الجمعة، 14 فبراير 2020

النصب التذكارية والمدونات التاريخية





النصب التذكارية والمدونات التاريخية 

ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل – العراق

ابتداء أشكر الاخوات والاخوة في منظمة حكماء العراق للعدالة الانتقالية على اقامتها هذا المؤتمر العلمي الدولي للعلوم الانسانية وبعنوان ( العدالة الانتقالية : آفاقها وسبل تحقيقها في العراق والمنطقة ) وبالتعاون مع عدد من الجامعات والمؤسسات العلمية والقانونية والنقابية . واحيي الاخ الشريف البروفيسور خالد بن ناجي المنسق العام للمنظمة على جهوده الطيبة واتمنى له ولرفاقه النجاح والتقدم .

واقول ان الاخوة في اللجنة المنظمة كلفوني  بكتابة ورقة بعنوان (دور المدونة التاريخية والنصب التذكارية في حفظ ذكرى الفظائع الوطنية ) . وقد سعدت جدا بهذا التكليف نظرا لان هذا الموضوع مهم وضروري لتحقيق العدالة الانتقالية بعد سلسلة من التجاوزات على الانسان وكرامته ودوره في الحياة .

ومن المؤكد ان الشعوب ومنذ ان وجد الانسان على ظهر هذا الكوكب تبحث عن ان توثق لما تمر به من تحديات ونكبات وهزائم بنفس القدر الذي تحرص فيه من اجل ان توثق لما تمر به من انتصارات ونجاحات والقصد في كل هذا ان تظل تذكر الاجيال بما وقع لها وما مرت به .

اولا : النصب التذكارية :

سوف اقف اولا عند النصب التذكارية الوطنية  وهي المعالم الوطنية التذكارية وباللغة الانكليزية كما جاء في بعض المعاجم اللغوية  National    Monument    التي تذكر الاجيال بالقيم الوطنية والمآثر التاريخية والتراثية وبما مرت به هذه الشعوب من مآس وانكسارات وحتى فضائع وما احرزته من انتصارات  وغالبا ما تكون هذه النصب اعمالا فنية او مبان توقف من اجل تذكير الاجيال بما مرت به البلاد  وينبغي ان تكون هذه النصب التذكارية تحت حماية الدولة وبإدارتها حتى تتجه انظار وقلوب الشعوب اليه لاهميتها الوطنية الجامعة ولكونها تعد مواقعا للتراث الوطني ويقينا انها تختلف من دولة الى اخرى تبعا لتاريخ تلك الدول والشعوب ومواقفها عبر الاحداث وعلى سبيل المثال فإن القائد تيمورلنك يعد بطلا قوميا بالنسبة لبعض شعوب اسيا الوسطى الاسلامية لكنه بالنسبة للعراق مثلا يعتبر غازيا انتهك حرمات البلد في القرن الخامس عشر واحتل ارض العراق ونهب خيراته .  

وهناك من يذهب الى ان النصب  التذكارية (مونيومنتا) بناء او موقع او تمثال يشيد لكي يخلد حادثة او شخص بقصد التذكير القومي للشعوب بأحداث مؤلمة او سعيدة .

ونستطيع ان نقف على عدد كبير من هذه النصب المنتشرة في دول العالم ومنها مثلا النصب التذكارية للجندي المجهول  ولا اخال بلدا ليس لديه نصب للجندي المجهول الذي يخلد المقاتلين الذين دافعوا عن وطنهم وفقدوا ارواحهم في الحروب التي خاضها ذلك البلد .
واشير الى بعض النصب التذكارية الرائعة التي يشار اليها على انها تحف فنية من قبيل نصب ( النهضة الافريقية في العاصمة السنغالية داكار والذي خلد ذكرى الاستقلال عن فرنسا والنصب التذكاري الوطني في جاكرتا عاصمة اندنوسيا والذي يمثل الثورة الوطنية الاندنوسية والنصب التذكاري الوطني في نيويورك وهو تمثال الحرية والنصب التذكاري الوطني الهولندي في ساحة دام في امستردام والذي وضع ليخلد ضحايا الحرب العالمية الثانية والنزاعات المسلحة الاخرى التي تلتها وهناك النصب التذكاري الوطني برج ايفل في باريس وهو يمثل الثورة الفرنسية 1789 والنصب التكاري الوطني في ادنبرة عاصمة اسكوتلندا والذي صمم ليخلد المقاتلين الذين ماتوا في حروب نابليون والنصب التذكاري الوطني في كوالالمبور والذي وضع ليذكر الاجيال بمن ناضلوا من اجل الحرية في ماليزيا والنصب التذكاري الوطني في اسلام آباد عاصمة باكستان .

