوله لكم ان التاريخ بالألف اللينة هو الحوادث ولكن التأريخ بالهمزة يعني دراسة
هذه الاحداث .نعم التاريخ علم وادب وفلسفة وللتاريخ وفق هذا المنظور له طبيعة
ثلاثية فهو علم لأنه ينتهج المنهج العلمي الاكاديمي وهو ادب لأنه يكتب وفق اساليب
ادبية وبلغة جميلة وفلسفة لأنه يحلل ويعلل .
اذا التاريخ قد
يروى على انه احداث وقعت ضمن الزمان والمكان فالتاريخ هو نتاج تفاعل الانسان مع
الزمان والمكان . وقد يدرس التاريخ وفق فلسفات مثالية كما فعل هيكل وقد يدرس وفق
فلسفات مادية كما فعل ماركس . الاول يرى ان (الفكر) هو الحقيقة الاساسية في الكون
والثاني يرى ان (المادة ) هي الحقيقة الاولى في الكون . ومن هنا لهيكل اراء
ولماركس اراء وكان ماركس يقول ان هيكل نظر الى المجتمع مقلوبا كان واقفا على رأسه وانا اعدته وجعلته يقف على قدميه .
وهناك مؤرخون
وفلاسفة تاريخ يونانيين ورومان وعرب والمان وانكليز وفرنسيين وروس درسوا التاريخ ووضعوا عديدا من النظريات
بشأن قيام الحضارات والدول وسقوطها . هناك ابن خلدون (المؤرخ العربي الاسلامي الكبير 1332- 1406
ميلادية ) ، واوزوالد شبنكلر (1880 -1936 المؤرخ الالماني الكبير وصاحب كتاب سقوط
الغرب ) وآرنولد توينبي ، وبول كندي (المؤرخ الامريكي من مواليد سنة 1945
وصاحب كتاب صعود وسقوط القوى العظمى ).
درسوا كل ما يتعلق
بنشأة الحضارات . آرنولد توينبي المؤرخ
البريطاني الكبير ( 1889-1975) ، درس الحضارات ال 21 حضارة التي شهدها العالم
ومنها الحضارة العربية الاسلامية وفق نظريات التحدي والاستجابة والانسحاب والعودة
والصراع الحضاري وماركس نظر الى التاريخ
على انه كل صراع بين الطبقات وابن خلدون درس الحضارات ووقف عند ان التقشف والزهد
هو ما يبني الحضارات لكن الترف هو ما يسقطها .
فقط اقول لكم
احبتي الكرام ان التاريخ في موضوعه حي ومتجدد ومن الطبيعي ان نختلف في مفهومه
واسلوب كتابته وفي تفسيره كما يقول شيخنا واستاذنا المرحوم الاستاذ الدكتور عبد
العزيز الدوري(1919-2010) انه اي التاريخ
مرتبط بالواقع وبالاتجاهات الفكرية وبالتطورات العامة فيتأثر بها وقد يكون له اثره
في بعضها انه متصل مع بعضه كالنهر دائم الجريان ولا توجد فواصل بين عصر واخر وما
نراه من فواصل هي من صنع المؤرخين من اجل تسهيل دراسته انه تاريخ واحد كمجرى
الحياة وليس ثمة فواصل كما قلت بين التاريخ القديم او الوسيط او الحديث او المعاصر
العصور متداخلة والمؤرخ الحقيقي ينظر الى مراحل التاريخ وفق هذا المنظور الفلسفي .
والتاريخ كله
تاريخ معاصر كما يقول كروجه بمعنى انك كمؤرخ تنظر الى الماضي بمنظار الحاضر .
وهناك صلة بين الماضي والحاضر والمستقبل كما يقول ادوارد كار ( التاريخ حوار بين
المؤرخ ووقائعه ) والتاريخ حوار متصل بين
الماضي والحاضر وصولا الى المستقبل .