وفي بلدنا العراق ومنذ تأسيس دولته الحديثة جرى الاهتمام بإقامة النصب التذكارية في العاصمة بغداد والمدن والقصبات المختلفة وهنا اود الاشارة الى تمثال الملك فيصل الاول في بغداد والملك فيصل الاول هو مؤسس الدولة العراقية الحديثة ويعد بانيا لمجد ونهضة العراق 1921-1933 .كما ان لدينا تمثال الزعيم الوطني عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء العراقي في بغداد والذي انتحر سنة 1929 وكتب وصيته التاريخية التي تقول ( العراقيون طلاب استقلال ولكن الانكليز لايريدون ) ...ولدينا (نصب الحرية ) في ساحة التحرير الذي نفذه الفنان العراقي الكبير المرحوم جواد سليم وهو يحكي قصة نضال العراقيين من اجل الحرية والاستقلال والذي افتتحه اللواء الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة 1958-1963 . ولدينا مثلا في الموصل تمثال الشاعر الكبير الحبيب بن اوس الطائي ابا تمام ونفذه الفنان والنحات نداء كاظم ودمرته عناصر داعش حين سيطرتها على الموصل في حزيران سنة 2014 وكان موضوعا في شارع الكورنيش والجهود تبذل لاعادته الى مكانه مع النصب والتماثيل التي كانت تزخر بها الموصل ومنها تمثال الشاعر والموسيقار والمتصوف والمناضل الوطني الملا عثمان الموصلي وقد اعيد بعدما دمر والحمد لله .

ونحتاج الى وقت طويل لكي نتحدث عن كل النصب التذكارية الموجودة في بلدنا والتي ترمز الى اشخاص او مواقع أو حوادث .

لكن مما اريد قوله اننا بحاجة الى ان نعيد ترتيب مواقفنا ووضعنا بعد سنة 2003 ونتفق على ان تكون النصب التذكارية التي نقيمها وطنية بمعنى ان يتفق الجميع عليها لاان تختص بفئة دون اخرى او بتكتل سياسي دون اخر بمعنى ان الضرورة تقتضي ان نؤمن التراكم الحضاري والفكرة الوطنية وهذا للاسف ما نفتقده واؤكده انا هنا من هذا المكان ومن خلال مؤتمركم المبارك هذا .

ان الايمان بالتراكم الحضاري مسألة مهمة جدا فليس من المعقول ان تلعن كل امة ما قبلها وان يحكم علينا ان نبدأ من الصفر دوما ...التراكم الحضاري هو ان نعترف بما قدمه الاسلاف وان نبني عليه والا ما معنى ان نحطم هذا التمثال ونهدم هذه البناية .هذا عيب كبير انظروا الى لينين وهو في خضم الثورة البلشفية يمنع الثوار من التجاوز على تراث القياصرة ويقول لهم انه تراثنا تراث الشعب الروسي ...انظر الى جمال عبد الناصر يمنع المصريين من ان يعبثوا بقصور الملك فاروق  واسرة محمد علي الحاكمة  منذ سنة 1804 عند الثورة في 23 تموز يوليو 1952 ويقول لهم انه تراثنا تراث الشعب المصري انظروا الى الامام الخميني في ايران يمنع الثوار من ان يخربوا قصور ال بهلوي ويقول لهم انه تراثنا تراث الشعب الايراني وهكذا ...الشعوب يجب ان تحترم تاريخها وما مرت به  وان تظل قادرة على استذكار وتدون ما شهدته من انتصارات وانكسارات وكان علينا ان نبقي مثلا على تمثال الجنرال  مود ليذكرنا بمن احتلنا ويذكرنا بنضالنا في ثورة العشرين العظمى وتحقيقنا الاستقلال وقدرتنا على بناء دولتنا الوطنية .

 ويبدو ان اقامة مثل هذه النصب والتماثيل قد تكون وسيلة من وسائل التفاهم الانساني من الطرفين واضرب مثلا على ذلك النصب التذكاري لجنود مصريين قتلوا في الحرب الاسرائيلية - العربية الاولى سنة 1948 والموجود في مدينة اشدود جنوبي اسرائيل والذي اقيم سنة 1989 وقد ذكرت صحيفة (جيروزاليم بوست ) الاسرائيلية ان النصب التذكاري المصري اقيم سنة 1989 في ذكرى مرور عشر سنوات على توقيع اتفاقية كامب ديفيد وانه مصنوع من الجرانيت المصري الأحمر، ومنقوش عليه بأربع لغات هي: العربية والعبرية والإنجليزية والهيروغليفية.

وهذا النصب التذكاري المصري يأتي تخليدا لذكرى أربعة جنود قتلوا في معركة "الفالوجة" في حرب سنة 1948، وهم: أحمد عبد العزيز، وأحمد بيومي، وإبراهيم السيد ، وأبو حسين عيسوي.واشارت الصحيفة إلى أن حرب 1948 وهي التي تسميها اسرائيل ب"حرب الاستقلال " شارك خلالها أكثر من 2500 جندي مصري، حاولوا الوصول إلى مدينة تل أبيب، آنذاك، ولكن قتل منهم 2000 مصري.

اليهود هم من الذين حاولوا توثيق ما مر بهم من فضائع خلال الحرب العالمية الثانية من خلال حديثهم وتوثيقهم لما اسموه ( الهولوكست) اي (الهشواءأي الشي او الشواء ) وتعني باللغة العبرية ( الكارثة ) ويقصدون الابادة التي تعرض لها ما يقارب الستة ملايين يهودي على ايدي النظام النازي .

واذا ما عدنا الى الفيتناميين فإنهم جسدوا بطولاتهم عبر متحف التاريخ العسكري في العاصمة (هانوي). وأرخ الفلسطينيون كفاحهم ضد الاحتلال الاسرائيلي في نصب تذكارية عديدة انتشرت مساحة واسعة من الميادين العامة في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزَّة. ومن أشهر هذه النُصب "الجندي المجهول"، والذي أُقيم وسط مدينة غزَّة في سنة 1956، وبحسب المؤرّخ الفلسطيني سليم المبيض، فإن الاحتلال الإسرائيلي دمَّر هذا النُصب، ثم أٌعيد بناؤه، فعاود الاحتلال تدميره سنة 1967، واعادت السلطة الفلسطينية بناءه بإيعاز من الرئيس الفلسطيني الراحِل ياسر عرفات، الذي أزاح الستارة عنه في السنة 2000، وقد تمّت إضافة مجسّم لجندي مجهول يعتلي القبر.

وكما هو معروف فإن تكرار نُصب الجندي المجهول في عددٍ من البلاد العربية والأجنبية ومنها العراق ، هو احترام وتقدير لتضحيات الجنود الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل بلادهم وماتوا من دون أن تُعرَف قصصهم وهويّاتهم .

وفي متحف مدام توسو أي متحف الشمع في لندن رأيت جانبا من جوانب ما تعرض له اليهود على يد هتلر وبطريقة تجعل الزائر يشعر بالرعب . كما انهم جسدوا في المتحف ايضا من قتل بالمقصلة في ايام الثورة الفرنسية سنة 1789 وبطريقة مثيرة للرعب حقا .

وفي مدينة السليمانية زرت ( المتحف الاحمر) حيث مقره هو ( مديرية امن السليمانية السابق ) ، وفيه الغرف التي كانت تشهد حفلات التعذيب للمناوئين للنظام السابق 1968-2003 وكذلك الامر في نصب شهداء حلبجة والمسمى بالكردية (مونومينتي هه له بجه ) وهو تمثيل وتذكار لجريمة مروعة حيث استخدم السلاح الكيماوي خلال الحرب العراقية – الايرانية عندما قُصفت حلبجة وراح ضحية القصف اكثر من 5000 شهيد و10 الاف جريح فضلا عن تدمير البلدة .

النصب التذكارية ليست الا تجسيد لرمزية وطنية بهدف ترسيخ هذه الرمزية في نفوس الاجيال ، واعطاء الانطباع بديمومة النضال من اجل الحرية والتقدم والسلام .

واريد ان اقول ان كل الشعوب المحبة للسلام والتقدم في العالم تسعى الى ان تضع في ساحاتها ومدنها وميادينها نصب تذكارية تذكر بما مرت به تلك الشعوب في حياتها ..في اميركا وروسيا واليابان والصين وفي كل مكان.

وغالبا ما تقام النصب التذكارية من النحاس ، وقد تقام من الكونكريت ويحاول الفنانون ان يخرجوا بما يصنعونه من نصب الى الشوارع والساحات العامة ليشركوا اكبر عدد ممكن من ابناء الشعب في تعميق الاهتمام بالعدالة والنضال من اجل الحرية .

من هنا يمكننا القول ان النصب ليست فقط أعمالا فنية بقدر ما هي أعمال انسانية تحثّ على أهمية أن تتمتّع جميع فئات المجتمع بحقوقها وهنا يرتبط الفن بالتاريخ ويصبح الفن هو المؤرّخ صاحب الذاكِرة الأقوى في تدوين ليس فقط الماضي وانما الحاضر وبطرق مختلفة وحتى يترك كل هذا للأجيال القادمة التي من حقّها أن تعرف ما وقع على هذه الأرض من انتصارات وانكسارات .


ثانيا : المدونات التاريخية :


أما المدونات التاريخية فهي السجلات التي تكتب لتوثيق ايام وحوادث ووقائع مرت بها الشعوب او الدول عبر تاريخها القديم او الوسيط او الحديث او المعاصر .

ويقينا ان ما تُسجله (المدونات التاريخية ) وما تجسده ( النصب التذكارية ) يظل قائما كوسائل مهمة وضرورية لتنشيط وحث الذاكرة الانسانية ليس بقصد الثأر والانتقام وانما بقصد اتخاذ العبرة ومنع حدوث كوارث وفضائع متشابهة .

ثانيا : المدونات التاريخية 
وبقدر ما يكون للنصب التذكارية من دور في تذكير الاجيال بما حدث . فإن للمدونات التاريخية المتمثلة بالوثائق والكتب والمذكرات الشخصية والرسائل الخاصة والصحف والمجلات والموسوعات ، دور في توثيق ما جرى ، فالمؤرخ الحصيف هو من يعيد تشكيل الحدث كما وقع وبدون ان يزيد او ينقص وهذه الرؤية هي من نتائج تحول التاريخ في القرن الثامن عشر وعلى يد المؤرخ والمفكر الفرنسي فولتير الذي انقذ التاريخ من ايدي رجال الدين والمتسلطين من الحكام ليجعله تاريخا للشعب وهو اول من تحدث عن ما سماه فلسفة التاريخ والتي كان من نتائجها ان المؤرخين ومنهم كولنجوود في كتابه ( فكرة التاريخ ) بدأ يتحدث عن السنن والقوانين والاحكام التي تتحكم في احداث التاريخ كما تتحكم السنن والقوانين والاحكام في احداث الطبيعة .

وقد بدأنا نرى ان المؤرخين الكبار وخاصة في اوربا قد انصرفوا لوضع مدونات تاريخية وطنية تجسد ما مرت به شعوبهم . فهذا توماس بابنجتون ماكولي (1800 - 1859 )يكتب تاريخ انكلترا وهذا فرانشيسكو غيتشارديني )1486 - 1540 (يكتب تاريخ ايطاليا وهذا هنريش فون ترايتشكه يكتب تاريخ المانيا وهذا جول ميشليه يكتب تاريخ فرنسا ووضع اوزوالد شبنغلر كتابا عن الحضارة الغربية والف ارنولد توينبي كتابا عن الحضارات الانسانية وانتقلت الكتابة التاريخية لتصبح تصويرا جديدا للماضي وسبيلا من سبل التقدم نحو الحرية والعادالة والتقدم .

يقول كولنجوود ان الفيلسوف ( كانت ) اعتقد ان هناك قيمة واحدة فقط لايمكن ان تتعدد وهي قيمة مستقلة عن خدمة الاغراض الانسانية تلك هي القيمة الاخلاقية لارادة الخير والسلام .

بإختصار اقول اننا لكي نستذكر الفضائع الوطنية وغير الوطنية في العراق ، لابد لنا من احصائها وانتقاء منها ما يساعدنا على تخليد نماذج منها من خلال تدوينها وتوثيقها رقميا وكتابيا واقامة نصب تذكارية لضحاياها قبل 2003 وبعد 2003 وخلال سيطرة عناصر داعش على عدد من المحافظات العراقية  وهي نينوى وصلاح الدين والانبار بين 2014 و2017 لما لذلك من تأثير معنوي ايجابي على الناس وخاصة الضحايا وتأسيس ما يعرف بالذاكرة التاريخية الجماعية .

بوركت جهودكم من اجل تعميق مفاهيم العدالة الانتقالية وتهيئة المناخ الملائم لها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
____________________________
*البحث الذي قدمته في المؤتمر الدولي للعلوم الانسانية حول العدالة الانتقالية وسبل تحقيقها في العراق والشرق الاوسط والذي نظمته منظمة حكماء العراق للعدالة الانتقالية وجامعة جيهان في اربيل واتحاد الجامعات الدولي بين 12و13 من شباط 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...