وانا دائما اقول
التاريخ ركيزة للانطلاق نحو فهم الحاضر واستشراف المستقبل ..وتفسير التاريخ يرتبط
بتغير العصور في العصور الوسطى كان الاهتمام بالدين لكن في عصر النهضة صار
الاهتمام بالإنسان وفي عصر النهضة والتنوير ظهرت النزعة الرومانسية ثم النزعة
العقلية وارتبط التاريخ بالعلم وظهرت المدرسة الوضعية المنطقية في القرن 19 وارادت
ان تجد للتاريخ قوانين لتطور المجتمعات كقوانين الطبيعة والف كولنجوود وهو مؤرخ
بريطاني كبير ( 1889-1943 ) كتابين الاول سماه ( فكرة الطبيعة) والثاني سماه ( فكرة التاريخ) وقال كما للطبيعة قوانين تسيرها فللتاريخ قوانين
تسيره . وجاء ماركس ليقول ان التاريخ وسيلة لأحداث الثورة ولابد من الصراع الطبقي
ونظر الى الدور الحاسم للطبقة العاملة فهي من تصنع التاريخ وتفسيره للمراحل التي
مرت بها البشرية يجب النظر اليها وفق هذا المنظور الفلسفي فهناك مرحلة المشاعية البدائية ، ومرحلة الرق والعبودية ، ومرحلة
الاقطاع والمرحلة الامبريالية ، واخيرا مرحلة الشيوعية . وكان يؤمل سقوط
الامبريالية الا انها استطاعت ان تجدد نفسها لكن سقوطها حتمي وان طال الزمن وها
نحن نرى بوادر العودة الى الاشتراكية في الغرب.
انا لا ادعو الى
نلتزم بواحدة من مدارس التفسير التاريخي لكن انا ارى وجوب الاستفادة من كل المدارس
نأخذ بنظرية البطل في التاريخ عندما ندرس شخصية ونأخذ بالنظرية المادية ان درسنا
الثورة الصناعية او التطورات الاقتصادية ونأخذ الجانب الحضاري ان كنا ندرس قيام
ونهوض وسقوط الحضارات والدول .
اخيرا هل كان
للعرب في عصور ازدهار حضارتهم مدارس للتفسير التاريخي اقول ان المؤرخين العرب
والمسلمين عرفوا التفسيرات التاريخية فهناك من درس التاريخ على انه تنفيذ للمشيئة
الالهية ومن هؤلاء الطبري في كتابه (الامم والملوك) وهناك من فسر التاريخ تفسيرا اخلاقيا
واكد على وجوب اخذ العبرة ولدينا مسكويه
في كتابه الاعتبار وهناك من رأى ان الاشراف هم من يحركون التاريخ وهذا البلاذري
انموذجا وهناك من اكد على دور الادباء والزهاد والعلماء والكتاب في سير حركة
التاريخ وخير من يمثل هؤلاء ابن الجوزي والذهبي وهناك من فسر التاريخ تفسيرا
اجتماعيا حضاريا وابرز هؤلاء ابن خلدون في
القرن 14 الميلادي الذي رأى ان المجتمعات ترتبط
برابطة العصبية وتدرج الى التوسع غاليا فالازدهار الحضاري يعقبه الترف
والركود فالضعف والانهيار وهكذا فابن خلدون اهتم بقوانين نشوء المجتمع والدولة
وتطورها ومن ثم ضعفها وسقوطها ومثل هذه النظرية وهي النظرية العضوية التي ترى ان
الدول او الامم مثل الانسان تولد وتنمو
وتزدهر وتموت اي تمر بمراحل الطفولة والصبا والشباب والرجولة والكهولة
والشيخوخة والموت ولهذه النظرية علاقة بالنظرية الدائرية وهي ان الامم تتعاقب على
منصة الحياة ومسرحها وما ان تؤدي دورها هل تنزل من على المسرح وتحل محلها امة اخرى وانا شاهدت بريطانيا
العظمى التي لم تكن الشمس تغرب عن مستعمراتها وشاهدتها وهي دولة ثانوية تدور في فلك الولايات المتحدة الاميركية ويوما ما كانت هي الدولة الاولى التي استعمرت
اميركا .
ختاما علينا ان
ندرس التاريخ دراسة علمية ونجمع المصادر المختلفة ونقارنها ببعضها ولا ننطلق من
فرضية لنثبتها بل نغوص في الاحداث لنستخرج النظرية وان لا نلتزم بتفسير محدد بل
نأخذ بتعددية الاسباب وان نهمش ونصص ونقارن ونحلل وننقد النصوص نقدا داخليا
وخارجيا وان نؤكد اننا يجب ان لا نحن للماضي ونترك الاموات يحكموننا من وراء القبور
بل ان ننظر الى التاريخ على انه مسيرة تقدمية الى الامام واننا ندرس الماضي من اجل
فهمه وتكوين فكرة صحيحة عن حاضرنا والافادة من كل هذا لننطلق نحو المستقبل ورحم
الله شيخنا الاستاذ الدكتور قسطنطين زريق المؤرخ السوري الكبير 1909- 2000) الذي الف
كتابين اطلق على الاول (نحن والتاريخ) وسمى الثاني ( نحن والمستقبل ) .
انا مستعد للإجابة
على تساؤلاتكم وشكرا لإصغائكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
______________________________
*نص المحاضرة التي
سوف القيها في الكلية التربوية المفتوحة – مركز نينوى صباح يوم غد الاحد 27 من آذار 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق